عندما وقعت هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك، توالت دراسات متعددة على يد متخصصين في الاجتماع والاقتصاد حول «ظاهرة الولايات المتحدة» وهل هي «قوة عظمى استثنائية» بمنأى عن الأفول، وخاصةً إذا لم يكن أحد ليتصور أن يطالها الإرهاب ليدمر مركز التجارة العالمي، وهو رمز قوتها الاقتصادية.
تركز الاهتمام على عوامل الصمود والاستمرار التي تجعل من هذه القوة طودًا شامخًا لا يعرف الانهيار إليه سبيلًا. بيد أن ثمة كتابات أخرى نحت إلى اتجاه مضاد، ولعل من أهمها الدراسة الجيوستراتيجية التي نشرها عام 2002 إيمانويل تود في كتابه Après l’empire أي ما بعد الإمبراطورية، وهي تدور حول «انهيار النظام الأمريكي وإمكانية بقائه مسيطرًا على العالم.
لئن استدعى حادث 11 سبتمبر فرضية «انهيار الإمبراطورية الأمريكية» بفعل الإرهاب الذي أسهمت هي في انتشاره، فإن فكرة سقوطها عاودت الظهور مجددًا في ضوء التغيرات الجذرية التي أجراها ترامب في إدارته لبلاده.
المعروف أن الولايات المتحدة انخرطت سنوات طويلة في صراعات لا يحدها حصر في أنحاء العالم، لم تخرج منها دائمًا منتصرة، مثل حروبها في فيتنام وأفغانستان. كما أنها نصبت نفسها شرطي العالم الذي يملك وحده تصنيف دول معينة مثل كوريا الشمالية أو العراق أو إيران ضمن الدول المارقة، بحجة أنها لا تستوفي المعايير التي ترتئيها واشنطن، كما احتكرت سلطة تصنيف أي كيان في خانة الإرهاب أو رفعه منها بعد منحه صك الغفران بحسب الظروف. لم تتردد الولايات المتحدة في قصف السفارة الصينية بالقنابل في بلجراد خلال حرب كوسوفو، كما لم تتوقف عن استفزازاتها لروسيا عبر زرع قواعد عسكرية دائمة لها في آسيا الوسطى، وأشعلت أنواعًا مختلفة من «الثورات الملونة».
إنها، كما يصفها «تود» في كتابه، دولة الأقوياء الذين يقومون بعمليات القصف الجوي ضد الدول التي لا تمتلك دفاعات جدية عندما يدور القتال على الأرض، ويمارسون بلا قيد «استراتيجية الرجل المجنون» التي تجعلهم يبدون غير مسؤولين عما يفعلونه من أجل تخويف الأعداء المحتملين بشكل أوقع، لدرجة أن حلفاءهم الأكثر ولاءً لهم، مثل بريطانيا العظمى وألمانيا واليابان، بدأوا يتوجسون خيفة منهم.
ومن ثم، كان السؤال الشاغل دائمًا هو: هل يمكن للولايات المتحدة، التي اعتُبرت دائمًا قوة وصاية وقائية، أن تصبح ذات يوم مفترسة بل خطيرة على السلام والاستقرار العالميين؟
هذا السؤال يعاد طرحه اليوم بعد أن اختط ترامب لبلاده سياسةً واستراتيجيةً عدائيتين لن يقتصر ضررهما على حلفائها التاريخيين، وإنما سيلحق بلا ريب أضرارًا فادحة بالشعب الأمريكي نفسه وبلده.
والواقع أن الهيمنة الأمريكية بدأت تتغير في بداية القرن الحادي والعشرين منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، رغم أنه ترك الساحة خالية «للأحادية القطبية الأمريكية»، وهي التسمية التي شاعت في أدبيات التحليل السياسي. ومع ذلك، لم يعد من الممكن آنئذٍ اعتبار الولايات المتحدة إمبراطورية، وإنما قوةً عالميةً عظمى في حالة تراجع، حيث لم يعد لديها، كما كان في الماضي، القدرة الاقتصادية والعسكرية لإخضاع السكان الآخرين. وتزامن ذلك إلى حد كبير مع ضعف آخر نخر في نزعتها العالمية الأيديولوجية المتعلقة بالرغبة في فرض ونشر القيم الليبرالية والديمقراطية في البلاد التي تعاني من غيابها.
بيد أن التحولات الكبيرة التي أدخلها ترامب في بلاده لم تقتصر فحسب على المجالين السياسي والاقتصادي، وإنما توغلت بعمق لتشمل المجالين التعليمي والثقافي.
فبخلاف قراراته القاضية بفرض رسوم جمركية على صادرات أوروبا وكندا، وتخليه عن مساندة شركائه الأوروبيين وتحالفه مع بوتين عدوه القديم، فرضت إدارته رقابةً وحظرًا باسم العنصرية على آلاف الكتب، وبخاصة الكتب المدرسية التي ألّفها روائيون عالميون ينتمون إلى أصول غير بيضاء، وقام بتجميد عمل الصحفيين والعاملين في إذاعات أمريكية موجهة للخارج، ومن بينها الإذاعة الأشهر «صوت أمريكا»، التي كانت من أهم وسائل الإعلام التي تتصدى للإعلام الروسي والصيني. بل إن ترامب، وفي خطوة غير مسبوقة، جمّد في ميزانية الدولة بنود الإنفاق على الأبحاث العلمية والأكاديمية.
تشي هذه الإجراءات، وفي ردة غير مسبوقة، بأن القوة العظمى الأمريكية، في عدائها الشديد للتنوع، تعيد السيادة للعقل الأصولي الذي انهارت بسببه في الماضي الحضارات الإنسانية.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب - جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك