حظيت الأوامر التنفيذية والإجراءات التي اتخذها الرئيس دونالد ترامب باهتمام كبير، كما شهدنا تغطية إعلامية واسعة النطاق لقرار الرئيس ترامب بدعم أوامر إيلون ماسك الرامية إلى تقليص القوى العاملة الفيدرالية؛ وإغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية؛ وخطط الترحيل الجماعي.
وتشمل هذه الإجراءات طلب اللجوء؛ وفرض الرسوم الجمركية؛ وحجب التمويل المخصص من قبل الكونجرس؛ وحظر «التنوع والمساواة والإدماج»؛ وتحدي أوامر المحكمة، مدعيا أن السلطة القضائية لا يمكن أن تقيد الرئاسة.
ربما يكون القرار الأبعد أثرًا، وسط زخم أوامر ترامب التنفيذية، هو «إنهاء التلقين المتطرف في التعليم من الروضة إلى الصف الثاني عشر». يكشف هذا القرار عن نية ترامب في التراجع عن مكاسب نصف القرن الماضي التي حققها المؤرخون، لتقديم صورة أكثر دقة للتاريخ الأمريكي والعالمي.
ويصف الرئيس ترامب هذه الجهود بأنها «معادية لأمريكا، وتخريبية، وضارة، وكاذبة»، ويطالب بدلا من ذلك بـما يسميه «التعليم الوطني» «لغرس الإعجاب الوطني بأمتنا الرائعة» - أي لتدريس التاريخ الذي تعلمناه قبل ثلاثة أجيال.
إلى حدود أوائل ستينيات القرن العشرين، كانت المدارس الأمريكية تُدرّس «تاريخًا عالميًا» أوروبيًا. بدأ الأمر بإنسان العصر الحجري (في أوروبا)، ثم الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، والإمبراطورية الرومانية المقدسة، و«العصور المظلمة»، وظهور الدول القومية في أوروبا.
ويركز الكتاب بعد ذلك على اكتشاف العالم الجديد، والقرون الأولى للولايات المتحدة (أي «محاربة الهنود» والحرب الأهلية حول «حقوق الولايات»)، والثورة الصناعية، والحربين العالميتين اللتين تخللتهما فترة الكساد الاقتصادي الأعظم، والتحديات التي فرضها الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة.
وفي هذه الرواية لتلك الأحداث، كانت الولايات المتحدة بمثابة تجسيد للتاريخ، وناقلة لقيم مثل الحرية والديمقراطية، وكما كانت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت تحب أن تقول، «الأمة التي لا غنى عنها».
لم يُذكر التاريخ الإفريقي أو الحضارة الإسلامية. أما المحتوى الموجز عن الصين، فقد ارتبط بما يسمى «انفتاح» ماركو بولو على الغرب. ولم يُذكر العرب إلا في فقرة قصيرة عن تكيف البدو مع ظروف العيش القاسية، إلى جانب سكان لابلاند في تندرا شمال أوروبا.
لقد تم تشويه التاريخ الأمريكي وتحويله إلى قصص وفصول رومانسية. ولم تتم إعارة العبودية والإبادة الجماعية وسرقة الأراضي المرتكبة ضد السكان الأصليين في أمريكا الشمالية اهتمامًا يُذكر.
ونتيجةً للثورة الثقافية في ستينيات القرن الماضي، التي حفزتها حركات الحقوق المدنية، ثم حركات مناهضة حرب فيتنام، تغيّرت الأمور. وازدهرت حركات اجتماعية وسياسية، بما في ذلك حركات تحرير المرأة والاهتمام بالبيئة.
أدى اتساع الوعي الذي أحدثته هذه الفترة إلى إعادة النظر في التاريخ الأمريكي ومكانتنا في العالم، والتركيز على تاريخ السود والأمريكيين الأصليين والنساء، وتوسيع نطاق التاريخ العالمي ليشمل وجهات نظر شعوبٍ كانت مهملةً سابقًا. وبدلًا من خلق تواريخ منفصلة، سعت الجهود إلى كتابة تاريخ بشري أكثر اكتمالًا وتكاملًا.
وبطبيعة الحال، فقد قوبلت هذه الحرب على التاريخ برفض من المحافظين الذين سعوا إلى إحياء أساطير الماضي. وكانت أولى طلقات ترامب في هذه الحرب على التاريخ خلال ولايته الأولى إدانة «مشروع 1619» الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز.
سلّط هذا المشروع الضوء على دور المستوطنين الأوروبيين الغزاة في أمريكا وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبوها بحق الشعوب الأصلية التي واجهوها، وتأسيس مشروع العبودية المدمر للغاية في العالم الجديد وإرثه الخالد. ردّ ترامب بـما سماه «مشروع 1776» ساعيًا إلى إعادة إحياء أسطورة أمريكا المجرّدة من جانبها المظلم.
يُعدّ الأمر التنفيذي الجديد لترامب أحدثَ تكرارٍ لهذه الحرب على التاريخ. إذ يندد بـما يسميه «التطرف المعادي لأمريكا» الذي يدّعي أنه يُعلّم أن الولايات المتحدة «عنصريةٌ أو متحيزةٌ جنسيًا أو تمييزيةٌ بشكلٍ جوهري»، ويدعو إلى «وصفٍ دقيقٍ وصادقٍ وموحّدٍ ونبيلٍ لتأسيس أمريكا» و«الاحتفاء بعظمة أمريكا وتاريخها».
ثم دعا ترامب إلى «إعادة تأسيس اللجنة الاستشارية الرئاسية 1776 وتعزيز التعليم الوطني» لتشجيع التعلم الوطني وتمجيد معارك أمريكا وأبطال الحرب الأمريكيين.
يُلزم هذا القانون جميع المؤسسات التعليمية التي تتلقى تمويلًا فيدراليًا بتقديم برامج تعليمية وطنية محددة، وأن تُراقب «الجهات الحكومية المعنية» الامتثال لهذا الشرط. (افعل ما نطلبه وإلا ستفقد تمويلك).
هذا ليس أمرا جيدا، بل إنه من أبرز سمات الحكم الاستبدادي الفاشي الذي يغرس معتقدات عامة الناس باسم ما يسمى «تمجيد الأمة». تنبأ الكاتب الأمريكي الشهير سنكلير لويس بأن «الفاشية ستصل إلى أمريكا ملفوفة في علم وحاملة للصليب».
لذا يجب الانتباه إلى الأمر التنفيذي للرئيس ترامب، لأنه يمثل خطوةٌ مُقلقةٌ في هذا المسار الخطير الذي ستكون له عواقب وخيمة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك