التأمل في سيرة ابن سينا تجعلني أقف احتراما أمام شجاعته الفكرية وإبداعه الذي تجاوز حدود زمانه. تخيلوا رجلا عاش في زمن تنوعت فيه تفسيرات الظواهر بين العلمية والتقليدية، في تلك الحقبة الزمنية اعتقد البعض أن المرض لعنة أو مس من الجن، لذلك وقف ابن سينا ليقول لهم: «انتظروا.. لننظر في الأمر بعقلانية». لم تكن معالجته لتلك التفسيرات تحديا مباشرا أو مواجهة حادة، بل كان طريقه أبسط وأذكى: التجربة والملاحظة. وكأنه كان يقول للمجتمع من حوله: «أنا لا أطلب منكم أن تغيروا قناعاتكم فورًا، لكن دعونا نجرب فكرة أخرى».
اللافت في ابن سينا، أنه لم يكن متعاليا أو منفصلا عن الناس. كان يدرك تعقيدات الطبيعة البشرية وحاجة الناس إلى فهم الظواهر المحيطة بهم، خاصة حين تكون المجهولات كثيرة. تركزت موهبته في تقديم التفسيرات العلمية بأسلوب يحترم السياق الثقافي والمعرفي لعصره، فعندما كان بعض المرضى يخشون الأرواح الشريرة، كان يقف ليظهر لهم أن الأعراض لها أسباب مادية يمكن دراستها وفهمها.
هذه الرؤية لم تكن خطوة عادية نحو تطوير الطب، بل كانت إسهاما فكريا مهما وامتداداً لجهود من سبقوه كالرازي والكندي، مما أسهم في بناء صرح المنهج العلمي في تلك الحقبة.
لم يُعرف ابن سينا كطبيب تقليدي ينظر إلى الإنسان بوصفه جسدا منفصلا عن العقل والروح، بل كان يؤمن بأن الصحة منظومة متكاملة تتأثر بالحالة النفسية بقدر تأثرها بالعوامل الجسدية.
لذا، لم يقتصر علاجه على استخدام الأدوية، بل أدرك أهمية التوازن النفسي، كما استخدم الموسيقى كإحدى وسائل العلاج، متقدما بذلك على زمانه بما يشبه ما يُعرف اليوم بالعلاج الشمولي (Holistic Therapy). فقد كان واعيا بتأثير التوتر والقلق على الصحة الجسدية، وهي رؤية بدت جريئة في عصره، لكنها أصبحت اليوم أحد الأسس الراسخة في الطب الحديث.
حياة ابن سينا لم تكن سهلة أو مستقرة. على عكس التصور الشائع للعالم الذي ينعم بالاستقرار والتفرغ للبحث والكتابة في هدوء، عاش في خضم تقلبات سياسية واجتماعية. تنقل بين المدن، وعمل طبيبا خاصا للحكام، كما تولى منصب وزير في بعض المراحل وهو دور جلب له مكانة لكنه وضعه أيضا في مواجهة صراعات سياسية.
هذه التحديات بلغت ذروتها عندما انتهى به الأمر في السجن فترة. ومع ذلك، استطاع أن يواصل البحث والكتابة، وأن ينتج في ظل تلك الظروف أعمالا خالدة. كتابه «القانون في الطب»، الذي أصبح لاحقا أحد أهم المراجع الطبية في العالم، وظل يدرس في الجامعات الأوروبية لأكثر من 500 عام، كُتب وسط تلك الاضطرابات. فقد اعتبر العلم رسالة تحمل معنى أكثر شمولية من العمل اليومي؛ أصبح وسيلته لفهم العالم وطريقته للتعامل مع المصاعب التي فرضتها عليه الحياة.
ما يجعل إرثه مختلفا هو أنه لم يكتف بنقل المعرفة. بل قرأ كتب الفلاسفة والأطباء من قبله، وأضاف رؤيته الخاصة لها. كان يؤمن أن العلم ليس ملكا لحضارة أو شعب، بل هو ميراث إنساني يجب أن يتراكم عبر الأجيال. هذه الفكرة جعلت من كتبه جسرا بين الشرق والغرب، حيث تم نقلها إلى اللاتينية وأدرجت ضمن المقررات الأكاديمية في أوروبا.
على الرغم من تأثيره الواسع، لم تكن أفكاره محصنة من النقد. فقد كان الخلاف بينه وبين الإمام الغزالي، يمثل محطة مهمة في تاريخ الفكر الإسلامي. حين اعترض الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» على بعض أفكاره التي رأى فيها خروجا عن الفهم الصحيح للدين.
لكن من المهم الإشارة إلى أن الغزالي، لم يعترض على إنجازات ابن سينا الطبية أو العلمية، بل نصب نقده على آرائه في قضايا تتعلق بالخلق والبعث.
هذا الخلاف يلقي الضوء على أن العلماء المسلمين لم يكونوا يتفقون دائما، وأن الحوار الفكري كان جزءاً أساسيا من الحضارة الإسلامية. وهذا يعطينا درسا مهما: يمكننا أن نختلف في بعض الأفكار، لكن هذا لا يمنعنا من الاستفادة من إنجازات بعضنا البعض، والجميل في الأمر أن ابن سينا لم يكن يدخل في جدالات طويلة. ربما لأنه كان يرى أن الزمن هو الحكم النهائي على صحة الأفكار. وهذا ما حدث بالفعل، إذ استمرت كتبه وأفكاره في التأثير في العالم بعد وفاته.
ما يلهم في قصته ليس عبقريته العلمية فقط، بل شجاعته الفكرية. ففي زمننا الحالي، الذي يغرق في الشائعات والمعلومات المغلوطة، نحتاج إلى منهجيته. نحتاج إلى أن نسأل، ونجرب، ونبحث عن الحقيقة، دون أن نخشى من مواجهة التيار.
في النهاية، لم تكن قصة ابن سينا مجرد قصة عالم عاش قبل ألف عام، بل هي دعوة لنكون أكثر شجاعة في تفكيرنا، وأكثر إنسانية في تعاملنا مع المعرفة ومع من يختلف معنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك