إن الجهود المشتركة التي يبذلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والجمهوريون في الكونجرس والجماعات المؤيدة لإسرائيل، مثل رابطة مكافحة التشهير، تستهدف بشكل مباشر المثل الليبرالية لحرية التعبير والتجمع وفكرة الجامعة نفسها.
ويطالب الجمهوريون وحلفاؤهم الجامعات بإلغاء أي ذكر للتنوع والمساواة والإدماج أو ما شابه ذلك في عملية القبول أو البرمجة، كما وضعوا تعريفًا مشوهًا وموسعًا لمعاداة السامية. وفي كلتا الحالتين، أبلغ الجمهوريون وحلفاؤهم المؤسسات التعليمية أن عدم الامتثال لهذه التوجيهات سيؤدي إلى خفض التمويل الفيدرالي الذي يمنح لها.
وفي حين حذرت المنظمات التي تمثل كلا من أعضاء هيئة التدريس والإداريين من الامتثال لمتطلبات إلغاء التنوع والإنصاف والشمول في عملية القبول أو البرمجة، فقد قامت بعض الجامعات بالفعل بذلك وأبدت امتثالها.
وقد قامت عشرات المؤسسات الجامعية بحذف الكلمات والبرامج التي أصبحت محظورة من مواقعها الإلكترونية، كما أُغلقت مكاتب تعزيز التنوع، وأُلغيت الدورات الدراسية.
وكان الأمر الأكثر خطورة هو الضرر الذي لحق بحرية التعبير والحرية الأكاديمية نتيجة لتهديدات الإدارة الأمريكية الراهنة والكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون بمعاقبة الجامعات التي لا تتخذ التدابير اللازمة لكبح ما يسمونه «معاداة السامية».
تتمثل المشكلة الرئيسية في هذا القرار هو أنه يستند إلى تعريف زائف ومشوه روجت له رابطة مكافحة التشهير منذ فترة طويلة - وهو تعريف يساوي بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية.
تعتبر الأطراف التي تدعم هذا التمشي أن انتقاد إسرائيل يُعدّ معاديا للسامية لأنها الدولة اليهودية الوحيدة، وبالتالي يُشكّل انتقادها تهديدًا لليهود الذين يتماهون معها. وفي أحسن الأحوال، فإن هذا «المنطق» بعيد كل البعد عن الواقع. وفي أسوأ الأحوال، فهو هو محاولة فجة ومبيتة لإسكات المنتقدين.
وفي خضم سعيها لفرض هذا المفهوم الذي تروج له لمعادة السامية، وجدت رابطة مكافحة التشهير شركاء متحمسين من بين المسيحيين الأصوليين اليمينيين، والجمهوريين في الكونجرس، والرئيس ترامب ــ على الرغم من أن أسبابهم في القيام بذلك ربما تكون مختلفة.
ولكن سواء كان تعاون هذه الأطراف آنفة الذكر عبارة عن زواج مصلحة أم ينم عن إجماع وتوافق في الرأي والتفكير، فإن هذه المساعي المستميتة قد ألحقت أضرارا جسيمة بقطاع التعليم العالي.
وبما أن المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين كانت الأولى التي اندلعت في عدد من الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الجمهوريين يرون في هذه المساعي أيضاً وسيلة لتصعيد حملتهم التي تستهدف كلا من النخب الفكرية والليبراليين.
وبما أن معظم منتقدي السياسات الإسرائيلية هم من الديمقراطيين، فإن الجمهوريين يرون أن الدفاع عن إسرائيل يشكل قضية خلافية تعمل على تقوية قاعدتهم بينما تخلف إشكاليات وتحديات كبيرة للديمقراطيين.
ومن جانبه، يرى الرئيس دونالد ترامب أن تجريم المتظاهرين وإجبار الجامعات الأمريكية على الامتثال والانصياع لهذا التوصيف هو طريقة أخرى لمراكمة السلطة وتركيزها.
لقد تحلت أولى إرهاصات هذه الحملة خلال جلسات الاستماع التي عقدها الكونجرس العام الماضي، والتي تم فيها استدعاء عدد من رؤساء الجامعات الكبرى المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية للمثول أمامها، حيث تعرضوا للانتقادات من قِبل أعضاء الكونجرس الجمهوريين.
كانت اللحظة الأكثر وضوحا في هذه الحملة في جلسة الاستماع عندما ادعت إليز ستيفانيك، الممثلة الجمهورية آنذاك، زورًا أن التعبير الذي سمع في بعض المظاهرات «من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة» كان دعوة معادية للسامية للإبادة الجماعية ضد الشعب اليهودي.
ثم غيّرت السيدة ستيفانيك، السفيرة الأمريكية المعينة حاليًا لدى الأمم المتحدة، مسارها بسرعة، سائلةً رؤساء الجامعات عمّا إذا كانت هناك عقوبات تسلط على أولئك الذين يدعون، بحسب زعمها، إلى إبادة اليهود. أُصيب رؤساء الجامعات الكبرى بالحيرة من هذه النزعة غير المنطقية، وأعطوا إجاباتٍ مُربكة في جلسة الاستماع تلك.
ثم، وفي خضم الاحتجاجات والمظاهرات التي أقيمت في حرم جامعة كولومبيا، قام مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الجمهوري، بزيارة الجامعة المذكورة مطالبا باتخاذ إجراءات صارمة.
وانضمت شخصيات جمهورية أخرى إلى هذه الحملة، حيث إنهم راحوا يزعمون بأن الحرم الجامعي هو بمثابة معاقل للنخبوية الليبرالية غير الأمريكية، ويجب أن يتم تلقينها درسا.
وفي خضم هذه الحملة، هددت لجنة في الكونجرس بقطع الأموال الفيدرالية عن الجامعات التي لم توقف الاحتجاجات، ومعاقبة المتظاهرين وتطهير حرمها الجامعي من الأنشطة والدورات الدراسية المؤيدة للفلسطينيين والمعادية لإسرائيل.
وقد تم تشجيع وحث الجماعات المؤيدة لإسرائيل على تقديم شكاوى إلى مكتب الحقوق المدنية تتهم الإدارة بغض الطرف عن معاداة السامية بين أعضاء هيئة التدريس والطلاب.
وسعيا للتصدي لهذه التحديات، بدأ الخوف والهلع يتصاعد. ففي الصيف الماضي، استعانت الجامعات بمستشارين أمنيين لإعادة صياغة قواعد وأدلة أعضاء هيئة التدريس والطلاب؛ فأُلغيت المقررات الدراسية، وكُممت أصوات أعضاء هيئة التدريس من الجامعيين.
وقد بلغ الأمر بمؤسسة أكاديمية مرموقة مثل جامعة كولومبيا إلى حد إنشاء مكتب لتشجيع الطلاب على تقديم شكاوى ضد الطلاب وأعضاء هيئة التدريس المؤيدين للفلسطينيين. وهكذا أصبحت مظاهر القمع والتعسف على أشدها.
وقد ازدادت الضغوط مع انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصبحت جامعة كولومبيا العريقة في المشهد الأكاديمي بمثابة «كبش فداء» بسبب مكانتها المرموقة، وقد أظهرت هذه الجامعة استعدادها الواضح للخضوع والامتثال.
ورغم جهود الجامعة، فقد صعدت إدارة دونالد ترامب الضغوط عليها خلال الأيام القليلة الماضية، معلنة أن هذه الجامعة ستخسر 400 مليون دولار من المنح الفيدرالية.
ثم جاءت الأخبار من دونالد ترامب والذي أعلن بنفسه أن طالب الدراسات العليا في جامعة كولومبيا، محمود خليل، سيتم ترحيله بتهمة معاداة السامية.
وباستثناء حقيقة أن السيد خليل كان المفاوض الرئيسي نيابة عن الطلاب المحتجين، لم يكن هناك أي دليل على أي شيء قاله أو فعله لتبرير هذه التهمة.
ومع تصاعد الاحتجاجات على نطاق واسع في مواجهة هذا الترحيل التعسفي الوشيك، يبقى أن نرى ما إذا كان أمر الترحيل الذي أصدره ترامب سينجح أم سيأتي بنتائج عكسية.
وفي كلتا الحالتين، فقد وقع الضرر، ليس فقط لحرية التعبير، بل أيضاً لفكرة الحرية الأكاديمية ذاتها التي كانت منذ فترة طويلة السمة المميزة للتعليم الأمريكي.
ظلت مؤسسة زغبي الدولية على مدى سنوات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تجري استطلاعات رأي حول مواقف العرب تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وقد حفزها على القيام بذلك غلاف مجلة «تايم» الذي حمل الإجابة الشهيرة للرئيس جورج دبليو بوش آنذاك على هذا السؤال:
«لماذا هاجمنا الإرهابيون العرب؟» ونُقل عنه قوله إنهم فعلوا ذلك لأنهم «يكرهون قيمنا المتمثلة في الديمقراطية والحرية».
أظهرت نتائج الاستطلاع أن ملاحظة السيد بوش الساخرة غير صحيحة. ففي كل دولة عربية أُجري فيها الاستطلاع، أعربت أغلبية كبيرة عن تقديرها العميق لحرية أمريكا وديمقراطيتها. كما أبدوا إعجابهم بالنظام التعليمي الأمريكي، والمنتجات الثقافية الأمريكية، والشعب الأمريكي.
ما لم يُعجب الكثير من العرب هو السياسات الأمريكية، وخاصةً تلك الموجهة للفلسطينيين والعرب والمسلمين في الولايات المتحدة. وفي مقابلات لاحقة أُجريت لفهم النتائج بشكل أفضل، قال أحد المشاركين:
أحب قيم أمريكا، لكنهم لا يريدون تطبيقها على العرب. قال آخر: «درستُ في أمريكا وأحب هذا البلد. لا أشعر أن أمريكا تحبني».
في ختام الاستطلاع، طُلب من المشاركين تحديد موقفهم العام تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، سواءً كان إيجابيًا أم سلبيًا. وكانت النتائج سلبيةً بشكلٍ كبير.
عندما سُئلوا عمّا إذا كانت مواقفهم مبنية على قيم أمريكا أم سياساتها، كانت السياسات هي الحاسمة في التعبير عن موقفهم.
يبدو أن الرئيس دونالد ترامب يُلحق الضرر بقيم الحرية والديمقراطية ذاتها التي يُعجب بها بقية العالم عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك