من حين لآخر يُطرح سؤال العروبة تشكيكًا في صحّة الانتساب إليها وقدرتها على مواجهة التحدّيات والمخاطِر التي تعصف بالمنطقة. وعلى ما حدث في سوريا والتساؤلات عن توجهات النظام الجديد في دمشق طُرِحَ سؤال: ما مصير سوريا والعروبة معًا؟ إنّه سؤال اللحظة الحرجة.
بحُكم الموقع الجغرافي، سوريا قلب المشرق العربي كلّه ومركز التفاعلات فيه. إذا انخرطت تكويناتها الاجتماعية في حروب كراهية وتصفيات جسدية فإنّ سيناريوات التقسيم حادثة لا محالة.
وبحكْم نشأة الفكرة العروبيّة الحديثة في سوريا في ثلاثينيّات القرن الماضي بالذات بمواجهة «التتريك»، فإنّ التفكيك ربما يشمل العالم العربي كلّه وتصبح خرائطه ميدانًا مفتوحًا لكلّ القوى الإقليمية والدولية وتتغوّل إسرائيل على حساب كلّ ما هو عربي.
هنا نتذكر كلمات هذه القصيدة التي تقول:
«إذا أعلنوا ذات يومٍ وفاة العرب...
ففي أي مقبرة يُدفنون؟
مَن سوف يبكي عليهم؟
وليس لديهم بنات
وليس لديهم بنون
وليس هنالك حزن
وليس هنالك مَن يحزنون».
كانت تلك قصيدة منذِرة لـلشاعر العربي الكبير «نزار قباني» كتبها بعد تراجع التأثير وفاعلية الدور العربي.
لم تطاوِعْه مشاعره أن يُطلق عليها «متى نعلن وفاة العرب؟».
أحال الإعلان إلى آخرين، أي آخرين غير أن يكونوا عربًا: «متى يُعلنون وفاة العرب؟».
في عام 1975 بدأت الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت حتى عام 1990، واستهلكت عافية البلد وأسَّست لتدخّلات إسرائيلية أكبر وأخطر في بنيته الداخلية.
وفي العام نفسِه نشأت أخطر وأطول حملة سياسية ممنهجة ضدّ «ثورة يوليو» حتّى يكره المصريون فكرة العروبة بأي معنى أو قيمة استدعت بذْل التضحيات.
كانت نقطة التركيز الجوهرية في حملة التشكيك تلك، في عروبة مصر، أو اصطناع التناقض بين عروبتها وإرثها الحضاري.
بدت تلك الكلمات والحملات في وقتها وسياقها أقرب إلى جرس إنذار من مغبّة السياسات المتّبعة حين خذلت السياسة المتبعة بطولة السلاح في حرب أكتوبر (1973).
تلامست معانيها بصورة ما مع عبارة شهيرة للأديب السوري «محمد الماغوط» كُتبت في لحظة يأس: «ما من جريمة كاملة في هذا العصر سوى أن يولدَ الإنسان عربيًا!»
بالنظر الفكري: نزار قباني، عروبي ناصري.
وبالنظر السياسي: هو غاضب من فرط خشيته أن تصل الأمة العربية إلى قاعٍ بلا نهاية بعدما حلّقت أحلامنا في السماء.
«رأيت العروبة معروضةً في مزاد الأثاث القديم
ولكنني... ما رأيت العرب»
كان ذلك تلخيصًا شعريًّا آخر في القصيدة نفسِها للأحوال العربيّة، التي واصلت تدهورها.
إنّه الانتقاد الحادّ من فرْط الالتزام والمحبّة والضجر في الوقت نفسِه من ممارسات بعض النُظُم العربية.
أيّا ما كانت الأخطاء المنسوبة لتجربة أو أخرى، فإنّ العروبة ليست اختراعًا ويستحيل تجاوزها بادعاءٍ أو بآخر.
بالنسبة إلى بلدٍ كمصر فإنّها، بالثقافة والمصير والتاريخ، مشدودة إلى محيطها العربي، الانعزال عنه حكْمٌ بالإعدام التاريخي وإهدارٌ لأمنها القومي في صميم اعتباراته.
باليقين هناك مصادر إضافية تُثري هوية الشخصية الوطنية.
فمصر عربية، تعتزّ بإرثها الفرعوني، متأثّرة بثقافة البحر المتوسط، وجزء من الحركة الفوّارة في الإقليم، منتسبةً إلى قارّتها الأفريقية، ومتداخلة مع عالمها الإسلامي، متنوعة دينيًّا، والتنوّع عامل قوة لا ضعف.
تراكمت تجاربها وخبراتها في أنحاء حياتها، أَثَرُ الحضارة المصرية القديمة ظلّ ساريًّا في اللغة والعادات والتقاليد وطبائع الشخصية، على الرَّغم من اختلاف الأزمان.
إنكار التاريخ تجهيل بما جرى فعلًا على شواطئ النيل عبر القرون. وإنكار التراكم تجهيل آخر بحقائق الأمور، المنطقة التي نحيا فيها اختلفت، جوارنا عربي ومحيطنا الحيوي عربي وأمننا القومي عربي، مصادر التهديد القديمة كـ«الهكسوس» اختفت من على خرائط الجغرافيا السياسية وحلّت مكانها مصادر أخرى تنذر بتهميش الدور المصري.
عروبة مصر ليست قضية معلّقة في فضاء المساجلات.
من حقّ كل مصري أن يفخرَ بإرثه الحضاري من دون أن يُنكر ما جرى للبلد بعد انقضاء الحضارة المصرية القديمة من غزوات واحتلالات وهجرات واختلاط دماء.
والكلام عن النّقاء العرقي وهْمٌ مطلق فضلًا عن كونه عنصرية صريحة، أو كامنة.
كما ان الحضارات القديمة كلّها صبت في مجرى تاريخي واحد لتصنع التجربة الإنسانية المعاصرة.
ان الاعتزاز لازم وإنكار الحقائق انتحار.
هذا كلامٌ يثبت صحته في تجارب جميع الأقطار العربية بلا استثناء.
نقد السياسات العربية التي أوصلتنا بفرْط التخاذل إلى ما وصلنا إليه من تراجعات شيء وتصفية الحسابات مع فكرة العروبة، وارث «ثورة يوليو» بالذات، شيء آخر تمامًا.
نشأَت في سبعينيّات القرن الماضي مساجلات دعا فيها الاديب «توفيق الحكيم» إلى «تحييد مصر»، أو بصياغة أخرى انعزالها عن عالمها العربي، وان تكون مصر لا شأن لها بأزماته وقضاياه.
كان ذلك صدامًا مباشرًا مع صلب نظرية الأمن القومي في مصر، أي حقائق الجغرافيا والتاريخ معا.
لم تخترع «ثورة يوليو» المشروع العروبي، لكنّها جسّدتْه أملًا حيًّا على الأرض بسياسات تبنّتها ومعارك خاضتها.
ان قيمة «جمال عبد الناصر» في التاريخ ليست أنّه حكم مصر، أكبر دولة عربية، ولا أنّه أنجز بقدر ما يستطيع، أصاب وأخطأ، وهذا كلّه يستحقّ مراجعته بالوثائق الثابتة لا الأهواء المتغيّرة.
ان قيمة جمال عبدالناصر أنّه عبّر عن فكرة أنّ مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قويًّا معها فتتضاعف قوّتها.
كان صراع الأفكار والسياسات قبل ثورة يوليو، هو الامر الذي أعطى زخمًا ميدانيًّا للفكرة العروبية بمعانيها الحديثة.
وكان دخول مصر إلى حلبة التاريخ بعد تأميم قناة السويس عام 1956، وتصدّرها لقيادة حركات التحرير الوطني في ذلك الوقت، إيذانًا بضخّ دماء جديدة في المشروع العروبي.
أيًّا ما كانت متغيّرات السياسة فلا عروبة بلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربي، ولا أدوار بلا أثمان.
إذا كان هناك مَن يتصوّر أنّ إنكار العروبة ممكن فهو غارق في أوهامه.
{ كاتب صحفي مصري.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك