منذ أن دخل دونالد ترامب البيت الأبيض وهو يتحفنا بتصريحاته العدائية حيناً، والأقل عدوانية حينًا آخر، والمتفهمة في أحيان أخرى، فمن التهجير الكامل وبناء الريفيرا إلى التنازل عن الفكرة ثم العودة إليها ثم تحسينها أو تسويقها أو فرضها أو بيعها للاحتلال الاسرائيلي الذي تلقفها وأسرع إلى تشكيل هيئة للطرد أسماها التهجير الطوعي، وكأن هناك فرقًا بين الطوعي والإكراهي، ولكن لا بد من تلك اللفتات الإنسانية المثيرة للضحك التي يلجأ إليها المحتل عادة. فمن يسمع ترامب يتحدث عن غزة ودمارها ومعاناة سكانها وضرورة نقلهم إلى أماكن جميلة وآمنة يشعر أن الرجل يشبه بابا الفاتيكان، ولكن هذا «البابا» لا يستطيع ولا يجسر إطلاقاً أن يقول من المسبب لتلك المشاهد الكارثية.
هذا التناقض في تصريحات ترامب أو ما قد يفسر على أنه اضطراب أو تناقض انتقل أيضاً إلى تصريحات وزير الخارجية ماركو روبيو الذي ظهر في مقابلة تلفزيونية وهو يرسم صليبا على جبهته في إعلان صريح لتوجهاته التطهيرية والمتطرفة أيضاً في إعلان سافر وواضح عن انتقال العلمانية الأمريكية إلى ليبرالية دينية متوحشة تريد مصادرة العالم أو إصلاحه أو ارتهانه لرؤية معينة، وظهر التناقض أيضاً في تصريحات آدم بوهلر الذي أزيح بقوة اللوبيات الخفية والعلنية بعد تصريحاته المثيرة والجديدة والصادمة، وظهر التناقض كذلك في تصريحات المتحدثة الصحفية باسم البيت الأبيض في محاولاتها المستمرة للتفسير أو التبرير إلا في حالة دعم إسرائيل في حربها الثانية على قطاع غزة المدمر، وظهر التناقض أيضاً في تصريحات ستيف ويتكوف المبعوث الموثوق لدونالد ترامب، فهل هناك تناقض حقاً في أقوال وتصريحات الإدارة الأمريكية؟!
برأيي فإن ما يبدو وكأنه تناقض للوهلة الأولى، إنما هو انعكاس لجدل اللوبيات الصهيونية واليهودية من جهة، وبين مطامع ورغبات ترامب من جهة أخرى، بمعنى أن هذه اللوبيات ليست متفقة فيما بينها على خيارات نتنياهو واليمين الحاخامي التوراتي عموماً.
إذ ان هناك أطرافا كبيرة في هذه اللوبيات لا تدعم إسرائيل الحاخامية التوراتية وتعتقد أنها تؤدي بها إلى الدمار كما حدث ذلك في الماضي البعيد، فيما توجد أطراف أخرى تريد إسرائيل علمانية وديمقراطية ومقبولة لدى الغرب الاستعماري.
بمعنى آخر، فإن نتنياهو ليس هو العنوان الذي تلتقي عليه جميع المكونات في هذه اللوبيات، لهذا تجد اتفاقاً كاملاً حول دعم إسرائيل وأمنها واستقرارها وسيطرتها على الإقليم، ولكن هذا الدعم لا يعني إعطاء نتنياهو كل ما يريد أو كل ما يطلب، هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن ما يطمح إليه ترامب ومطامعه أيضاً تتمثل في حل هذا الصراع جزئياً أو كلياً بأسرع ما يمكن من خلال البناء على إنجازه الأول وهو توسيع نطاق التطبيع، ولا يمكن لهذا الاتجاه أن يستمر أو يتواصل إذا بقي نتنياهو بهذه العدوانية وهذه التدميرية، لا يمكن تسويق هذا التوجه من دون حل للقضية الفلسطينية أو على الأقل رسم ملامح فعلية وحقيقية لهذا الحل.
لا يمكن للدول العربية أن تقبل نصراً نهائياً إسرائيلياً في الإقليم وأن تقبل إلغاءً للدولة والشعب الفلسطيني، أو على الأقل فإن هذه الدول مستعدة لقبول وتسويق وربما فرض تسوية على الفلسطينيين بدعم أمريكي وأوروبي لا تتضمن تهجيراً أو تجاوزاً للحقوق الفلسطينية، ويبدو أن ترامب يدرك هذا جيداً، هو يريد إسرائيل قوية، ولكن يعرف أن مصالح أمريكا لا تحفظ فقط من قبل إسرائيل، وأن أزمات أمريكا لا تحلها إسرائيل فقط، بل على العكس فإن إسرائيل تستنزف المال والجهد وحتى القيم الأمريكية، وهذا ما أخذ الشارع الأمريكي يتحدث عنه علنا.
لهذا كان الحوار الأمريكي مع حركة حماس، وتغير موقف الإدارة الأمريكية من الخطة العربية بشكل ما والمطالبة بتطوير وإصلاح السلطة الفلسطينية للمهام المستحدثة، ولهذا أيضاً كانت تصريحات ستيف ويتكوف، وهي تصريحات تفتح الأبواب كلها وتضع الخيارات كلها وتقول الشيء ونقيضه، لأن الإدارة الامريكية تدرك أن حكومة نتنياهو بهذا التطرف وهذه العدوانية قد تدمر الرؤية النهائية للإدارة الأمريكية.
البيت الأبيض يريد لإسرائيل أن تنتصر بالتأكيد، لكنها تريد لترامب أن ينتصر أيضاً، البيت الأبيض يريد أن يخفض من سقوف المطالب للشعب الفلسطيني لتصبح مجرد البحث عن رغيف خبز، ويريد أن يسوق لسلام منقوص مع العالم العربي يقوم على التطبيع، ولكنه أيضاً يريد أن يحقق مصالحه الاقتصادية والأمنية أيضاً. يريد البيت الأبيض أن يجعل من منطقتنا منطقة نفوذ كامل في مواجهة الأعداء الكبار، يريد أن يضمن أنظمته وشعوبه وممراته وثرواته وهدوءه. أيضاً، وحتى يضمن البيت الأبيض كل ذلك، لا بد له من التوصل إلى حل سريع ما للصراع في فلسطين، ترامب قد يخدم إسرائيل لألف سبب وسبب ولكنه في نهاية الأمر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وقد لا نفهم -نحن العرب والمسلمين- لماذا يتصرف رئيس إمبراطورية عظمى بهذه الطريقة مع إسرائيل، ولكن ترامب بالتأكيد لديه التبريرات والذرائع الاستراتيجية والعقائدية التي تجعله منتخباً ومدعوماَ من أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة ليفعل ما يفعل. أخيراً، التناقض الظاهري في الخطاب الأمريكي هو خلافات في زوايا النظر وليس على المشهد، خلافات في المسالك وليس على الأهداف، خلافات حول الأشخاص وليس على المواضيع.
ما يبدو وكأنه تناقض للوهلة الأولى إنما هو انعكاس لجدل اللوبيات الصهيونية واليهودية من جهة، وبين مطامع ورغبات ترامب من جهة أخرى، بمعنى أن هذه اللوبيات ليست متفقة فيما بينها على خيارات نتنياهو واليمين الحاخامي التوراتي عموماً.
{ رئيس مركز الدراسات
المستقبلية – جامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك