لطالما أثير الحديث والجدل الذي لا ينتهي عن الأمن الإقليمي، وهو مفهوم ليس بجديد بل تجسده تنظيمات في مناطق مختلفة من العالم مثل الآسيان والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الناتو، والاتحاد الإفريقي، وإقليمياً جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، إلا أن إثارة ذلك الجدل بالنسبة إلى منطقة الخليج العربي لا يتسم بالعمومية وإنما ينسحب إلى مفردات ذلك المصطلح الأمن والإقليم، فمفهوم الأمن يرتبط على نحو وثيق بالتطورات التي شهدتها منطقة الخليج العربي وخاصة منذ تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981 مبادرة أمنية لدول تربطها أواصر مشتركة في مواجهة تهديدات الأمن الإقليمي، بما يعنيه ذلك من أن مصطلح الأمن يتم النظر إليه وفق مصالح واحتياجات أطرافه، فأمن دول الخليج العربي تم التعبير عنها من خلال مجلس التعاون بالتوازي مع تأسيس شراكات أمنية مع القوى الغربية الكبرى جسدتها اتفاقيات أمنية بعد حرب تحرير دولة الكويت عام 1991 ويتم تجديدها، ولكن مصطلح الإقليم له بعد آخر فدول الخليج العربي تقع ضمن إقليم يضم أطرافاً أخرى تتباين معها في النظم السياسية بل والرؤى الأمنية أيضاً وهي إيران والعراق واليمن ولها رؤى وسياسات أمنية مغايرة ولكنها في نهاية المطاف دول تقع جميعها في إقليم واحد، والتساؤل المهم هل يمكن أن تلتقي الرؤيتان لتعكسا على الأقل حوارا إقليميا مستداما حول تهديدات الأمن الإقليمي.
الإجابة التقليدية كانت هي أن المنطقة بها أكثر من نظام للأمن الإقليمي وهذا طبيعي إلا أن تطورات الأحداث الأمنية في المنطقة أكدت وبما لا يدع مجالاً لأدنى شك أن الحوار الإقليمي متطلب أساسي لتحقيق الأمن الإقليمي، ولا يعني ذلك بالضرورة هيكلا للأمن الإقليمي على غرار تجارب الأمن الإقليمي الأخرى في ظل وجود مصالح متناقضة لأطرافها وخبرات عززت من مناخ عدم الثقة بين الأطراف الإقليمية.
تم طرح كثير من الرؤى من بينها رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي عام 2023 والتي تضمنت مضامين ذلك الأمن أكثر من كونها آليات لتحقيقه ولكن في كل الأحوال تتمثل أهميتها في أمرين أولهما: أنها صدرت للمرة الأولى عن مجلس التعاون كمنظمة وبالتالي هي نهج جماعي، والثاني: تضمنت قضايا أو بالأحرى أولويات لأمن دول الخليج العربي خلال السنوات القادمة، بالإضافة إلى مبادرات من جانب الأطراف الإقليمية الأخرى تعكس رؤيتها للأمن الإقليمي.
ومع أهمية تلك المبادرات فإن التساؤل الذي يفرض ذاته دائما عند الحديث عن الأمن الإقليمي في منطقة الخليج العربي هل يمكن الحديث عن ذلك الأمن بمعزل عن مصالح القوى الكبرى في العالم؟، بعيداً عن معادلة النفط مقابل الأمن، فالمنطقة تحتوي على ممرات مائية استراتيجية للملاحة البحرية العالمية، بالإضافة إلى المصالح التجارية والاقتصادية لتلك الدول ليس أقلها المشروعات التي تضمنتها بعض من مبادرات تلك الدول ومنها مبادرة الحزام والطريق التي طرحتها الصين، والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بما يعنيه ذلك من أن الحديث عن مفهوم الأمن يتجاوز البعد العسكري بما يجعل للقوى غير الغربية حضور ولو على المستوى الاقتصادي.
المبادرات الأمنية المطروحة من جانب القوى والمنظمات الغربية لأمن منطقة الخليج العربي حتى الآن تدور حول الأمن العسكري من خلال توقيع اتفاقيات أمنية والاستمرار في تأسيس تحالفات لمواجهة تهديدات الأمن الإقليمي، ومن جانب تلك القوى تجاه دول الخليج العربي بشكل أحادي وليس تجاه مجلس التعاون كمنظمة للأمن الإقليمي سواء الاتفاقيات الأمنية الثنائية أو مبادرة إسطنبول التي أعلنها حلف شمال الأطلسي الناتو عام 2004، وعلى الجانب الآخر بالرغم من الصيغ الجماعية للمبادرة الروسية لأمن الخليج عام 2019 ومبادرة الصين لأمن الشرق الأوسط عام 2021 وأخيراً مبادرة الشراكة الأوروبية تجاه دول الخليج العربي عام 2022 ولكن تلك المبادرات لم تعكس خططاً واضحة بشأن هيكل للأمن الإقليمي في منطقة الخليج العربي، حيث إنها إما تضمنت مبادئ عامة أو ربط الخليج بجغرافيا أوسع نطاقاً نحو الشرق الأوسط أو محدودية هدف الأمن مقارنة بالأهداف والمصالح الاقتصادية الأخرى، ولكن المحصلة النهائية بغض النظر عن أهداف وتوقيت كل تلك المبادرات فإنها تعكس حقيقة مهمة أنه من الصعوبة الحديث عن هيكل للأمن الإقليمي بعيداً عن مصالح الأطراف الدولية في المنطقة.
وعود على ذي بدء فعلى الرغم من وجود بعض المؤشرات المهمة التي يمكن أن تسهم في بناء أمن إقليمي سواء رؤية دول الخليج العربي للأمن الإقليمي عام 2023 أو التحرك الجماعي الخليجي لدعم سوريا خلال المرحلة الجديدة، بالإضافة إلى النهج التصالحي بين بعض دول الخليج العربي وإيران، وتسارع وتيرة العلاقات الخليجية مع العراق ومأسستها، فإن تلك الجهود بحاجة إلى أن تنتظم في حوار إقليمي يضم كل تلك الدول بما فيها اليمن التي بحاجة ماسة إلى بناء الدولة مجدداً، صحيح أن أحداث غزة قد ألقت بظلالها على مجمل الوضع الإقليمي على الأقل على صعيد الأولويات والجهود التي يتركز جلها لإيجاد حل لذلك الصراع الممتد إلا أن ذلك لا يعني التفكير في حوار إقليمي يضم أطراف المنظومة الإقليمي، فدول الخليج ترتكز على رؤية موحدة لمهددات الأمن الإقليمي ومن ثم أولوياتها التي سوف تعكس دورها في هذا الحوار، أما الأطراف الأخرى وهي إيران والعراق واليمن، فلا شك أنها سيكون لها رؤى مختلفة ولكن المسألة ليس صراع أجندات بقدر ما هي توافقات بهدف بناء الثقة أولاً وذلك يتطلب إجراءات وجهود كبيرة ثم تحديد أولويات يجب العمل عليها تستهدف البحث في فرص التعاون الإقليمي في مجالات تحتم ذلك التعاون ومنها الأمن البحري والأمن الغذائي والتهديدات السيبرانية وفرص التعاون الاقتصادي والتجاري عموماً.
ليس من المستحيل إيجاد هيكل للأمن الإقليمي ولكن لذلك متطلبات أهمها على الإطلاق بناء الثقة وحل الخلافات المزمنة وأن يكون ذلك من خلال حوار مؤسسي له صفة الديمومة والهدف الاستراتيجي هو تحقيق الأمن التعاوني بدلاً من الأمن العسكري الذي كان ولا يزال هو السمة الأساسية لتفاعلات القوى الإقليمية والدولية في منطقة الخليج العربي والأمن الإقليمي، ولا يعني ذلك أن أياً من النماذج التي تم ذكرها في بداية المقال هي النموذج المثالي لمنطقة الخليج العربي لسبب بسيط مؤداه أن الأمن الإقليمي هو وليد بيئته ويعكس مصالح أطرافها وبقدر ما تكون قوة تلك الأطراف بقدر ما يكون واقع الأمن الإقليمي الذي كان ولا يزال طموحاً لكل دول المنطقة في ظل بيئة دولية سريعة التحول في مراكز القوى.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك