نسمع طوال الوقت عن أهمية الفحوصات الدورية، الطعام الصحي، وممارسة الرياضة، لكن هل فكرنا يوما في علاقتنا الحقيقية مع صحتنا؟ هل نراها أولوية فعلية، أم أنها تبقى في الهامش حتى يفرض الجسد كلمته؟
في أجواء الحزن الصامتة لمجالس العزاء، تتردد على مسامعنا الحكاية عينها، لكن بأسماء مختلفة. شخص كان يشعر بإرهاق بسيط فلم يهتم، وآخر تعايش مع الصداع المستمر دون أن يبحث عن أسبابه، وثالث ظل يؤجل فحصه الدوري حتى ساءت حالته فجأة. تتكرر التفاصيل بصوت منخفض وندم متأخر، وكأنها حكاية مرت وانتهت، لكنها في الحقيقة كانت إنذارًا واضحا لم يلتفت إليه إلا بعد فوات الأوان.
الحديث عن الصحة لا ينقصه التوعية، بقدر ما يحتاج إلى التطبيق. نعرف جميعا أهمية العناية بأنفسنا، لكننا نتصرف وكأن الجسد سيظل يعمل بكامل طاقته مهما أهملناه. نؤجل المواعيد، نتجاهل الإرهاق، ونطمئن أنفسنا بأن كل شيء على ما يرام ما دام الألم لم يفرض نفسه بعد، لكن هل هذا هو معنى الصحة؟ أن ننتظر حتى يقرع المرض بابه بقوة ليخبرنا بأننا أخطأنا في حق أنفسنا؟
أعرف امرأة كلما اقترب موعد فحصها الطبي، ينتابها قلق لا تستطيع تفسيره. تتهرب من الموعد، وتجد لنفسها مبررات لتأجيله، ليس لأنها تجهل أهميته، بل لأنها تخشى أن تسمع خبرا يغير مجرى حياتها. بالنسبة لها، كان عدم المعرفة أهون من المواجهة، لكنها ليست حالة استثنائية. كم من شخص يؤجل الفحص، لا لأنه مشغول، بل لأنه لا يريد أن يسمع إجابة قد تقلب الطمأنينة إلى قلق؟
المفارقة أن الخوف من المرض قد يكون أخطر من المرض نفسه. تعامينا لا يغير الواقع، بل يمنحه فرصة ليزداد سوءًا. البعض يظن أن الابتعاد عن الفحص يجعله بمأمن من القلق، لكنه في الحقيقة يؤجل المواجهة، والتي قد تكون أصعب بكثير عندما يأتي وقتها.
ولعل المشكلة لا تكمن في قصور الإحاطة، بل في التعامل وكأن الجسد سيظل يعمل بكفاءة مهما أرهقناه وأهملناه. نمضي يوما بعد يوم دون أن نفكر كيف سيؤثر هذا الإرهاق المتراكم على حياتنا بعد سنوات. نؤجل المشي لأن هناك أمورًا أخرى تبدو أكثر إلحاحا، نختار الطعام الأسرع لا الأفضل، نغض الطرف عن الإشارات الصغيرة التي يرسلها الجسد، إلى أن نجد أنفسنا أمام واقع لا يمكن إنكاره.
الوعي الصحي، لا يمكن أن يكون مسؤولية الفرد وحده، فالمجتمع كله شريك في هذه الرحلة. للمدارس دور محوري في ترسيخ مفاهيم العناية بالجسد والعقل منذ الصغر، وللمساجد أثر كبير حين تدمج رسائل التوعية في خطبها ومجالسها، كما أن للمآتم دورًا اجتماعيًا مؤثرًا، خاصة حين تستثمر تجمعاتها في إيصال رسائل صحية بأسلوب قريب من الناس. وكذلك للجمعيات والنوادي دور لا يقل أهمية، حين تجعل من التثقيف الصحي جزءًا من أنشطتها. عندما يصبح الحديث عن الصحة جزءًا من الحياة اليومية، لا حالة طارئة ننتبه لها عند المرض فقط، نكون قد خطونا خطوة حقيقية نحو مجتمع أكثر وعيا، وأقل ألما.
في البحرين، ولله الحمد، العناية بالصحة ليست أمرا صعبا. الخدمات الصحية متاحة، وإجراء الفحوصات الدورية لا يتطلب مجهودًا، بل هو جزء من نظام صحي متكامل يمكن للجميع الاستفادة منه بسهولة. ومع ذلك، يظل القرار في يد كل شخص، بين أن يستفيد مما هو متاح، أو أن يؤجل الاهتمام بصحته حتى تصبح الخيارات محدودة. في كثير من الدول، قد يكون الحصول على استشارة طبية أو فحص روتيني أمرًا معقدًا، لكن في بلادنا، لا يوجد عذر يجعل أحدًا يهمل شؤون عافيته.
وفي ظل سهولة الخدمات الصحية في البحرين، يواجه الفرد تحدياً آخر يتمثل في الرسائل المتضاربة حول الصحة. فقد أصبح من المعتاد أن تتصدر الشاشات وصفحات التواصل توصيات متناقضة، ومنشورات تروّج لمنتجات تُقدَّم على أنها الطريق المختصر لحياة مثالية. لم يعد الاهتمام بالصحة قائماً على التوازن والمعرفة، بل صار البعض ينجرف خلف موجات من الحميات والمكملات التي تُعرض بصفتها حلولاً سحرية - حميات غذائية تظهر وتختفي، مكملات تُسوق وكأنها تغني عن الطعام الحقيقي، وأجهزة يُقال إنها بديل عن التمارين الرياضية. المفارقة لا تكمن فقط في أن كثيراً من هذه الادعاءات بلا أساس علمي، بل في أن البعض يثق بها أكثر من ثقته بالعادات البسيطة التي أثبتت فعاليتها عبر الزمن. صون الصحة لا يحتاج إلى موضة طارئة، بل إلى وعي ثابت يتجاوز إغراء الإعلان.
لكن الصحة ليست مجرد العناية بالجسد. أحيانا، يكون الإرهاق الذي نشعر به قادما من الداخل، من ضغوط نفسية مستمرة، وقلق لا ينتهي، وتوتر أصبح جزءًا من الروتين اليومي. الصحة النفسية ليست أمرا منفصلا، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء آخر. التوتر المزمن، التفكير الزائد، والإجهاد العاطفي لا تؤثر على المزاج فحسب، بل تترك بصمتها على الجسد أيضا. صداع لا تفسير له، آلام متكررة، إرهاق دائم، ومشاكل صحية تمتد لأبعد مما نتوقع.
كم مرة شعرنا بالتعب دون سبب واضح؟ كم مرة كان الألم الذي نشعر به ليس مشكلة جسدية، بل رسالة من العقل بأن الضغط النفسي أصبح أكثر مما يحتمل؟ ومع ذلك، نستمر في تأجيل الراحة، نؤجل مواجهة القلق، وننظر إلى التوازن النفسي على أنه شيء يمكن التعامل معه لاحقا، حتى نجد أنفسنا في مرحلة لا يمكننا الرجوع منها.
قد لا يكون من السهل تغيير كل شيء بين يوم وليلة، لكن الاهتمام بالصحة ليس قرارات ضخمة، بل وعي مستمر بالتفاصيل الصغيرة. شرب الماء بانتظام، النوم في وقت مناسب، منح العقل فرصة للراحة، التحرك قليلا يوميا، كلها قرارات تبدو بسيطة، لكنها قد تصنع فارقا أكبر مما نتوقع.
نحن لا نلاحظ صحتنا حين تكون في أفضل حالاتها، لكنها تصبح أكثر وضوحا عندما تبدأ في التراجع. الجسد لا ينهار فجأة، بل يرسل إشارات صغيرة نتجاهلها، ثم إشارات أقوى نؤجلها، حتى يأتي اليوم الذي لم يعد فيه التجاهل خيارًا. هل علينا أن ننتظر حتى يفرض المرض كلمته الأخيرة؟ أم أننا نملك الشجاعة للاستماع إلى أنفسنا قبل أن تتحول البدايات الممكنة إلى نهايات مفروضة؟
ختام القول، إننا لا نمتلك السيطرة الكاملة على كل ما قد يحدث لنا صحيا، لكننا نملك القرار فيما نفعله اليوم. فهل ننتظر حتى يجبرنا الجسد على التوقف، أم نقرر الآن أن نمنحه ما يحتاج قبل فوات الأوان؟
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك