تأتي الميزانية العامة لمملكة البحرين، التي صادق عليها جلالة الملك، بموجب القانون رقم 11 لسنة 2025 لاعتمادها للعامين 2025 و2026، بعد موافقة مجلسي الشورى والنواب؛ ضمن إطار «رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، حيث تهدف إلى تلبية احتياجات الحكومة في تنفيذ برامج خطة التعافي الاقتصادي 2022-2026، بما يعزز مسار التنمية المستدامة، مع ضمان تحقيق التوازن المالي.
وكان العنوان الأبرز لهذه الميزانية هو المواطن أولاً، وجاء إقرارها بعد مناقشات مستفيضة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بدأت من أكتوبر 2024، واستمرت حتى مارس 2025، وجاء هذا الإقرار معبرا عن توافق السلطتين على المبادئ الحاكمة لبنود الميزانية وتفصيلاتها، وشملت هذه المبادئ عدم رفع نسبة القيمة المضافة، وإضافة الزيادة السنوية للمتقاعدين بالإبقاء على زيادة علاوة تحسين المعيشة للمتقاعدين التي تم إضافتها في ميزانية 2023 و2024، ورفع مبلغ علاوة تحسين المعيشة للمتقاعدين في الميزانية الجديدة. فيما شهدت أيضا تخصيص أضخم موازنة للدعم الحكومي المباشر، بلغت نحو 1.6 مليار دينار بحريني، بزيادة بلغت 58% عن الميزانية السابقة 2023 و2024، والتي كان مبلغ الدعم فيها قرابة المليار دينار.
وفي هذه الميزانية، حظي قطاع الإسكان بأكبر تمويل في تاريخه، حيث تم تخصيص 800 مليون دينار، منها 396.3 مليون دينار لعام 2025، و399.9 مليون دينار لعام 2026؛ بهدف تعزيز الخدمات الإسكانية للمواطنين، وتقليص قوائم الانتظار، مع التركيز على تحقيق فورية الحصول على الخدمة الإسكانية. وفي إطار الشراكة مع القطاع الخاص، وتخفيف الضغط على بنود الإنفاق في الميزانية العامة، تساهم الميزانية بمبلغ 160 مليون دينار من إجمالي التمويل، بينما يسهم كل من برنامج الدعم الخليجي، وبنك الإسكان بـ 636 مليون دينار. ويأتي هذا التمويل الضخم لتمكين «وزارة الإسكان والتخطيط العمراني»، من تنفيذ 3754 وحدة سكنية في مدن (سلمان، والحد، وسترة، وخليفة)، بالإضافة إلى تطوير المحرق، وأعمال البنية التحتية والخدمات ذات الأولوية في المدن الإسكانية. كما يدعم التوسع في برنامج «حقوق تطوير الأراضي»، عبر تنفيذ 11 مشروعًا في مختلف المحافظات، بإجمالي 4123 وحدة قابلة للزيادة. وفي سياق تعزيز الخدمات الإسكانية التي تقدمها الحكومة، خصصت الميزانية 107 ملايين دينار لعلاوة الإسكان، و8 ملايين دينار لتخفيض الأقساط الإسكانية، بما يسهم في تحسين جودة الحياة للمواطنين، وتعزيز الاستقرار السكني.
وارتباطًا بالتطوير العمراني والتوسع الاقتصادي، يأتي الإنفاق على تطوير واستدامة البنية التحتية، حيث خصصت له الميزانية 364 مليون دينار، بزيادة بلغت 96% عن ميزانية 2023 و2024، ويأتي ذلك لتنفيذ ثمانية مشاريع استراتيجية، من بينها الجسر الرابع الرابط بين المحرق والمنامة، فضلاً عن توسعة وتطوير شوارع رئيسية، بما يكفل سهولة الحركة المرورية، ومشروعات الصرف الصحي، وصولاً إلى هدف 100% اتصال العقارات بشبكة الصرف الصحي، إضافة إلى مشروعات البلديات والزراعة في إنشاء، وإعادة تأهيل الحدائق والمماشي والسواحل العامة والأسواق، كما يشمل تطوير البنية التحتية التوسع في المباني التعليمية بعدد 5 مدارس و4 مبان أكاديمية، وصيانة 80 مدرسة والتوسع في صفوف الدمج بعدد 13 صفا إضافيا.
ولم يكن التوسع في تنفيذ برامج الإسكان الاجتماعي الذي يتواكب مع المبادرة الملكية الأخيرة لتنفيذ 50 ألف وحدة سكانية في أقصر مدة ممكنة، هو الوحيد في برامج الحماية الاجتماعية التي تتكفل بها الحكومة، فضمن بنود الدعم الحكومي المباشر جاءت الميزانية الجديدة بمبادرة جديدة، هي استحداث حساب خاص، تحت مسمى «حساب المواطن»، خصصت له 312.6 مليون دينار للسنة الأولى، و311.6 مليون دينار للسنة الثانية، ما يعني إعطاء الحكومة المرونة الكافية للتدخل الطارئ دعمًا للمواطن البحريني.
بالإضافة إلى ذلك، فقد زادت مخصصات علاوة تحسين مستوى المعيشة زيادة كبيرة بقيمة 241 مليون دينار عن 2023 و2024، ليبلغ إجمالي المبالغ المرصودة لهذا البند 596 مليون دينار، وفي باب الدعم المباشر -فضلاً عما ذكرناه من دعم علاوة السكن- وفرت الميزانية 32.4 مليون دينار لدعم الإعانات الغذائية، وفي حال تعديل أسعار السلع المدعومة أثناء دورة الميزانية يتم دعم ذوي الدخل المحدود من المواطنين بمبلغ نقدي مباشر، كما خصصت الميزانية 44 مليون دينار للضمان الاجتماعي، و45.4 مليون دينار للصندوق الاجتماعي الوطني.
وفي مجال التعليم، اتجهت الميزانية لدعم هذا القطاع بالكفاءات البحرينية، وتطوير المناهج الدراسية، والتوسع في الخدمات التعليمية، ومواصلة تنفيذ مشاريع البنية التحتية التي تشمل إنشاء مدارس جديدة تخدم التوسع في المدن الإسكانية الجديدة، وتطوير وإعادة افتتاح عدد من المدارس التاريخية، وإنشاء مباني أكاديمية في المدارس، وخصصت الميزانية 60 مليون دينار لدعم جامعة البحرين، و9.5 مليون دينار لكلية البحرين للمعلمين لزيادة طاقتها الاستيعابية بنسبة 20%، دعمًا للميدان التربوي بكفاءات بحرينية، هذا فضلاً عن تخصيص 38.6 مليون دينار لبوليتيكنيك البحرين، وفي قطاع الخدمات الصحية استهدفت الميزانية تحسين جودة الخدمات الصحية للمواطنين والمقيمين، بتمويل وبرامج ومشاريع القطاع الصحي بـ 688 مليون دينار بحريني.
وفيما أكدت رؤية البحرين الاقتصادية 2030، على أهمية توفير فرص عمل واعدة للمواطنين، وضمنت خطة التعافي الاقتصادي هذا الهدف، فإن مشاريع وبرامج «وزارة العمل»، للميزانية الجديدة 2025 و2026، تسعى لتوظيف 25 ألف بحريني سنويًا من بينهم 8 آلاف داخلين جدد لسوق العمل، وإنشاء فرق تسويق لرفد بنك الشواغر بوظائف نوعية، لاستمرار توفير الوظائف الملائمة للباحثين عن عمل، وإنشاء منصة لتوفير فرص الترقي للعمالة البحرينية في القطاع الخاص، تسهل الراغبين في الانتقال من عمل إلى آخر بما يفسح المجال لغيرهم لشغل الشواغر.
وفي هذا الإطار، أظهرت معدلات أجور البحرينيين في القطاع الخاص -وهي مدعومة من الحكومة- ارتفاعًا بمعدل 124% ما بين عامي 2005 و2024، من متوسط 381 دينارا إلى متوسط 853 دينارا شهريًا، كما تضمنت برامج وزارة العمل تدريب 15 ألف بحريني سنويًا، وإطلاق منصة متخصصة في التدريب في 2026، فيما تؤكد مكان المواطن البحريني كخيار أفضل في سوق العمل، وتدعم توظيف المرأة البحرينية في مؤسسات القطاع الخاص، كما تدعم توظيف المعاقين فيه، وتستمر في تقديم الحوافز والدعم للقطاع الخاص في مجال البحرنة، فيما يتجه صندوق العمل تمكين في 2025 و2026 إلى تخصيص 280 مليون دينار لتمويل برامج فرص التوظيف والتطور الوظيفي التي تستهدف 50 ألف بحريني سنويًا؛ منهم في مجال التطوير الوظيفي 37 ألفا، عبر برامج زيادة الأجور، وتوظيف القيادات، والشهادات الاحترافية، والتدريب المتخصص، ناهيك عن استهداف تطوير 9 آلاف مؤسسة قطاع خاص.
وعلى طريق التنمية المستدامة، ولأن ثروة البلاد النفطية في رؤية جلالة الملك، ليست حكرًا على الجيل الحالي؛ فأنشأ من إيراداتها مخصص حساب احتياطي الأجيال القادمة في الميزانية العامة للدولة، فقد خصصت له الميزانية الجديدة 37.2 مليون دينار.
وحظي الإنفاق الاجتماعي بأولوية في الميزانية العامة، بهدف تمكين المواطن البحريني من العيش بمستوى حياة كريمة، برغم ما قد يؤدي إليه هذا الإنفاق من عجز في الميزانية، فبينما تقدر الإيرادات العامة الإجمالية للميزانية بنحو 6.4 مليارات دينار بحريني، تقدر المصروفات الإجمالية بنحو 8.9 مليارات دينار، أغلبها مصروفات متكررة (نحو 8.4 مليارات دينار)، فيما تقدر مصروفات المشاريع بـ 550 مليون دينار، ليكون العجز المقدر في الميزانية نحو 2.5 مليار دينار، ويغطى هذا العجز بالاقتراض من المؤسسات المالية والصناديق العربية والإسلامية، ما يعني رفع سقف الدين العام.
وخلال المناقشات مع مجلس النواب، قدمت الحكومة عددًا من المبادرات الهادفة إلى تقليص العجز في الميزانية، شملت تعديل أسعار الغاز الطبيعي على الشركات والمصانع، وتحرير أسعار الوقود والكهرباء، واستحداث رسوم على الانبعاثات الكربونية للمصانع. كما تضمنت زيادة إيرادات ضريبة القيمة المضافة، ورفع الضرائب الانتقائية على الأغذية غير الصحية، إلى جانب استحداث رسوم لدعم استدامة البنية التحتية، كما شملت الإجراءات أيضًا تطبيق نظام الضمان الصحي، مترافقًا مع فرض رسوم على التأمين الصحي والصرف الصحي، مع التأكيد على عدم المساس بالسكن الأول للمواطن، حفاظًا على استقرار معيشته.
ويأتي العجز المُقدر في الميزانية نتيجة تقدير سعر برميل النفط عند 60 دولارا للبرميل، وهو سعر متحفظ، فيما تشير آفاق السوق النفطية في ضوء الاضطرابات الجيوسياسية، وارتفاع الطلب على النفط؛ إلى إمكانية أن يرتفع هذا السعر، ومن ثم تقليل العجز، فيما تضمنت مبادئ الميزانية لخفض الإنفاق دون المساس بأولوية المواطن، خفض المصروفات التشغيلية في الجهات الحكومية.
ويستهدف برنامج رفع كفاءة المصروفات المتكررة بالوزارات والجهات الحكومية، خفضها بنسبة 5% كحد أدنى، وتعزيز كفاءة ميزانية المشاريع، وضبط المصروفات المتعلقة بالقوى العاملة، وتعزيز كفاءة وعدالة الدعم الحكومي المباشر لمستحقيه من المواطنين، ومساهمة الشركات العامة المملوكة للحكومة، ومراجعة السلع والخدمات المقدمة للشركات، ومبادرات تنمية الإيرادات الحكومية، ومؤداها تقليل الاقتراض، ومن ثم خفض فوائد الدين العام المقدرة بنحو 25% من نفقات الميزانية.
وتُبرز الميزانية الجديدة مدى التقدم الذي أحرزته المملكة في تنويع اقتصادها، حيث لم يعد هذا الاقتصاد اقتصادا ريعيا، فلم تعد الإيرادات النفطية هي المهيمنة على إيرادات الميزانية، حيث قدرت الإيرادات غير النفطية لعام 2025 بمبلغ 1.4 مليار دينار، ومثلها تقريبًا للإيرادات النفطية. وفي عام 2026 زاد وزن الإيرادات غير النفطية ليبلغ 1.8 مليار دينار، في مقابل 1.6 مليار دينار للإيرادات النفطية، ما يعني أن المملكة تسير بمنهاج واضح على خطى النمو المستدام غير المرتكز على الإيرادات النفطية.
على العموم، جاءت الميزانية الجديدة تحقق رضا المواطن البحريني، وتعزز حصوله على حياة كريمة، مع الحرص على عدم تحميله تكاليف إضافية. ومن خلال تركيزها على تعزيز قواعد التنمية البشرية الثلاث: التعليم، والصحة، والدخل، جاءت متوازنة، حيث اعتمدت بنسبة 50% على الإيرادات غير النفطية، مقابل نسبة مماثلة للإيرادات النفطية، مما يعزز جهود المملكة في مسار التنمية المستدامة.
ورغم التحديات، لم تلجأ الميزانية إلى إجراءات اقتصادية قاسية بغية تحقيق التوازن بين الإيرادات والمصروفات، حيث كان البعد الاجتماعي هو الأبرز أثناء إعدادها وإقرارها. فيما يقتضي تحقيق الاستمرارية والاستدامة لهذا النهج تعاونًا وثيقًا بين أضلاع التنمية الثلاثة: الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني؛ لجهة السيطرة على العجز وتقليصه إلى أدنى الحدود الممكنة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك