جزيرة عظيمة في مساحتها قليلة في سكانها، نائية وبعيدة عن أعين الناس واهتمام العالم وتغطيات وسائل الإعلام، ويعيش فيها مئات الآلاف من البشر حياة طبيعية بسيطة آمنة ووادعة، خالية من المفاجآت والمشكلات والهموم الدولية المتضاربة والمعقدة.
هذه هي جزيرة جرينلاند، أكبر جزيرة في العالم في القطب الشمالي، والتي جذبت الآن نحوها اهتمام دول العالم ووسائل الإعلام ووكالات الأنباء منذ أكثر من خمسة أشهر، فأصبحت هذه الجزيرة غير المعروفة من قبل، تحظى بتغطيات وسائل الإعلام، فتتصدر اليوم الصفحات الأولى من الصحف والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي.
وهذا الاهتمام غير المسبوق في تاريخ هذه الجزيرة جاء قبل أن يضع ترامب رجله في البيت الأبيض، وقبل موعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أعلن في السابع من يناير 2025 في المؤتمر الصحفي عن خططه للانقضاض على الدول بجميع الوسائل، وضمها إلى إمبراطورتيه الواسعة بحجج بالية ووهمية منها ضروريات الأمن القومي الأمريكي، وتعميم السلام والأمن على سطح الأرض، وحماية العالم الحر، من بينها جزيرة جرينلاند، وقناة باناما، إضافة إلى ضم كندا لتُصبح الولاية رقم (51) للولايات المتحدة الأمريكية. ثم أكد على نيته غزو هذه الجزيرة الوادعة في زيارة نجله أولاً، ثم نائبه عندما زار الجزيرة في 28 مارس وأكد على جدية ترامب في احتلالها بجميع الوسائل، مبرراً ذلك بنوايا روسيا والصين للاستيلاء عليها.
ومنذ ذلك الوقت، فلا يمضي يوم واحد وإلا نسمع اسم الجزيرة من ضمن أولويات وافتتاحية النشرات الإخبارية.
ولكن هناك حدثاً جديداً آخر برز في الأيام القليلة الماضية وشغل بال سكان هذه الجزيرة، غير أطماع ترامب التوسعية، وجذب أنظار العالم إليها، وتتمثل في المخلفات النووية المشعة المخزنة في أرض الجزيرة والتي بدأت تتراكم منذ سنوات، وتزيد أحجامها يوماً بعد يوم، فتهدد الأمن العام وسلامة السكان، وقد تتحول يوماً ما إلى قنبلة دمار شامل تنفجر في وجوههم، فتدمر بلادهم وتقضي على الأخضر واليابس.
فقد نشرت صحيفة الجارديان البريطانية تحقيقاً في 5 مارس 2025 تحت عنوان: «جرينلاند تُنهي استخراجها لليورانيوم خوفاً من المخلفات المشعة». وجاء في التحقيق بأن جزيرة جرينلاند أعطتْ ترخيصاً لشركة أسترالية مختصة في التعدين والتنقيب عن اليورانيوم منذ عام 2017، ولكن الحكومة الحالية في الجزيرة أوقفت عمليات الشركة وحظرت استخراج اليورانيوم في المنجم فوق جبال نارزاك (Narsaq)، الذي يحتوي على العناصر الأرضية النادرة مثل تربيم (Terbium) ونيوديميم (Neodymium) والتي تدخل في صناعة مكونات وأجزاء مصادر الطاقة النظيفة كإنتاج المواد المغنطيسية الدائمة في السيارات الكهربائية وتوربينات طاقة الرياح. هذا الحظر أضطر الشركة إلى رفع دعوى قضائية ضد قرار حكومة جرينلاند بقيمة 11.5 بليون دولار للتعويض عن الأضرار والخسائر المالية التي ستلحق بها.
فماذا حدث حتى غيَّرت الجزيرة رأيها بالنسبة لهذه العملية التنموية التي تدَّر عليها بالمال الوفير، والخير العميم، وتُحقق النمو الاقتصادي للسكان وترفع وتحسن من مستوى معيشتهم؟
هذه الجزيرة قرَّرت ألا تُكرر أخطاء الماضي، فلا تريد أن تقع في هفوات وزلات العقود الماضية، فقد تعلمت منها دروساً قاسية، وعبراً نافعة، فلا يُلدغ الإنسان العاقل والحكيم من جُحر مرتين. ففي العقود الماضية كانت العمليات التنموية تُركز كلياً على الجانب الاقتصادي البحت فقط، دون إعطاء أي اعتبار للجانبين البيئي والصحي، أي كانت تنمية اقتصادية أحادية الجانب، وأهملت كلياً وغفلت عن تحقيق التنمية البيئية، فلم تنجح بهذه السياسية المعوقة تحقيق الهدف الأسمى وهو التنمية المستدامة. فأعمال التنقيب عن المعادن الثقيلة، كالرصاص والخارصين واليورانيوم ولَّدت ملوثات خطيرة ومشعة انطلقت إلى الهواء والماء والتربة، فدمرت الإنسان والحياة الفطرية ومكونات البيئة برمتها. فالملوثات المشعة والسامة دخلت الهواء الجوي، ومنها انتقلت إلى أجسام البشر والحياة الفطرية البرية، كما صُرفت في المياه السطحية فتشبعت أجسام الكائنات البحرية بها فانتقلت في نهاية المطاف إلى أجسام سكان الجزيرة. كما لوثت مياه الشرب التي يعتمد عليها السكان في حياتهم اليومية. كذلك نجمت عن عمليات التنقيب مخلفات مشعة غازية، وشبه صلبة، وصلبة فسممت التربة، وعرَّضت حياة السكان للأمراض المستعصية. وهذه الملوثات المشعة تبقى بعضها آلاف السنين وهي تنبعث عنها اشعاعات مسرطنة تفسد صحة الناس وتجعلهم يقعون فريسة سهلة للأسقام والعلل المزمنة التي لا يرجى شفاؤها. والأدهى من ذلك والأمر هو المخلفات المشعة الصلبة الناجمة عن استخراج اليورانيوم، وهذه المخلفات مخزنة منذ عقود طويلة في مواقع هذه المناجم، وتعتبر قنابل دمار شامل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة.
ولذلك واجه سكان الجزيرة تحدياً صعباً ومعقداً، ووقفوا أمام معادلة شائكة تحتاج إلى توازن دقيق بين كل الاعتبارات والجوانب التنموية. فقد صوَّت سكان الجزيرة في الانتخابات العامة التي أُجريت عام 2021 على نوعية الحياة التي يريدون أن يعيشونها. فقد صوتوا للصحة بدلاً من المرض، وللحياة الآمنة السليمة بدلاً من حياة الأسقام والأحزان، وصوتوا من أجل بقاء الحياة الفطرية بكر عذراء صافية بدلاً من حياة فطرية امتلأت أعضاؤها بالملوثات المشعة والمسرطنة، كما صوت سكان الجزيرة على تحقيق التنمية المستدامة بدلاً من التنمية الاقتصادية فقط على حساب التنمية البيئية والصحية والاجتماعية.
فهذه الحالة التي واجهها سكان جزيرة جرينلاند ليست جديدة وليست وليدة اليوم، وليست حالة تعاني منها هذه الجزيرة لوحدها. فالإنسان منذ بدء الثورة الصناعية الأولى وبعد أكثر من 200 عام وهو في صراع دائم حتى يومنا هذا في كل دول العالم، ويتمثل في إحداث التوازن الدقيق بين التنمية الاقتصادية المستدامة وتحقيق الازدهار المالي للحكومات والشعوب، وبين تحقيق التنمية البيئية المستدامة، أي الوصول إلى معادلة متوازنة هي تنمية من دون تدمير، وإعمار بدون إفساد، وصحة بدون مرض.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك