في كل عام، وتحديدا في 27 مارس، يحتفي العالم بيوم المسرح العالمي، تلك المناسبة التي تذكرنا بقيمة المسرح كفن إنساني عظيم قادر على تجاوز حدود الترفيه ليصبح أداة للتغيير والتأثير. المسرح ليس مكانا للعرض فقط؛ إنه لقاء حي بين الأفكار والمشاعر، بين الفنان والجمهور، حيث تتولد طاقة فريدة لا يمكن أن تتكرر. إنه مساحة للحوار والبحث عن الحقيقة، حيث تُروى الحكايات وتطرح الأسئلة التي قد لا تجد لها إجابة في أي مكان آخر.
عندما يجلس الجمهور أمام الخشبة، يصبحون جزءًا من اللحظة التي يعيشونها، يتفاعلون معها ويعيدون تشكيلها في ذواتهم. كل عرض مسرحي يحمل طابعا خاصا، لأن التفاعل بين الممثلين والجمهور يخلق إحساسا فريدا في كل مرة. هذه الحيوية هي ما يجعل المسرح مختلفا عن أي فن آخر؛ فهو لا يعكس الواقع فقط، بل يحاول تفكيكه وإعادة تشكيله برؤية فنية تستفز العقل والمشاعر معا.
على مر العصور، كان المسرح أداة للتعبير والنقد وحتى المقاومة. في اليونان القديمة، كان المسرح ساحة للنقاش الفكري والسياسي. استخدم أرستوفان الكوميديا للسخرية من الأوضاع السياسية والاجتماعية بأسلوب لاذع جعل منه أحد أبرز رواد الكوميديا الساخرة. وفي العصور الوسطى الأوروبية، حين فرضت الكنيسة رقابة مشددة على الفكر، لجأ المسرحيون إلى الترميز والإيحاء لنقل رسائلهم بعيدا عن أعين الرقيب.
وقد برزت مقولة شهيرة للكاتب والمفكر الفرنسي فيكتور هوغو عن دور المسرح في مسيرة المجتمعات إذ يقول: «أعطني مسرحا أعطك شعبا عظيما» وقد اخترت أن تكون عنوانا لهذا المقال.
أما في العالم العربي، فقد نشأ المسرح بأساليب مختلفة تعكس ثقافة المنطقة. بدأت بعروض الحكواتي وخيال الظل كوسيلة لنقل الحكايات الشعبية ومناقشة القضايا الاجتماعية بأسلوب فكاهي وناقد. ومع دخول القرن التاسع عشر، سعى رواد المسرح العربي مثل مارون النقاش إلى تأسيس تجربة حديثة تستلهم الأساليب الغربية دون أن تفقد ارتباطها بالهوية المحلية.
في البحرين، بدأت الحركة المسرحية كجزء من الأنشطة التعليمية في المدارس. ففي عام 1925، قدمت مدرسة الهداية الخليفية بالمحرق أول مسرحية مدرسية بعنوان «القاضي بأمر الله»، لتكون نقطة انطلاق للمسرح البحريني. لاحقا، توسع النشاط ليشمل الأندية الثقافية والأدبية في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث ظهرت فرق تمثيلية قدمت عروضا متنوعة.
شهدت فترة السبعينيات ازدهارًا كبيرا مع تأسيس المسارح مثل مسرح أوال ومسرح الجزيرة اللذين قدما أعمالا جمعت بين التراث والتجريب. هذه المسارح لعبت دورًا مهما في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية بأسلوب درامي مؤثر. وفي التسعينيات، جاء تأسيس مسرح الصواري ليضيف بعدا جديدا للحركة المسرحية البحرينية من خلال التركيز على التجريب واستلهام تقنيات المسرح الآسيوي.
اليوم، يمثل مسرح البحرين الوطني الذي افتتح عام 2012 علامة فارقة في تاريخ المسرح البحريني. بسعة 1000 مقعد وتصميم معماري مميز يعكس الهوية الثقافية للبحرين، أصبح هذا الصرح نافذة للعروض العالمية ومنصة لدعم المواهب المحلية. في السنوات الأخيرة، أثبت الشباب البحرينيون قدراتهم اللافتة في الأداء المسرحي، مقدمين عروضا تعكس نضجهم الفني وإبداعهم المتجدد، مما يجعلهم جديرين بكل أشكال الدعم والتشجيع. بالإضافة إلى ذلك، تقدم مبادرات مثل مسرح الصواري وبرنامج «مسرحي سأكون» فرصا قيمة للشباب لتطوير مهاراتهم المسرحية وتعزيز ثقافتهم الفنية.
للمضي قدما في تعزيز الحركة المسرحية البحرينية، يمكننا البناء على هذه المبادرات الناجحة وتوسيع نطاقها لتشمل عددًا أكبر من الشباب الطموحين. كما يمكننا الاستفادة من التكنولوجيا لجعل العروض أكثر جاذبية للجمهور الحديث، مثل دمج تقنيات الواقع الافتراضي والإضاءة الذكية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز الدعم الإعلامي للعروض الشبابية وتسليط الضوء على المواهب الجديدة من خلال وسائل الإعلام والمنصات الرقمية.
في عصر السرعة والمحتوى الرقمي الذي أصبح متاحا بضغطة زر، يواجه المسرح تحديا كبيرا للحفاظ على مكانته كفن يعتمد على التفاعل الحي بين الفنان والجمهور. لكن هذه المنافسة ليست بالضرورة تهديدا؛ بل فرصة لتجديد نفسه وابتكار أساليب جديدة لجذب الجمهور الحديث.
يمكن للمسرح أن يستفيد من التكنولوجيا بطرق مبتكرة مثل تسجيل العروض وبثها عبر الإنترنت للوصول إلى جمهور أوسع دون أن يفقد جوهره كفن يعتمد على التفاعل المباشر. ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للمسرح أن يحافظ على قيمته الإنسانية؟ الجواب يكمن في العودة إلى جوهره الأساسي؛ وهو التفاعل الإنساني الذي يجعل المشاهد يشعر بأنه جزء من القصة.
يوم المسرح العالمي ليس احتفالا سنويا فقط؛ بل دعوة إلى تقدير هذا الفن ودعمه ليظل حاضرا ومؤثرا في حياتنا اليومية. إذا أردنا أن نحافظ على جوهره ونضمن استمراريته للأجيال القادمة، فعلينا أن نوفر بيئة داعمة للفنانين الشباب ونشجع الابتكار والإبداع دون قيود.
المسرح يبقى ذلك الفضاء الحر الذي يتسع لكل الأصوات والحكايات والأسئلة التي قد لا تجد لها مكانا آخر. إنه مرآة لما نحن عليه وما نطمح أن نكون عليه. وفي كل مرة يرفع فيها الستار، يولد الأمل من جديد.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك