العدد : ١٧١٨٢ - الثلاثاء ٠٨ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٢ - الثلاثاء ٠٨ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

مستقبل العالم العربي في ظل العدوان على غزة

بقلم: د. حسن نافعة

الثلاثاء ٠٨ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

شكّلت‭ ‬المواجهات‭ ‬المسلّحة‭ ‬مع‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬منعطفاتٍ‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭ ‬الرسمي،‭ ‬الذي‭ ‬تأسّس‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬قيام‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬عام‭ ‬1945‭. ‬يصدُق‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬خاضتها‭ ‬الجيوش‭ ‬العربية‭ ‬أعوام‭ ‬1948‭ ‬و1956‭ ‬و1967‭ ‬و1973،‭ ‬مثلما‭ ‬يصدُق‭ ‬على‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬تخوضها‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلّحة‭ ‬حالياً‭ ‬نيابةً‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الجيوش‭ ‬التي‭ ‬تخلّت‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬السلاح‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬منذ‭ ‬قرّر‭ ‬الرئيس‭ ‬المصري‭ ‬الراحل‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬أن‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ (‬1973‭) ‬‮«‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬آخر‭ ‬الحروب‮»‬‭.‬

‭ ‬وبوسع‭ ‬كلّ‭ ‬باحث‭ ‬مدقّق‭ ‬لما‭ ‬جرى،‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الجولات‭ ‬العسكرية،‭ ‬أن‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭ ‬الرسمي‭ ‬كان‭ ‬يخرُج‭ ‬في‭ ‬نهايتها‭ ‬مختلفا‭ ‬عمّا‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭. ‬فقد‭ ‬أدّت‭ ‬حرب‭ ‬1948‭ ‬إلى‭ ‬تغييرات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنامي‭ ‬الدور‭ ‬السياسي‭ ‬للجيوش‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬دول‭ ‬عربية،‭ ‬وازدياد‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بسبب‭ ‬رفض‭ ‬إسرائيل‭ ‬عودة‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬إلى‭ ‬ديارهم،‭ ‬وإصرارها‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬سحب‭ ‬قواتها‭ ‬إلى‭ ‬الحدود‭ ‬التي‭ ‬رُسمت‭ ‬للدولة‭ ‬اليهودية‭ ‬بموجب‭ ‬قرار‭ ‬التقسيم،‭ ‬الذي‭ ‬أصدرته‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬عام‭ ‬1947‭.‬

وبينما‭ ‬أدّت‭ ‬حرب‭ ‬1956،‭ ‬التي‭ ‬حقّقت‭ ‬فيها‭ ‬مصر‭ ‬انتصاراً‭ ‬سياسياً‭ ‬حاسماً،‭ ‬إلى‭ ‬تحوّل‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬العربي‭ ‬نظاماً‭ ‬راديكاليا‭ ‬يقوده‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر،‭ ‬ويهيمن‭ ‬عليه‭ ‬التيّار‭ ‬القومي‭. ‬تسببت‭ ‬حرب‭ ‬1967،‭ ‬التي‭ ‬منيت‭ ‬فيها‭ ‬جيوش‭ ‬ثلاث‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬بهزيمة‭ ‬ساحقة،‭ ‬في‭ ‬بروز‭ ‬نظام‭ ‬عربي‭ ‬اتسم‭ ‬بتراجع‭ ‬الدور‭ ‬المصري،‭ ‬وانتكاس‭ ‬التيّار‭ ‬العروبي،‭ ‬وصعود‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬وبزوغ‭ ‬نهج‭ ‬أكثر‭ ‬براجماتية‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬قضايا‭ ‬الصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي‭ (‬جسّده‭ ‬تبنّي‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬إزالة‭ ‬آثار‭ ‬العدوان‮»‬‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬استعادة‭ ‬الحقوق‭ ‬المغتصبة‮»‬‭).‬

‭ ‬أمّا‭ ‬حرب‭ ‬1973‭ ‬فقد‭ ‬انطوت‭ ‬على‭ ‬مفارقة‭ ‬مذهلة،‭ ‬جسّدها‭ ‬تناقض‭ ‬واضح‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬بشّرت‭ ‬به‭ ‬البدايات‭ ‬وما‭ ‬أفضت‭ ‬إليه‭ ‬النهايات‭. ‬ففي‭ ‬بداية‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬أخذ‭ ‬الجيشان‭ ‬المصري‭ ‬والسوري‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة،‭ ‬وحصلا‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬غير‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬إقليمي‭ ‬عربي،‭ ‬ظلّ‭ ‬دعمه‭ ‬متماسكاً‭ ‬وموحّداً‭ ‬خلفهما‭ ‬بشكل‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬مثيل،‭ ‬وفي‭ ‬نهايتها‭ ‬أصبح‭ ‬هو‭ ‬الوسيط‭ ‬المعتمد‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬وإسرائيل‭ ‬في‭ ‬مفاوضات‭ ‬مهّدت‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬السادات‭ ‬لزيارة‭ ‬القدس‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬1977،‭ ‬ثمّ‭ ‬لإبرام‭ ‬‮«‬معاهدة‭ ‬سلام‮»‬‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬1979،‭ ‬ثمّ‭ ‬إلى‭ ‬تفكّك‭ ‬وانهيار‭ ‬النظام‭ ‬الرسمي‭ ‬العربي‭ ‬تدريجيا‭.‬

قلب‭ ‬خروج‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬المعادلة‭ ‬العسكرية‭ ‬للصراع‭ ‬الطاولة‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬الجميع،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عاجزةً‭ ‬عن‭ ‬دفع‭ ‬الأمور‭ ‬نحو‭ ‬تسوية‭ ‬سلمية‭ ‬شاملة‭ ‬وعادلة‭ ‬للصراع،‭ ‬وأصبح‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مصر‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬عسكرية‭ ‬لاحقة‭ ‬ضدّ‭ ‬إسرائيل‭. ‬وبالتالي،‭ ‬أصبحت‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ (‬1973‭) ‬آخر‭ ‬الحروب‭ ‬بالفعل،‭ ‬بحكم‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع‭. ‬

هذا‭ ‬العجز‭ ‬المزدوج‭ ‬ترك‭ ‬فراغاً‭ ‬سارعت‭ ‬إيران‭ ‬إلى‭ ‬ملئه‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬النظام‭ ‬العربي،‭ ‬ومناوئة‭ ‬له‭ ‬وللمشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬وجود‭ ‬أوجه‭ ‬اختلاف‭ ‬عميقة‭ ‬بين‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬قبل‭ ‬خروج‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬معادلة‭ ‬الصراع‭ ‬المسلّح‭ ‬مع‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬وبعده‭. ‬فقبل‭ ‬هذا‭ ‬الخروج‭ ‬كانت‭ ‬الحروب‭ ‬تندلع‭ ‬بين‭ ‬جيوش‭ ‬نظامية‭ ‬عربية‭ ‬وجيش‭ ‬الكيان،‭ ‬أي‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬حروبا‭ ‬نظاميةً،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وعربية‭ - ‬إسرائيلية‭ ‬خالصة،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.‬

‭ ‬أمّا‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الخروج،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الحروب‭ ‬تندلع‭ ‬وتخاض‭ ‬بين‭ ‬جيش‭ ‬الكيان،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬و«فاعلين‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الدول‮»‬‭ ‬تجسّدهم‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلّحة،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭. ‬بل‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬حروبا‭ ‬عربية‭ - ‬إسرائيلية‭ ‬خالصة‭ ‬عقب‭ ‬دخول‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬خطّ‭ ‬المواجهة‭ ‬المباشرة،‭ ‬ولذا‭ ‬يسمّيها‭ ‬بعضهم‭ ‬‮«‬حروب‭ ‬بالوكالة‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬البداية،‭ ‬أخذ‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬شكل‭ ‬حروب‭ ‬محدودة‭ ‬تندلع‭ ‬في‭ ‬جبهة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مرّة،‭ ‬كالحرب‭ ‬التي‭ ‬شنّتها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬عام‭ ‬2006‭ ‬أو‭ ‬سلسلة‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬شنّتها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلّحة‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬أعوام‭ ‬2008‭ ‬و2012‭ ‬و2014‭ ‬و2021،‭ ‬لكنّها‭ ‬تحوّلت،‭ ‬بعد‭ ‬عملية‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى،‭ ‬حرباً‭ ‬شاملةً‭ ‬تشارك‭ ‬فيها‭ ‬جبهات‭ ‬متعدّدة،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الجبهة‭ ‬الإيرانية‭. ‬لذا،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الحرب‭ ‬المستعرة‭ ‬حالياً‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬مع‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬تشكّل‭ ‬تحوّلاً‭ ‬جذريا‭ ‬في‭ ‬أنماط‭ ‬المواجهات‭ ‬المسلّحة‭ ‬مع‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬مواجهات‭ ‬عربية‭ ‬إسرائيلية‭ ‬خالصة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لها‭ ‬تأثيرات‭ ‬خطيرة‭ ‬في‭ ‬مستقبل‭ ‬النظام‭ ‬العربي‭.‬

يصعُب‭ ‬قياس‭ ‬التأثيرات‭ ‬المحتملة‭ ‬لحربٍ‭ ‬لم‭ ‬تحسم‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬مستقبل‭ ‬هذا‭ ‬النظام،‭ ‬لكنّها‭ ‬ستكون،‭ ‬على‭ ‬الأرجح،‭ ‬محصّلةً‭ ‬لما‭ ‬سيجري‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬والفلسطينية‭ ‬والإيرانية‭ ‬والأمريكية‭ ‬في‭ ‬الشهور‭ ‬القليلة‭ ‬المقبلة‭.‬

‭ ‬أولاً،‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬يعتقد‭ ‬نتنياهو‭ ‬أنه‭ ‬حقّق‭ ‬بالفعل‭ ‬إنجازات‭ ‬ضخمة،‭ ‬وبات‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬تحقيق‭ ‬نصر‭ ‬حاسم‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬تغيير‭ ‬الأوضاع‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬ككل‭. ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬معادلة‭ ‬الصراع‭ ‬نهائياً،‭ ‬وأسقط‭ ‬نظام‭ ‬بشّار‭ ‬الأسد،‭ ‬وفكّك‭ ‬معظم‭ ‬البنى‭ ‬العسكرية‭ ‬لجميع‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلّحة،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬غزّة‭ ‬وحدها،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬أيضاً،‭ ‬وأصبحت‭ ‬إيران‭ ‬بلا‭ ‬نظام‭ ‬للدفاع‭ ‬الجوي‭ ‬الذي‭ ‬حُطّم‭ ‬في‭ ‬ضربة‭ ‬وجهّت‭ ‬إليه‭ ‬أخيراً،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬إيران‭ ‬أن‭ ‬تردّ‭ ‬عليها‭. ‬

ولذا،‭ ‬لم‭ ‬يتبقَّ‭ ‬أمام‭ ‬نتنياهو‭ ‬سوى‭ ‬التغلّب‭ ‬على‭ ‬عقبتَين‭ ‬كي‭ ‬يتحقّق‭ ‬له‭ ‬النصر‭ ‬النهائي‭ ‬أو‭ ‬المطلق،‭ ‬الأولى،‭ ‬نزع‭ ‬سلاح‭ ‬حركة‭ ‬حماس،‭ ‬وترحيل‭ ‬قياداتها‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬واستعادة‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬المحتجزين،‭ ‬وكلّها‭ ‬أهداف‭ ‬باتت‭ ‬قابلةً‭ ‬للتحقيق‭ ‬بالقوة‭ ‬العسكرية‭ ‬المفرطة،‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬ترامب‭ ‬أخيراً‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬أخضر‭ ‬لاستعمالها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬انتهاكه‭ ‬اتفاق‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار،‭ ‬وقراره‭ ‬استئناف‭ ‬العدوان‭.‬

‭ ‬والثانية‭ ‬تدمير‭ ‬القدرات‭ ‬الإيرانية،‭ ‬ممثّلة‭ ‬في‭ ‬برنامجيها‭ ‬النووي‭ ‬والصاروخي‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يأمل‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مساعدة‭ ‬من‭ ‬ترامب‭ ‬لتحقيقه،‭ ‬وبعدها‭ ‬سيكون‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬يتيح‭ ‬له‭ ‬إملاء‭ ‬كلّ‭ ‬شروطه‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬الأجندة‭ ‬السياسية‭ ‬لأكثر‭ ‬الأجنحة‭ ‬السياسية‭ ‬تطرّفا‭ ‬في‭ ‬حكومته،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬ضمّ‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬والتحكّم‭ ‬أمنيا‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة،‭ ‬وربّما‭ ‬إعادة‭ ‬احتلاله‭ ‬بعد‭ ‬تهجير‭ ‬سكّانه،‭ ‬وتطبيع‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬أخرى،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬نتنياهو‭ ‬ليس‭ ‬ممهّداً‭ ‬بالكامل‭ ‬لتحقيق‭ ‬هذه‭ ‬الأحلام،‭ ‬بسبب‭ ‬المعارضة‭ ‬الداخلية‭ ‬المتنامية‭ ‬التي‭ ‬قرّر‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬حاسمة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬إصراره‭ ‬على‭ ‬إقالة‭ ‬رئيس‭ ‬الشاباك‭ ‬رونين‭ ‬بار‭ ‬والمستشارة‭ ‬القضائية‭ ‬جالي‭ ‬بهراف‭ ‬ميارا‭.‬

ثانياً،‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬حقّقت‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بقيادة‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬إنجازات‭ ‬هائلة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬‮«‬الطوفان‮»‬‭ ‬ذاتها‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ملحمة‭ ‬الصمود،‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬17‭ ‬شهرا،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬قادرةً‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬القتال‭ ‬والإمساك‭ ‬بورقة‭ ‬الأسرى‭ ‬المهمة‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬من‭ ‬تضحيات‭ ‬هائلة‭. ‬ولأنها‭ ‬باتت‭ ‬مُجبرةً‭ ‬على‭ ‬القتال‭ ‬وحدها،‭ ‬رغم‭ ‬أهمية‭ ‬الإسناد‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يُقدَّم‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الحوثيين‭ ‬في‭ ‬اليمن،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬تتعرّض‭ ‬لضغوط،‭ ‬ربّما‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬طاقتها‭ ‬على‭ ‬الاحتمال،‭ ‬خصوصا‭ ‬ضغوط‭ ‬الإبادة‭ ‬والتجويع‭ ‬والتهجير‭ ‬القسري‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬إسرائيل‭ ‬حالياً‭ ‬على‭ ‬حاضنتها‭ ‬الشعبية،‭ ‬والضغوط‭ ‬النفسية‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬تخاذل‭ ‬الشعوب‭ ‬والأوضاع‭ ‬العربية،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬الضغوط‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬آلة‭ ‬الحرب‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬حالياً‭. ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬أظهرته‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬من‭ ‬حِنكة‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬ملفّ‭ ‬الأسرى،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬مطالبة‭ ‬الآن‭ ‬بالاستسلام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬قيد‭ ‬أو‭ ‬شرط،‭ ‬عبر‭ ‬تسليم‭ ‬الرهائن‭ ‬وإلقاء‭ ‬السلاح‭ ‬ورحيل‭ ‬قادتها‭ ‬خارج‭ ‬الأراضي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نعتقد‭ ‬أنها‭ ‬ستقبله‭ ‬مطلقاً،‭ ‬وستفضّل‭ ‬مواصلة‭ ‬الصمود‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الإيرانية‭ (‬ثالثاً‭)‬،‭ ‬فتدرك‭ ‬طهران‭ ‬جيّداً‭ ‬أن‭ ‬الخناق‭ ‬بدأ‭ ‬يضيق‭ ‬حولها،‭ ‬خصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬رسالة‭ ‬التهديد‭ ‬التي‭ ‬وجّهها‭ ‬ترامب‭ ‬أخيراً‭ ‬إلى‭ ‬المرشد‭ ‬الأعلى،‭ ‬التي‭ ‬ينذره‭ ‬فيها،‭ ‬ليس‭ ‬بمواصلة‭ ‬سياسة‭ ‬العقوبات‭ ‬القصوى‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬باللجوء‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬خيارات‭ ‬أخرى‮»‬،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تقبل‭ ‬طهران‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬مفاوضات‭ ‬تؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬جديد‭ ‬خلال‭ ‬شهرَين‭. ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬تقبل‭ ‬إيران‭ ‬بالتفاوض،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬اقتصار‭ ‬جدول‭ ‬أعمال‭ ‬المفاوضات‭ ‬المقترحة‭ ‬على‭ ‬ضمان‭ ‬سلمية‭ ‬برنامجها‭ ‬النووي،‭ ‬أمّا‭ ‬إذا‭ ‬أصرّ‭ ‬ترامب‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تشمل‭ ‬المفاوضات‭ ‬برامجها‭ ‬التسليحية،‭ ‬خصوصاً‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بإنتاج‭ ‬الصواريخ‭ ‬والمسيّرات،‭ ‬ومطالب‭ ‬تتعلّق‭ ‬بإعادة‭ ‬صياغة‭ ‬علاقاتها‭ ‬الإقليمية،‭ ‬يعتقد‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تقبل‭ ‬مطلقاً،‭ ‬ولديها‭ ‬أوراق‭ ‬قابلة‭ ‬للاستخدام،‭ ‬كالاعتماد‭ ‬على‭ ‬قواها‭ ‬الذاتية‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬بكلّ‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭. ‬وفي‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬يؤدّي‭ ‬توجيه‭ ‬ضربة‭ ‬عسكرية‭ ‬إلى‭ ‬إيران‭ ‬إلى‭ ‬المخاطرة‭ ‬باندلاع‭ ‬حرب‭ ‬إقليمية‭ ‬شاملة،‭ ‬وربّما‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬ثالثة‭.‬

رابعاً،‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬المجال‭ ‬يتّسع‭ ‬لتفصيلٍ‭ ‬أكثر‭ ‬حول‭ ‬الخيارات‭ ‬المتاحة‭ ‬أمام‭ ‬ترامب‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬فقد‭ ‬منح‭ ‬ترامب‭ ‬نتنياهو‭ ‬ضوءاً‭ ‬أخضرَ‭ ‬ليفعل‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬ويراه‭ ‬ضرورياً‭ ‬لمصلحة‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنه‭ ‬بات‭ ‬يتبنّى‭ ‬بالكامل‭ ‬أجندة‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرّف‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نغفل‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬الجانب‭ ‬البراجماتي‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬ترامب‭ ‬قد‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬التضحية‭ ‬بنتنياهو،‭ ‬وتفضيل‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬قيادة‭ ‬إسرائيلية‭ ‬بديلة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬أحسّ‭ ‬ترامب‭ ‬أن‭ ‬الداخل‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬ضاق‭ ‬به‭ ‬ذرعاً،‭ ‬وأصبحت‭ ‬سياساته‭ ‬لا‭ ‬تعرّض‭ ‬أرواح‭ ‬الأسرى‭ ‬المحتجزين‭ ‬لدى‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬فحسب‭ ‬للخطر،‭ ‬وإنما‭ ‬تعرّض‭ ‬المصالح‭ ‬الأمريكية‭ ‬نفسها‭ ‬للخطر‭ ‬أيضا‭.‬

الخلاصة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬العربي‭ ‬أضعف‭ ‬نفسه،‭ ‬واستهتر‭ ‬بمصالح‭ ‬شعوبه‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬المواجهة‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬يتعرّض‭ ‬فيها‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لمذابح‭ ‬يومية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬اكتفى‭ ‬بدور‭ ‬المتفرّج‭ ‬أو‭ ‬بدور‭ ‬الوسيط‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬الفروض،‭ ‬وحين‭ ‬تعامل‭ ‬مع‭ ‬‮«‬حماس‮»‬،‭ ‬وفصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬خصماً‭ ‬سياسياً‭ ‬وليس‭ ‬طرفاً‭ ‬مقاوماً‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وعن‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬العربي،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مشروع‭ ‬سياسي‭ ‬ديني‭ ‬عنصري‭ ‬يستهدف‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬برمّتها‭. ‬إذا‭ ‬هزمتْ‭ ‬‮«‬حماس‮»‬،‭ ‬فسيكون‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬أكبر‭ ‬الضحايا‭ ‬والخاسرين،‭ ‬وعلى‭ ‬العرب‭ ‬مواجهة‭ ‬الأطماع‭ ‬التوسعية‭ ‬الاستعمارية‭ ‬للتحالف‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬الأمريكي‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا