العدد : ١٧١٧٥ - الثلاثاء ٠١ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٥ - الثلاثاء ٠١ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ شوّال ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

مفهوم الإنسان في القرآن الكريم والنظريات المادية

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٣٠ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

منذ‭ ‬أن‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬سيدنا‭ ‬آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬الملائكة‭ ‬أن‭ ‬تسجد‭ ‬له،‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬مخلوق‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬المخلوقات‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬سابقًا،‭ ‬فهذا‭ ‬الكائن‭ ‬يختلف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬وبالتالي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التفكير،‭ ‬وكذلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬المسؤولية،‭ ‬وربما‭ ‬أمور‭ ‬كثيرة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬النظريات‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬لتحاول‭ ‬أن‭ ‬تفهم‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬وماذا‭ ‬يريد؟‭ ‬وكيف‭ ‬يحقق‭ ‬نفسه؟

فالنظريات‭ ‬المادية‭ ‬كالبرجماتية‭ ‬والشيوعية‭ ‬والرأسمالية‭ ‬وغيرها‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬مجرد‭ ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬وعظم‭ ‬وشهوات‭ ‬ورغبات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬النظريات‭ ‬المادية‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬الاحتياجات‭ ‬المادية‭ ‬البحتة‭ ‬للإنسان،‭ ‬ولم‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬الارتقاء‭ ‬بنظراتها‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬وربما‭ ‬أكبر‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬مثلث‭ ‬الاحتياجات‭ ‬البشرية‭ ‬لإبراهام‭ ‬ماسلو؛‭ ‬وكذلك‭ ‬نظريات‭ ‬التطور‭ ‬لدارون،‭ ‬ونظرية‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬وغيرها،‭ ‬فالإنسان‭ ‬جسم‭ ‬مادي‭ ‬بحت،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يرتوي‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الأساليب‭ ‬والطرق،‭ ‬لأن‭ ‬الغاية‭ ‬تبرر‭ ‬الوسيلة‭.‬

وكذلك‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬النظريات‭ ‬الأخرى‭ ‬تبيح‭ ‬للإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬العقلية‭ ‬أن‭ ‬يسبر‭ ‬أغوار‭ ‬الطبيعة،‭ ‬أفاق‭ ‬السماء،‭ ‬وأعماق‭ ‬المحيطات،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬وباستخدام‭ ‬المشرط‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬ويقطع‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬التفاسير‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬تجيب‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الإجابة‭ ‬عنها،‭ ‬إذ‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬إن‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬الإجابات‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬الكونية‭ ‬الغامضة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬إجابات‭ ‬مادية،‭ ‬ولكنه‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬أنه‭ ‬مازال‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الطريق،‭ ‬ففتت‭ ‬الذرة،‭ ‬وألصق‭ ‬الجينات‭ ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬الإنسان‭ ‬الكامل،‭ ‬والبقرة‭ ‬المنتجة،‭ ‬والمحاصيل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تموت،‭ ‬وكذلك‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يهزم‭ ‬الموت‭ ‬حتى‭ ‬يعيش‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬تعريف‭ (‬الأبدية‭)‬،‭ ‬متى‭ ‬تبدأ‭ ‬ومتى‭ ‬تنتهي؟

ولكن‭ ‬الإسلام‭ ‬أوضح‭ ‬لنا‭ ‬‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬العادة‭ ‬في‭ ‬منهجيته‭ ‬الواضحة‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬خلق‭ ‬سيدنا‭ ‬آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬يتمتع‭ ‬بوضعية‭ ‬ليست‭ ‬بالمادية‭ ‬البحتة‭ ‬ولا‭ ‬الروحانية‭ ‬البحتة،‭ ‬فهو‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذلك،‭ ‬فتجره‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬الشهوات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تسمو‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬الروحانيات،‭ ‬لذلك‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يلبي‭ ‬مطالب‭ ‬الأرض‭ ‬والسماء‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬بسلام‭. ‬فهو‭ ‬ثنائي‭ ‬الحاجات،‭ ‬فهو‭ ‬مادي‭ ‬يشارك‭ ‬بقية‭ ‬الكائنات‭ ‬الصفات‭ ‬ويخضع‭ ‬للقوانين‭ ‬الطبيعية‭ ‬وضرورات‭ ‬الحياة،‭ ‬وهذا‭ ‬يمكن‭ ‬رصده‭ ‬وملاحظته،‭ ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬فهو‭ ‬متجاوز‭ ‬للطبيعة‭ ‬المادية‭ ‬وغير‭ ‬خاضع‭ ‬لقوانينها‭ ‬وهذا‭ ‬مرتبط‭ ‬فقط‭ ‬بإنسانيته،‭ ‬فهو‭ ‬حر‭ ‬ومفكر‭ ‬وصاحب‭ ‬إدارة‭ ‬حرة،‭ ‬ذو‭ ‬أخلاق،‭ ‬ويشعر‭ ‬بالجمال‭ ‬ويستشعره،‭ ‬وكذلك‭ ‬فإن‭ ‬الإحساس‭ ‬الروحاني‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسمو‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬الملائكة‭.‬

وفي‭ ‬عالم‭ ‬الذرة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغيب،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬لحظاته‭ ‬الأولى‭ ‬تميز‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الكائنات‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬كلها‭ ‬مجتمعة‭ ‬تشكل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬الكائن‭ ‬المتميز،‭ ‬ومن‭ ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬التالي‭:‬

أولاً‭: ‬العلم؛‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬البقرة‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬31‭ (‬وَعَلَّمَ‭ ‬آدَمَ‭ ‬الْأسْمَاءَ‭ ‬كُلَّهَا‭ ‬ثُمَّ‭ ‬عَرَضَهُمْ‭ ‬عَلَى‭ ‬الْمَلَائكَةِ‭ ‬فَقَالَ‭ ‬أنبِئونِي‭ ‬بِأسْمَاءِ‭ ‬هَؤلَاءِ‭ ‬إن‭ ‬كُنتُمْ‭ ‬صَادِقِينَ‭)‬،‭ ‬ونحن‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬ماذا‭ ‬تعلم‭ ‬سيدنا‭ ‬آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬اسمي‭ ‬واسمك،‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬موضوع‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكتشف‭ ‬بعد،‭ ‬ولكن‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬تمام‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬سياق‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬أن‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬الملائكة‭ ‬من‭ ‬معرفته،‭ ‬فوقفت‭ ‬مبهورة‭ ‬غير‭ ‬مدركة‭ ‬حقيقة‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬الذي‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬العلوم‭ ‬من‭ ‬أطرافها،‭ ‬فقالت‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬التي‭ ‬بعدها‭ (‬قَالُوا‭ ‬سُبْحَانَكَ‭ ‬لَا‭ ‬عِلْمَ‭ ‬لَنَا‭ ‬إلَّا‭ ‬مَا‭ ‬عَلَّمْتَنَا‭ ‬إنَّكَ‭ ‬أنتَ‭ ‬الْعَلِيمُ‭ ‬الْحَكِيمُ‭). ‬

إلا‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬مذهل‭ ‬بصورة‭ ‬غريبة،‭ ‬إذ‭ ‬تشير‭ ‬الدلائل‭ ‬العلمية‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬يستطيع‭ ‬تخزين‭ ‬65000‭ ‬معلومة‭ ‬جديدة‭ ‬كل‭ ‬ثانية،‭ ‬وأن‭ ‬يستطيع‭ ‬معالجة‭ ‬2‭ ‬مليون‭ ‬معلومة‭ ‬في‭ ‬الثانية،‭ ‬وهو‭ ‬يعادل‭ ‬مليار‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬الحواسيب‭ ‬الموجودة‭ ‬حاليًا‭ ‬على‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬يقف‭ ‬عاجزًا‭ ‬أمام‭ ‬القدرة‭ ‬الإلهية‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬وبالأحرى‭ ‬والأصح‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نقارن‭ ‬قدرة‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬بخالقه،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬المقارنة‭ ‬غير‭ ‬منصفة‭ ‬للطرفين،‭ ‬فالله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬خالق‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬عنه‭ ‬شيء،‭ ‬أما‭ ‬عقل‭ ‬الإنسان‭ ‬ففي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬يقف‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭ ‬بعض‭ ‬الظواهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬ويتعايشها،‭ ‬كالزلازل‭ ‬والأعاصير‭ ‬والأوبئة‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنه‭ ‬يخضعها‭ ‬للدراسة‭ ‬سنوات،‭ ‬فربما‭ ‬يجد‭ ‬لها‭ ‬تفسيرًا‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يجد‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬شيء‭.‬

ثانيًا‭: ‬التكريم؛‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تفوق‭ ‬سيدنا‭ ‬آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬على‭ ‬الملائكة‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬والتفكير‭ ‬العلمي،‭ ‬أمر‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الملائكة‭ ‬أن‭ ‬تسجد‭ ‬له‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭ (‬وَإذْ‭ ‬قُلْنَا‭ ‬لِلْمَلَائكَةِ‭ ‬اسْجُدُوا‭ ‬لِآدَمَ‭ ‬فَسَجَدُوا‭ ‬إلَّا‭ ‬إبْلِيسَ‭ ‬أبَى‭ ‬وَاسْتَكْبَرَ‭ ‬وَكَانَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْكَافِرِينَ‭)‬،‭ ‬وهذا‭ ‬حصل‭ ‬بالفعل،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬غريب،‭ ‬فالملائكة‭ ‬تلك‭ ‬الكائنات‭ ‬النورانية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعصي‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتفعل‭ ‬ما‭ ‬تؤمر،‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬مجبرة‭ ‬الآن‭ ‬للسجود‭ ‬لمخلوق‭ ‬مصنوع‭ ‬من‭ ‬طين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬كرمه‭ ‬بالقدرة‭ ‬والتفكير‭ ‬العلمي‭.‬

هذا‭ ‬التكريم‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬جاء‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬قيمة‭ ‬الإنسان‭ ‬ومكانته‭ ‬المميزة‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭. ‬فهذا‭ ‬الإنسان‭ ‬قد‭ ‬أُعطي‭ ‬العقل‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التعلم‭ ‬والتفكير،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬مميزًا‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬المخلوقات،‭ ‬وبهذا‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬فإنه‭ ‬منح‭ ‬الإرادة‭ ‬الحرة‭ ‬والحرية‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬وتحمل‭ ‬المسؤولية‭ ‬عنها،‭ ‬وهي‭ ‬ميزة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متاحة‭ ‬بنفس‭ ‬الشكل‭ ‬للملائكة‭ ‬الذين‭ ‬وُصفوا‭ ‬بالطاعة‭ ‬المطلقة‭.‬

ومرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬التكريم‭ ‬والسجود‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬عبادة‭ ‬آدم‭ ‬أو‭ ‬أبنائه‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬لحظة‭ ‬لتبيان‭ ‬الفرق‭ ‬والمفارقة،‭ ‬والتكريم‭ ‬والأفضلية‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬تلك‭ ‬الأفضلية‭ ‬لها‭ ‬تبعات‭ ‬وهي‭ ‬تشكل‭ ‬الأمور‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬سنذكرها‭.‬

ثالثًا‭: ‬الاستخلاف؛‭ ‬عندما‭ ‬نجح‭ ‬سيدنا‭ ‬آدم‭ ‬في‭ ‬اختبار‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلم‭ ‬رفعه‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬الاستخلاف،‭ ‬بماذا‭ ‬يعني‭ ‬الاستخلاف؟‭ ‬يرى‭ ‬عبد‭ ‬المجيد‭ ‬النجار‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬خلافة‭ ‬الإنسان‭ ‬بين‭ ‬الوحي‭ ‬والعقل‭) ‬إن‭ ‬خلافة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬لا‭ ‬تتمثل‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬استثمارها،‭ ‬والانتفاع‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬فحسب؛‭ ‬بل‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬التأمل‭ ‬والنظر‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬حوادثها‭ ‬وآياتها،‭ ‬وسننها‭ ‬وأسرارها،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬تكميلاً‭ ‬وترقية‭ ‬للنفس‭ ‬في‭ ‬وجهتها‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬عبر‭ ‬منهاج‭ ‬العبادة‭.‬

وفي‭ ‬المقابل‭ ‬فإن‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬حسن‭ ‬حبنكة‭ ‬الميداني‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬تعني‭ ‬تعمير‭ ‬الأرض‭ ‬بإشاعة‭ ‬الخير‭ ‬والسلام‭ ‬فيها،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬إظهار‭ ‬عظمة‭ ‬الخالق‭ ‬وقدرته،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الانتفاع‭ ‬بما‭ ‬خلق‭ ‬الله،‭ ‬وتسخير‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الكون؛‭ ‬سبب‭ ‬للابتلاء‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا،‭ ‬وليس‭ ‬خلافة‭ ‬عن‭ ‬الله،‭ ‬فالله‭ ‬لم‭ ‬يستخلف‭ ‬أحدًا‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬خلقه،‭ ‬وكيف‭ ‬يستخلف‭ ‬وهو‭ ‬بيده‭ ‬ملكوت‭ ‬كل‭ ‬شيء‮»‬‭.‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬للإنسان‭ ‬وظائف‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المهام‭ ‬حتى‭ ‬يظفر‭ ‬بالنجاح‭ ‬ويحقق‭ ‬الهدف‭ ‬النهائي‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬أنزل‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭.‬

رابعًا‭: ‬التكليف؛‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬الإنسان‭ ‬مرتبة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الارتقاء‭ ‬وسواء‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬العقلية‭ ‬والمعرفة،‭ ‬والتفكير،‭ ‬والإرادة،‭ ‬أصبح‭ ‬جاهزًا‭ ‬ليتبوأ‭ ‬المنزلة‭ ‬التي‭ ‬خلقه‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬وهو‭ ‬مرحلة‭ ‬التكليف‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬الأمانة،‭ ‬ففي‭ ‬لحظة‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬عرض‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الأمانة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الكائنات‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬مثل‭: ‬السماوات‭ ‬والأرض‭ ‬والجبال،‭ ‬ويتضح‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬72‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬الأحزاب‭ (‬إنَّا‭ ‬عَرَضْنَا‭ ‬الأَمَانَةَ‭ ‬عَلَى‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالأرْضِ‭ ‬وَالْجِبَالِ‭ ‬فَأبَيْنَ‭ ‬أنْ‭ ‬يَحْمِلْنَهَا‭ ‬وَأشْفَقْنَ‭ ‬مِنْهَا‭ ‬وَحَمَلَهَا‭ ‬الإنْسَانُ‭ ‬إنَّهُ‭ ‬كَانَ‭ ‬ظَلُوماً‭ ‬جَهُولاً‭)‬،‭ ‬رفضت‭ ‬كل‭ ‬المخلوقات‭ ‬فقبّل‭ ‬الإنسان‭ ‬تلك‭ ‬الأمانة،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬دون‭ ‬الكائنات‭ ‬الأخرى‭ ‬قبِلَ‭ ‬واتخذ‭ ‬القرار‭. ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الملاحظ‭ ‬أن‭ ‬حمل‭ ‬الأمانة‭ ‬كانت‭ ‬لكل‭ ‬للبشرية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التكليف‭ ‬جاء‭ ‬فرديًا‭.‬

فمنذ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬غدا‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬المقصودُ‭ ‬والغاية‭ ‬والهدف،‭ ‬فجاءت‭ ‬الرسل‭ ‬والكتب‭ ‬والتشريعات‭ ‬والأحكام‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬هذا‭ ‬الكوكب‭ ‬وتنميته‭ ‬واستثماره،‭ ‬فتحول‭ ‬هذا‭ ‬الكوكب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬للسكن‭ ‬إلى‭ ‬الكوكب‭ ‬المناسب‭ ‬لبقاء‭ ‬واستمرار‭ ‬الإنسان‭. ‬وهكذا‭ ‬توالت‭ ‬الرسلُ،‭ ‬وتتابع‭ ‬الأنبياء،‭ ‬وأُنزلت‭ ‬الكتب،‭ ‬وكلّها‭ ‬تدور‭ ‬على‭ ‬محور‭ ‬واحدٍ،‭ ‬هو‭ ‬الإنسان،‭ ‬بما‭ ‬يحقق‭ ‬له‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة،‭ ‬وجاءت‭ ‬الشرائع‭ ‬لتأمينِ‭ ‬مصالح‭ ‬الناس‭ ‬بجلب‭ ‬النفع‭ ‬لهم،‭ ‬ودفع‭ ‬المضارّ‭ ‬عنهم،‭ ‬فترشدهم‭ ‬إلى‭ ‬الخير،‭ ‬وتهديهم‭ ‬إلى‭ ‬سواء‭ ‬السبيل،‭ ‬وتدلّهم‭ ‬على‭ ‬البر،‭ ‬وتأخذ‭ ‬بيدهم‭ ‬إلى‭ ‬الهدى‭ ‬القويم،‭ ‬وتكشِفُ‭ ‬لهم‭ ‬طريق‭ ‬الخير،‭ ‬وتحذّرهم‭ ‬من‭ ‬الغواية‭ ‬والشر،‭ ‬وجاءت‭ ‬الشريعة‭ ‬لتحصيل‭ ‬المصالح‭ ‬وتكميلهـا،‭ ‬وتقليل‭ ‬المفاسد‭ ‬وتعطيلها،‭ ‬فإنّ‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬إنما‭ ‬شرعت‭ ‬لجلب‭ ‬المصالح،‭ ‬أو‭ ‬لدرء‭ ‬المفاسد‭. ‬

ويبقى‭ ‬السؤال؛‭ ‬هل‭ ‬قام‭ ‬الإنسان‭ ‬بما‭ ‬يتوجب‭ ‬عليه‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬اختفاء‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه‭ ‬أغراه‭ ‬بالنسيان‭ ‬وبالتالي‭ ‬الكفر‭ ‬بالنعم‭ ‬وفي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأوقات‭ ‬بالفجور‭ ‬والبغي،‭ ‬وربما‭ ‬الجحود،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬اختفاء‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حقيقيا،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬سبحانه‭ ‬مطلع‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬سبحانه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬البشرية‭ ‬تخوض‭ ‬تجربتها،‭ ‬فلو‭ ‬كان‭ ‬تدخل‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬آليًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬لصار‭ ‬الإنسان‭ ‬مثل‭ ‬الشجرة‭ ‬والجبل‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬العصيان،‭ ‬ولمَا‭ ‬تمايز‭ ‬الأبرار‭ ‬عن‭ ‬الفجَّار‭.‬

وقبيل‭ ‬الختام،‭ ‬الموضوع‭ ‬لم‭ ‬ينته‭ ‬فهو‭ ‬موضوع‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬الموضوعات‭ ‬المطروحة‭ ‬والتي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الإجابات‭ ‬المطمئنة،‭ ‬ولكن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬صرح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬مقام‭ ‬التفضيل‭ ‬والتكريم،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬وَلَقَدْ‭ ‬كَرَّمْنَا‭ ‬بَنِي‭ ‬آدَمَ‭ ‬وَحَمَلْنَاهُمْ‭ ‬فِي‭ ‬الْبَرِّ‭ ‬وَالْبَحْرِ‭ ‬وَرَزَقْنَاهُمْ‭ ‬مِنَ‭ ‬الطَّيِّبَاتِ‭ ‬وَفَضَّلْنَاهُمْ‭ ‬عَلَى‭ ‬كَثِيرٍ‭ ‬مِمَّنْ‭ ‬خَلَقْنَا‭ ‬تَفْضِيلاً‭)‬،‭ ‬الإسراء‭: ‬70‭.‬

 

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا