منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم عليه السلام وطلب من الملائكة أن تسجد له، نجد أنفسنا أننا أمام مخلوق يختلف عن بقية المخلوقات التي خلقها الله سبحانه سابقًا، فهذا الكائن يختلف من حيث القدرة على اتخاذ القرار، وبالتالي القدرة على التفكير، وكذلك القدرة على تحمل المسؤولية، وربما أمور كثيرة قد تكون غير واضحة المعالم للكثير من النظريات المادية التي جاءت لتحاول أن تفهم هذا الإنسان وماذا يريد؟ وكيف يحقق نفسه؟
فالنظريات المادية كالبرجماتية والشيوعية والرأسمالية وغيرها تجد أن الإنسان مجرد كتلة من لحم وعظم وشهوات ورغبات يجب أن تتحقق بصورة أو بأخرى، لذلك نجد أن كل تلك النظريات المادية تدور حول الاحتياجات المادية البحتة للإنسان، ولم تتمكن من الارتقاء بنظراتها إلى أبعد من ذلك، وربما أكبر مثال على ذلك هو مثلث الاحتياجات البشرية لإبراهام ماسلو؛ وكذلك نظريات التطور لدارون، ونظرية رأس المال وغيرها، فالإنسان جسم مادي بحت، يجب أن يرتوي مهما كانت الأساليب والطرق، لأن الغاية تبرر الوسيلة.
وكذلك فإن بعض النظريات الأخرى تبيح للإنسان الذي يمتلك القدرة العقلية أن يسبر أغوار الطبيعة، أفاق السماء، وأعماق المحيطات، وكذلك من حقه أن يدخل النفس البشرية وباستخدام المشرط يمكنه أن يقطع ويقطع حتى يصل إلى كل التفاسير الذي يحاول أن تجيب عن الأسئلة التي لا يستطيع الإجابة عنها، إذ يعتقد أنه إن فعل ذلك يمكنه أن يجد الإجابات للكثير من الأسئلة الكونية الغامضة التي لا تجد لها إجابات مادية، ولكنه بعد كل تلك السنوات وجد نفسه أنه مازال في بداية الطريق، ففتت الذرة، وألصق الجينات وحاول أن يخلق الإنسان الكامل، والبقرة المنتجة، والمحاصيل التي لا تموت، وكذلك حاول أن يهزم الموت حتى يعيش الإنسان إلى الأبد، إلا أنه لم يتمكن من تعريف (الأبدية)، متى تبدأ ومتى تنتهي؟
ولكن الإسلام أوضح لنا – كما هي العادة في منهجيته الواضحة– أنه منذ خلق سيدنا آدم عليه السلام، فإن هذا الإنسان يتمتع بوضعية ليست بالمادية البحتة ولا الروحانية البحتة، فهو ما بين هذا وذلك، فتجره إلى الأرض الشهوات الإنسانية وفي المقابل تسمو به إلى السماء الروحانيات، لذلك يجب أن يلبي مطالب الأرض والسماء حتى يتمكن من العيش بسلام. فهو ثنائي الحاجات، فهو مادي يشارك بقية الكائنات الصفات ويخضع للقوانين الطبيعية وضرورات الحياة، وهذا يمكن رصده وملاحظته، ومن جانب آخر فهو متجاوز للطبيعة المادية وغير خاضع لقوانينها وهذا مرتبط فقط بإنسانيته، فهو حر ومفكر وصاحب إدارة حرة، ذو أخلاق، ويشعر بالجمال ويستشعره، وكذلك فإن الإحساس الروحاني هو الذي يسمو به إلى مرتبة أعلى من الملائكة.
وفي عالم الذرة أو في عالم الغيب، نجد أن هذا الإنسان منذ لحظاته الأولى تميز عن بقية الكائنات في مجموعة من الأمور، كلها مجتمعة تشكل من هذا الإنسان الكائن المتميز، ومن تلك الأمور التالي:
أولاً: العلم؛ يقول تعالى في سورة البقرة – الآية 31 (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائكَةِ فَقَالَ أنبِئونِي بِأسْمَاءِ هَؤلَاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، ونحن اليوم لا نعرف ماذا تعلم سيدنا آدم عليه السلام، ربما حتى اسمي واسمك، ربما حتى موضوع الذكاء الاصطناعي، ربما حتى الأمور التي لم تكتشف بعد، ولكن الذي نعرفه تمام العلم من سياق الآية الكريمة أن العلم الذي كان في عقل آدم عليه السلام لم تتمكن الملائكة من معرفته، فوقفت مبهورة غير مدركة حقيقة هذا الكائن الذي استطاع أن يجمع العلوم من أطرافها، فقالت بكل وضوح في الآية التي بعدها (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
إلا أنه يجب أن يكون واضحًا أن العقل البشري مذهل بصورة غريبة، إذ تشير الدلائل العلمية أن العقل البشري يستطيع تخزين 65000 معلومة جديدة كل ثانية، وأن يستطيع معالجة 2 مليون معلومة في الثانية، وهو يعادل مليار من أقوى الحواسيب الموجودة حاليًا على الكرة الأرضية، على الرغم من ذلك فإن العقل البشري يقف عاجزًا أمام القدرة الإلهية في كثير من الأمور، وبالأحرى والأصح أنه لا ينبغي أن نقارن قدرة العقل البشري بخالقه، فإن هذا المقارنة غير منصفة للطرفين، فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وهو يعرف كل شيء، ولا يخفى عنه شيء، أما عقل الإنسان ففي الكثير من الأحيان يقف عاجزًا عن تفسير بعض الظواهر الطبيعية التي يعيشها ويتعايشها، كالزلازل والأعاصير والأوبئة وما إلى ذلك، فإنه يخضعها للدراسة سنوات، فربما يجد لها تفسيرًا وربما لا يجد.
إلا أن هذا لا يقلل من شأن الإنسان في شيء.
ثانيًا: التكريم؛ بعد أن تفوق سيدنا آدم عليه السلام على الملائكة في القدرة والتفكير العلمي، أمر سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد له إذ قال تعالى (وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلَائكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ أبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، وهذا حصل بالفعل، لذلك فإن هذا الحدث غريب، فالملائكة تلك الكائنات النورانية التي لا تعصي الله سبحانه وتفعل ما تؤمر، هي نفسها مجبرة الآن للسجود لمخلوق مصنوع من طين، إلا أن الله سبحانه وتعالى كرمه بالقدرة والتفكير العلمي.
هذا التكريم من الله سبحانه وتعالى جاء تعبيرًا عن قيمة الإنسان ومكانته المميزة في خلق الله سبحانه. فهذا الإنسان قد أُعطي العقل والقدرة على التعلم والتفكير، مما يجعله مميزًا عن باقي المخلوقات، وبهذا العلم والمعرفة فإنه منح الإرادة الحرة والحرية في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية عنها، وهي ميزة لم تكن متاحة بنفس الشكل للملائكة الذين وُصفوا بالطاعة المطلقة.
ومرة أخرى، فإن هذا التكريم والسجود ليس من أجل عبادة آدم أو أبنائه على مدار التاريخ، وإنما هي لحظة لتبيان الفرق والمفارقة، والتكريم والأفضلية فقط، ولكن تلك الأفضلية لها تبعات وهي تشكل الأمور الأخرى التي سنذكرها.
ثالثًا: الاستخلاف؛ عندما نجح سيدنا آدم في اختبار المعرفة والعلم رفعه الله سبحانه وتعالى إلى مرتبة الاستخلاف، بماذا يعني الاستخلاف؟ يرى عبد المجيد النجار في كتابه (خلافة الإنسان بين الوحي والعقل) إن خلافة الإنسان في هذه الأرض، لا تتمثل بقدرته على استثمارها، والانتفاع بما فيها فحسب؛ بل بقدرته على التأمل والنظر والتفكير في حوادثها وآياتها، وسننها وأسرارها، وكل ذلك تكميلاً وترقية للنفس في وجهتها إلى الله، عبر منهاج العبادة.
وفي المقابل فإن الدكتور عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني يقول: «الخلافة في الأرض، تعني تعمير الأرض بإشاعة الخير والسلام فيها، والعمل على إظهار عظمة الخالق وقدرته، عن طريق الانتفاع بما خلق الله، وتسخير ما في الكون؛ سبب للابتلاء في ظروف هذه الحياة الدنيا، وليس خلافة عن الله، فالله لم يستخلف أحدًا عنه في خلقه، وكيف يستخلف وهو بيده ملكوت كل شيء».
وهذا يعني أن للإنسان وظائف محددة في الأرض، وعليه أن يؤدي كل تلك المهام حتى يظفر بالنجاح ويحقق الهدف النهائي الذي من أجله أنزل إلى الأرض.
رابعًا: التكليف؛ بعد أن بلغ الإنسان مرتبة عالية من الارتقاء وسواء في القدرة العقلية والمعرفة، والتفكير، والإرادة، أصبح جاهزًا ليتبوأ المنزلة التي خلقه الله من أجله، وهو مرحلة التكليف والتي تعني القدرة على حمل الأمانة، ففي لحظة تعد من أهم اللحظات التي مرت على تاريخ البشرية عرض الله سبحانه وتعالى الأمانة على كل الكائنات التي خلقها الله سبحانه مثل: السماوات والأرض والجبال، ويتضح ذلك في الآية الكريمة 72 من سورة الأحزاب (إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)، رفضت كل المخلوقات فقبّل الإنسان تلك الأمانة، وهذا يعني أن هذا الكائن دون الكائنات الأخرى قبِلَ واتخذ القرار. ولكن من الملاحظ أن حمل الأمانة كانت لكل للبشرية، إلا أن التكليف جاء فرديًا.
فمنذ تلك اللحظة غدا الإنسان هو المقصودُ والغاية والهدف، فجاءت الرسل والكتب والتشريعات والأحكام كلها من أجل بناء هذا الكوكب وتنميته واستثماره، فتحول هذا الكوكب الذي كان لا يصلح للسكن إلى الكوكب المناسب لبقاء واستمرار الإنسان. وهكذا توالت الرسلُ، وتتابع الأنبياء، وأُنزلت الكتب، وكلّها تدور على محور واحدٍ، هو الإنسان، بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاءت الشرائع لتأمينِ مصالح الناس بجلب النفع لهم، ودفع المضارّ عنهم، فترشدهم إلى الخير، وتهديهم إلى سواء السبيل، وتدلّهم على البر، وتأخذ بيدهم إلى الهدى القويم، وتكشِفُ لهم طريق الخير، وتحذّرهم من الغواية والشر، وجاءت الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلهـا، وتقليل المفاسد وتعطيلها، فإنّ الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح، أو لدرء المفاسد.
ويبقى السؤال؛ هل قام الإنسان بما يتوجب عليه أم أن اختفاء الله سبحانه وتعالى من أمام ناظريه أغراه بالنسيان وبالتالي الكفر بالنعم وفي كثير من الأوقات بالفجور والبغي، وربما الجحود، على الرغم من أن اختفاء الله من أمام ناظريه لم يكن حقيقيا، إذ إنه سبحانه مطلع على كل صغيرة وكبيرة، إلا أنه سبحانه يريد أن يترك البشرية تخوض تجربتها، فلو كان تدخل الله سبحانه آليًا مباشرًا لصار الإنسان مثل الشجرة والجبل لا يملك القدرة على العصيان، ولمَا تمايز الأبرار عن الفجَّار.
وقبيل الختام، الموضوع لم ينته فهو موضوع يُعد من أكبر الموضوعات المطروحة والتي ما زالت تبحث عن الإجابات المطمئنة، ولكن القرآن الكريم صرح أن هذا الإنسان هو مقام التفضيل والتكريم، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)، الإسراء: 70.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك