العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

عندما واجه ابن سينا الخرافات بالعلم والمنطق

بقلم: نبيلة رجب

الثلاثاء ٠١ أبريل ٢٠٢٥ - 02:00

التأمل‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬تجعلني‭ ‬أقف‭ ‬احتراما‭ ‬أمام‭ ‬شجاعته‭ ‬الفكرية‭ ‬وإبداعه‭ ‬الذي‭ ‬تجاوز‭ ‬حدود‭ ‬زمانه‭. ‬تخيلوا‭ ‬رجلا‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تنوعت‭ ‬فيه‭ ‬تفسيرات‭ ‬الظواهر‭ ‬بين‭ ‬العلمية‭ ‬والتقليدية،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬الزمنية‭ ‬اعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬المرض‭ ‬لعنة‭ ‬أو‭ ‬مس‭ ‬من‭ ‬الجن،‭ ‬لذلك‭ ‬وقف‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬ليقول‭ ‬لهم‭: ‬‮«‬انتظروا‭.. ‬لننظر‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬بعقلانية‮»‬‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معالجته‭ ‬لتلك‭ ‬التفسيرات‭ ‬تحديا‭ ‬مباشرا‭ ‬أو‭ ‬مواجهة‭ ‬حادة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬طريقه‭ ‬أبسط‭ ‬وأذكى‭: ‬التجربة‭ ‬والملاحظة‭. ‬وكأنه‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬للمجتمع‭ ‬من‭ ‬حوله‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أطلب‭ ‬منكم‭ ‬أن‭ ‬تغيروا‭ ‬قناعاتكم‭ ‬فورًا،‭ ‬لكن‭ ‬دعونا‭ ‬نجرب‭ ‬فكرة‭ ‬أخرى‮»‬‭.‬

اللافت‭ ‬في‭ ‬ابن‭ ‬سينا،‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متعاليا‭ ‬أو‭ ‬منفصلا‭ ‬عن‭ ‬الناس‭. ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬تعقيدات‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬وحاجة‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬الظواهر‭ ‬المحيطة‭ ‬بهم،‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬المجهولات‭ ‬كثيرة‭. ‬تركزت‭ ‬موهبته‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬التفسيرات‭ ‬العلمية‭ ‬بأسلوب‭ ‬يحترم‭ ‬السياق‭ ‬الثقافي‭ ‬والمعرفي‭ ‬لعصره،‭ ‬فعندما‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬المرضى‭ ‬يخشون‭ ‬الأرواح‭ ‬الشريرة،‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬ليظهر‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬الأعراض‭ ‬لها‭ ‬أسباب‭ ‬مادية‭ ‬يمكن‭ ‬دراستها‭ ‬وفهمها‭. ‬

هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬خطوة‭ ‬عادية‭ ‬نحو‭ ‬تطوير‭ ‬الطب،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬إسهاما‭ ‬فكريا‭ ‬مهما‭ ‬وامتداداً‭ ‬لجهود‭ ‬من‭ ‬سبقوه‭ ‬كالرازي‭ ‬والكندي،‭ ‬مما‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬صرح‭ ‬المنهج‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭.‬

لم‭ ‬يُعرف‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬كطبيب‭ ‬تقليدي‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬بوصفه‭ ‬جسدا‭ ‬منفصلا‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬والروح،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬الصحة‭ ‬منظومة‭ ‬متكاملة‭ ‬تتأثر‭ ‬بالحالة‭ ‬النفسية‭ ‬بقدر‭ ‬تأثرها‭ ‬بالعوامل‭ ‬الجسدية‭.‬

‭ ‬لذا،‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬علاجه‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬الأدوية،‭ ‬بل‭ ‬أدرك‭ ‬أهمية‭ ‬التوازن‭ ‬النفسي،‭ ‬كما‭ ‬استخدم‭ ‬الموسيقى‭ ‬كإحدى‭ ‬وسائل‭ ‬العلاج،‭ ‬متقدما‭ ‬بذلك‭ ‬على‭ ‬زمانه‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬اليوم‭ ‬بالعلاج‭ ‬الشمولي‭ (‬Holistic‭ ‬Therapy‭). ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬واعيا‭ ‬بتأثير‭ ‬التوتر‭ ‬والقلق‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬الجسدية،‭ ‬وهي‭ ‬رؤية‭ ‬بدت‭ ‬جريئة‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬لكنها‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬أحد‭ ‬الأسس‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬الطب‭ ‬الحديث‭.‬

حياة‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سهلة‭ ‬أو‭ ‬مستقرة‭. ‬على‭ ‬عكس‭ ‬التصور‭ ‬الشائع‭ ‬للعالم‭ ‬الذي‭ ‬ينعم‭ ‬بالاستقرار‭ ‬والتفرغ‭ ‬للبحث‭ ‬والكتابة‭ ‬في‭ ‬هدوء،‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬تقلبات‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭. ‬تنقل‭ ‬بين‭ ‬المدن،‭ ‬وعمل‭ ‬طبيبا‭ ‬خاصا‭ ‬للحكام،‭ ‬كما‭ ‬تولى‭ ‬منصب‭ ‬وزير‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المراحل‭ ‬وهو‭ ‬دور‭ ‬جلب‭ ‬له‭ ‬مكانة‭ ‬لكنه‭ ‬وضعه‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬صراعات‭ ‬سياسية‭.‬

هذه‭ ‬التحديات‭ ‬بلغت‭ ‬ذروتها‭ ‬عندما‭ ‬انتهى‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬فترة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬البحث‭ ‬والكتابة،‭ ‬وأن‭ ‬ينتج‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬أعمالا‭ ‬خالدة‭. ‬كتابه‭ ‬‮«‬القانون‭ ‬في‭ ‬الطب‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬لاحقا‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬المراجع‭ ‬الطبية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وظل‭ ‬يدرس‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬الأوروبية‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬500‭ ‬عام،‭ ‬كُتب‭ ‬وسط‭ ‬تلك‭ ‬الاضطرابات‭. ‬فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬العلم‭ ‬رسالة‭ ‬تحمل‭ ‬معنى‭ ‬أكثر‭ ‬شمولية‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬اليومي؛‭ ‬أصبح‭ ‬وسيلته‭ ‬لفهم‭ ‬العالم‭ ‬وطريقته‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬المصاعب‭ ‬التي‭ ‬فرضتها‭ ‬عليه‭ ‬الحياة‭.‬

ما‭ ‬يجعل‭ ‬إرثه‭ ‬مختلفا‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬بنقل‭ ‬المعرفة‭. ‬بل‭ ‬قرأ‭ ‬كتب‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والأطباء‭ ‬من‭ ‬قبله،‭ ‬وأضاف‭ ‬رؤيته‭ ‬الخاصة‭ ‬لها‭. ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬ليس‭ ‬ملكا‭ ‬لحضارة‭ ‬أو‭ ‬شعب،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ميراث‭ ‬إنساني‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتراكم‭ ‬عبر‭ ‬الأجيال‭. ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬كتبه‭ ‬جسرا‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬نقلها‭ ‬إلى‭ ‬اللاتينية‭ ‬وأدرجت‭ ‬ضمن‭ ‬المقررات‭ ‬الأكاديمية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭.‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تأثيره‭ ‬الواسع،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أفكاره‭ ‬محصنة‭ ‬من‭ ‬النقد‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الخلاف‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الإمام‭ ‬الغزالي،‭ ‬يمثل‭ ‬محطة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭. ‬حين‭ ‬اعترض‭ ‬الغزالي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تهافت‭ ‬الفلاسفة‮»‬‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬أفكاره‭ ‬التي‭ ‬رأى‭ ‬فيها‭ ‬خروجا‭ ‬عن‭ ‬الفهم‭ ‬الصحيح‭ ‬للدين‭.‬

لكن‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الغزالي،‭ ‬لم‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬إنجازات‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬الطبية‭ ‬أو‭ ‬العلمية،‭ ‬بل‭ ‬نصب‭ ‬نقده‭ ‬على‭ ‬آرائه‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬تتعلق‭ ‬بالخلق‭ ‬والبعث‭.‬

هذا‭ ‬الخلاف‭ ‬يلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬العلماء‭ ‬المسلمين‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يتفقون‭ ‬دائما،‭ ‬وأن‭ ‬الحوار‭ ‬الفكري‭ ‬كان‭ ‬جزءاً‭ ‬أساسيا‭ ‬من‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭. ‬وهذا‭ ‬يعطينا‭ ‬درسا‭ ‬مهما‭: ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نختلف‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأفكار،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنعنا‭ ‬من‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض،‭ ‬والجميل‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬جدالات‭ ‬طويلة‭. ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬هو‭ ‬الحكم‭ ‬النهائي‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬الأفكار‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بالفعل،‭ ‬إذ‭ ‬استمرت‭ ‬كتبه‭ ‬وأفكاره‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭.‬

ما‭ ‬يلهم‭ ‬في‭ ‬قصته‭ ‬ليس‭ ‬عبقريته‭ ‬العلمية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬شجاعته‭ ‬الفكرية‭. ‬ففي‭ ‬زمننا‭ ‬الحالي،‭ ‬الذي‭ ‬يغرق‭ ‬في‭ ‬الشائعات‭ ‬والمعلومات‭ ‬المغلوطة،‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬منهجيته‭. ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نسأل،‭ ‬ونجرب،‭ ‬ونبحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نخشى‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬التيار‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قصة‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬مجرد‭ ‬قصة‭ ‬عالم‭ ‬عاش‭ ‬قبل‭ ‬ألف‭ ‬عام،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬دعوة‭ ‬لنكون‭ ‬أكثر‭ ‬شجاعة‭ ‬في‭ ‬تفكيرنا،‭ ‬وأكثر‭ ‬إنسانية‭ ‬في‭ ‬تعاملنا‭ ‬مع‭ ‬المعرفة‭ ‬ومع‭ ‬من‭ ‬يختلف‭ ‬معنا‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا