إبان حملته الرئاسية لعام 2024، لم يُخفِ «دونالد ترامب»، نيّته تعزيز الإنتاج المحلي من النفط الخام، والغاز الطبيعي بشكل كبير، معتبرًا ذلك أحد الأعمدة الرئيسية في استراتيجيته الاقتصادية تحت شعار «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، فضلا عن وعوده بإجراء تغييرات جذرية في السياسة التجارية، وفرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات الأجنبية إلى السوق الأمريكية، وقد هدفت هذه السياسات مجتمعة إلى تمكين «واشنطن»، من فرض هيمنة مطلقة على حركة التجارة العالمية.
وكجزء مما وصفه بأنه حملة «مواجهة الفوضى الاقتصادية الناجمة عن السياسات الفاشلة للإدارة السابقة»؛ وقع في الأسابيع الأولى من عودته للسلطة العديد من الأوامر التنفيذية، التي تقلل من اللوائح المفروضة على إنتاج الوقود الأحفوري المحلي، بما في ذلك السماح بالتنقيب داخل أجزاء من الدائرة القطبية الشمالية، والتي تقع تحت سيطرة الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن تحقيق سياسات الطاقة الجديدة للبيت الأبيض تتجاوز الحدود الإقليمية للولايات المتحدة. وفي حديثه إلى كبار الشخصيات خلال «المنتدى الاقتصادي العالمي» – عبر الفيديو بعد أيام قليلة من تنصيبه – دعا منتجي «أوبك»، بمن فيهم دول مجلس التعاون الخليجي، إلى «خفض تكلفة النفط»، في خطوة تعكس توجهه نحو إعادة تشكيل سوق الطاقة العالمية، بما يخدم المصالح الاقتصادية الأمريكية، مؤكدا أن سعر النفط -حوالي 80 دولارًا للبرميل آنذاك - هو سبب مهم لاستمرار الحرب بين روسيا، وأوكرانيا.
لكن بحلول بداية أبريل 2025 -وبحسب وصف وكالة بلومبرج - تلقت السوق النفطية «ضربة مزدوجة»، تمثلت في فرض إدارة ترامب تعريفات جمركية مرتفعة على جميع الواردات الأجنبية إلى الولايات المتحدة، بالتوازي مع قرار «أوبك بلس» تسريع وتيرة زيادة إنتاجها بشكل يفوق ما أُعلن سابقًا. ونتيجة لذلك، شهدت أسعار النفط تراجعًا سريعًا نحو مستوى 70 دولارًا للبرميل، في أسرع هبوط لها منذ عام 2023.
من جانبه، أشار «وارن باترسون»، من مجموعة «آي إن جي»، إلى مدى صراحة «ترامب»، خلال رئاسته الأولى، بشأن حاجة «أوبك»، إلى ضخ المزيد من النفط» في الأسواق. إلا أنه ومع تزايد تقارب روسيا مع أعضاء المنظمة من خلال تحالف «أوبك بلس»، وارتفاع أسعار النفط المتعادلة ماليًا للدول الرئيسية، كتب في يناير2025، أنه لن تكون مهمة الرئيس العائد «سهلة» في إقناع أوبك بزيادة الإنتاج. ومع تأكيد «سيمون واتكينز»، من موقع «أويل برايس»، على رغبة الرئيس الأمريكي في «أسعار نفط أقل»، واستعداده لـ«الضغط على أوبك لخفض الأسعار»، فقد أثار احتمالًا بأن يكون مستعدًا «لإشعال حرب أسعار نفط جديدة بين أوبك والغرب».
وعقب أشهر من التأييد لزيادة إنتاج النفط والغاز المحلي الأمريكي خلال الحملة الرئاسية لعام 2024، تعهد في خطاب تنصيبه في 20 يناير 2025، بمواصلة الولايات المتحدة حفر المزيد من آبار النفط والغاز خلال السنوات الأربع المقبلة. وكما وثق «أوليفر ميلمان»، و«دارنا نور»، في صحيفة «الجارديان»، فمن خلال «سلسلة من الأوامر التنفيذية»، الصادرة في أسبوعه الأول بالسلطة، أوضح «دعمه لهيمنة الوقود الأحفوري»، و«إنهاء دعم واشنطن للطاقة النظيفة».
وفي إشارة إلى تعهده بخفض تكاليف الوقود للمستهلكين الأمريكيين إلى النصف، خلال العام الأول من رئاسته؛ أكد «واتكينز»، أن «ترامب لم يرغب قط في رؤية النفط فوق مستوى 75-80 دولارا للبرميل من خام برنت»، لكن خططه لزيادة الإنتاج المحلي الأمريكي بسرعة، وتشجيع مستويات إنتاج أعلى في الخارج؛ تُبين بشكل أكبر أنه «يريد أن يكون سعر النفط أقل من هذا في ولايته الثانية».
أما بالنسبة لمنتجي أوبك بلس، الذين وافقوا في ديسمبر2024 على تمديد تخفيضات إنتاجهم حتى مارس 2025 على الأقل قبل التخلص منها تدريجيا على مدار العام المقبل، فقد أعرب ترامب خلال المنتدى الاقتصادي العالمي عن «دهشته» من عدم تحركهم لخفض سعر النفط قُبيل عودته إلى المكتب البيضاوي.
وعلى الرغم من انخفاض العقود الآجلة للنفط الخام في الولايات المتحدة والعالم، بنحو 1% استجابة لتعليقاته في «المنتدى الاقتصادي العالمي»، مع استمرار سعر خام برنت في التحرك حول مستوى 78 دولارا للبرميل؛ فقد أشار «سبنسر كيمبال»، من شبكة «سي إن بي سي»، إلى أن أسعار النفط العالمية لا تزال تواجه «ضغوطا هبوطية»، ناجمة عن «وفرة الإنتاج في الولايات المتحدة، وتباطؤ الطلب من الصين».
وفي إشارة إلى الحرب في أوكرانيا، والتي صاغت إدارة ترامب خطة سلام مدتها 100 يوم بشأنها، زعم الرئيس الأمريكي أن منتجي النفط غير الغربيين «مسؤولون إلى حد ما» عن استمرار الصراع، بحجة أن «السعر مرتفع الآن بما يكفي لاستمرار هذه الحرب»، وأصر على أن خفض أسعار النفط العالمية هو فقط ما «سينهي هذه الحرب». وفي هذا الصدد، وبحسب «ديفيد أوكسلي»، من مؤسسة «كابيتال إيكونوميكس»، فإنه بالإضافة إلى تهديده لموسكو بفرض عقوبات ورسوم جمركية إضافية حال عدم موافقتها على محادثات السلام مع كييف؛ فإن «نيته الواضحة هي استخدام ورقة الطاقة كوسيلة ضغط على روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا».
وفي حين أن «لاندون ديرينتس»، من «المجلس الأطلسي»، و«ريتشارد مورنينغستار»، من «مركز الطاقة العالمي للشؤون الجيوسياسية وقضايا الطاقة الأوروبية»، قد أكدا أن «تأمين صفقة مواتية مع روسيا يتطلب الاستفادة الفعالة من القوة الأمريكية وحجم نفوذها»، بناءً على أن «السلام لا يتُحقق إلا من خلال القوة»؛ فإن «أوكسلي»، أشار إلى أن الدول المنتجة الأخرى في «أوبك»، «لن تضمن الاستجابة لطلب واشنطن زيادة إنتاج النفط، وتخفيض الأسعار العالمية» له، خاصة وأن ذلك ربما سيكون ضارًا بمصالحها الاقتصادية.
وفيما يتعلق بتأثيرات ذلك على سوق الطاقة العالمية، فقد تساءل «بن هول»، و«سام فليمنغ»، و«جيمس بوليتي»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، عن كيف أن «الانخفاض المطول في أسعار النفط»، لن يؤدي فقط إلى «التقويض» للاستثمارات السعودية المخطط لها في الاقتصاد الأمريكي، ولكن أيضًا «سيجعل من الصعب على حفارات النفط الأمريكية زيادة إمدادات النفط الخام بالسرعة التي يريدها ترامب».
وعلى الجانب الآخر، وبعيدًا عن الضغط على أعضاء أوبك؛ فقد تم الاعتراف بأن مزيجًا من زيادة الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب، مع مطالبة الدول الأخرى بتخفيض الأسعار؛ سيكون له أيضا آثار بعيدة المدى على سوق الطاقة العالمية.
ومع كون إنتاج النفط الأمريكي بالفعل عند مستويات قياسية –حيث توقعت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن يزداد متوسط الإنتاج الكائن بحوالي 13.2 مليون برميل يوميًا في عام 2024، إلى 13.5 مليون في 2025 – فإن قرار «إدارة ترامب»، السماح بالحفر في أراضي المحميات الطبيعية في منطقة ألاسكا بالقطب الشمالي يزيد بشكل كبير من الموارد المتاحة للمنتجين الأمريكيين.
ووثقت وكالة «رويترز»، كيف أن السهل الساحلي في تلك المنطقة التي تبلغ مساحتها 1.6 مليون فدان، والمحددة في الأمر التنفيذي لترامب والمعني بالتنقيب، بإمكانها «إطلاق العنان لإمكانات الموارد الاستثنائية للأسكا»، والتي «تقدر باحتوائها على ما يصل إلى 11.8 مليار برميل من النفط القابل للاسترداد تقنيا، وهو ما يكفي لتوفير إمدادات للولايات المتحدة لأكثر من عام ونصف بالأسعار الحالية».
أما فيما يتعلق بالغاز الطبيعي، فمع رفض أوروبا استيراد النفط والغاز الروسي خلال حرب أوكرانيا، ازداد اعتماد القارة بشكل كبير على صادرات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، حيث بات أكثر من نصف الشحنات الأمريكية موجهًا إلى أوروبا. وأكد «مورنينجستار»، و«ديرينتس»، أن «تكثيف الجهود لتقليص اعتماد أوروبا على الغاز الروسي»، سيكون -بالنسبة لإدارة ترامب - «استراتيجية رئيسية لتعزيز» ما وصفاه بـ«محرك حاسم لنمو الاقتصاد الأمريكي» في المرحلة الحالية.
وأضاف الباحثان أنه، نظرًا لأن سعة تصدير الغاز الطبيعي المسال الأمريكي من المتوقع أن تتضاعف بحلول 2028، فإنه من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى «تجاوز مستوى المعروض في السوق العالمية للغاز الطبيعي بحلول عام 2026»، ومن وجهة نظرهما، فإن «آلية التعامل مع ذلك من الولايات المتحدة يجب أن تكون من خلال نشر المزيد من الأدوات السياسية والتنظيمية»، والتي تشمل ليس فقط تقليل القيود المحلية على الإنتاج وتطوير البنية التحتية، بل أيضًا الاستمرار في توسيع العقوبات ضد المنافسين مثل روسيا.
وفي حين أعرب «ترامب»، عن أسفه لما اعتبره «قيودًا فرضها سلفه على قطاع الطاقة، وتنظيمات خانقة، وضرائب مستترة غير مسبوقة»، اتخذت إدارته خطوات سريعة لوضع الأسس اللازمة لزيادة إنتاج النفط والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
ومع استمرار واشنطن في هذا التوجه، إلى جانب تحقيق مستويات إنتاج قياسية بالفعل، شدد أيضًا على مطلبه بأن تقوم الدول الأخرى، لا سيما داخل «أوبك»، بخفض أسعارها من خلال زيادة الإنتاج من جانبها.
لكن مع شروع «إدارة ترامب»، في فرض شروطها الخاصة على منظومة التجارة العالمية، ورسم ملامح التجارة والاقتصاد خلال السنوات الأربع المقبلة، لا ينبغي التقليل من مدى إصرارها على المضي قدمًا في تنفيذ رؤيتها التي تقوم على شعار «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك