«لا أعتقد أننا سنعود إلى ما كنا عليه من قبل»، كانت هذه كلمات أليكس يونجر، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الخارجية البريطانيMI6 ، والتي جاءت في حديث له مع شبكةBBC ، في إطار رده على حالة النظام الدولي بعد مرور 6 أسابيع فقط من رئاسة دونالد ترامب الثانية. وأضاف يونجر: «نحن في حقبة جديدة حيث لن يتم تحديد العلاقات الدولية بشكل عام من خلال القواعد والمؤسسات متعددة الأطراف، سيتم تحديدها من قبل الرجال الأقوياء والصفقات.. هذه هي عقلية دونالد ترامب، وبالتأكيد عقلية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإنها عقلية الرئيس الصيني شى جين بينج».
حتى اليوم، لم تفق دوائر السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية من صدمة تصويت الولايات المتحدة – إلى جانب روسيا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا وعدة دول إفريقية تحكم بعضها ديكتاتوريات عسكرية– ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين العدوان الروسي في الذكرى الثالثة لغزو أوكرانيا. وعكَس تصويت أمريكا مؤشرا واضحا لاستعداد ترامب للاستهزاء بالمعايير وثوابت السياسة الخارجية الأمريكية، ودرجة التمرد والتخلي عن الشركاء.
منذ وصوله إلى الحكم، يتساءل كثير من الخبراء عن محركات الرئيس ترامب في قضايا السياسة الخارجية، وضاعف من صعوبة السؤال غياب وجود إطار أيديولوجي ينزع إليه ترامب أو يلتزم به. وفى الوقت الذي تبدو فيه الفوضى والجهل كأكثر ما يميز مواقف ترامب تجاه قضايا السياسة الخارجية، ترجم بعض علماء السياسة سياسات ومواقف الرئيس الأمريكي كانعكاس لتبنيه مبدأ «أمريكا أولا»، أو سياسة «اللامبدأ في السياسة الخارجية».
رغم منطقية تحليل بعض الخبراء ممن يصفون سياسة ترامب الخارجية بأنها تتسم بالعشوائية والفوضى، إلا أنه يمكن تقسيم هذه السياسات إلى أربعة عناصر تشمل ضغطا كبيرا ومستمرا على الحلفاء والأعداء، وقد تُسهل من فهم سياسة ترامب الخارجية.
أولا: ضغط استراتيجي على المنافسين، خاصة الصين وكوريا الشمالية وروسيا وإيران: يدرك ترامب أن هذه الدول تمثل تهديدا للهيمنة الأمريكية عالميا وإقليميا، إلا أنه يؤمن أن الصين وحدها هي التي بإمكانها تحدى الهيمنة الأمريكية عالميا، فروسيا دولة متوسطة القدرات، أما كوريا الشمالية فمحدودة القدرات باستثناء السلاح النووي، بينما إيران مرهقة إقليميا وتخضع لعقوبات كافية. لذا، الصين هي محرك ترامب في مختلف قضايا السياسة الخارجية، ومع ذلك فرض ترامب عقوبات على إيران، وهدد بفرض عقوبات على روسيا ودفعها لتحمل أثمانا باهظة إذا لم يتوقف القتال في أوكرانيا.
في الوقت ذاته، لم يلتفت ترامب بعد لكوريا الشمالية. وعلى أي حال، لا يمكن استبعاد الخطر والتهديد الصينييْن من سياق كل مبادرات ترامب الخارجية سواء فكرة شراء جرينلاند أو السيطرة على قناة بنما أو حتى ضم كندا، ناهينا عن علاقة واشنطن بحلف الناتو.
ثانيا: ضغط جيواستراتيجي على الحلفاء: أقدم ترامب على الضغط غير المسبوق على حلفاء واشنطن الأهم في حلف الناتو أو الحليفين الكبيرين في شرق آسيا، اليابان وكوريا الجنوبية، أو حتى حلفاء واشنطن في المنطقة العربية. بالنسبة إلى الفئة الأولى، فينادى ترامب بضرورة زيادة حجم الإنفاق الدفاعي لدول حلف الناتو ليصل إلى 5% من الناتج القومي الإجمالي. وبالنسبة إلى الفئة الثانية، فهو يضغط على سول وطوكيو لتغطية تكلفة وجود عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين في بلادهما والتي تقدر بمليارات الدولارات سنويا، من ناحية أخرى لا يتوقف ترامب عن طلب أن تتكفل دول الخليج العربي بتمويل أي أفكار أمريكية في المنطقة خاصة ما يتعلق بمستقبل غزة.
قبل سبعين عاما، قال الأمين العام الأول لحلف الناتو اللورد هاستينج إيسمي: «إن الحلف يهدف إلى بقاء روسيا خارج أوروبا، وأمريكا داخل أوروبا، وألمانيا داخل حدودها». وبعد مرور سبعين عاما على تأسيس الحلف ومرور ثلاثين عاما على انتهاء الحرب الباردة، أعاد الرئيس ترامب طرح سؤال كان يعد من المحرمات في العاصمة الأمريكية حول جدوى وأهمية بقاء التحالف العسكري الذي يجمع الولايات المتحدة بجارتها الشمالية كندا، و29 دولة أوروبية.
ثالثا: ضغط اقتصادي على المنافسين الاقتصاديين وخاصة الصين وظهر ذلك جليا في الحرب التجارية الدائرة بين أكبر اقتصادين في العالم، والتي نتج عنها فرض تعريفات وتعريفات مضادة من واشنطن وبكين.
منذ حملته الانتخابية الأولى لم يتوقف الرئيس ترامب عن اتهام الصين بممارسة سياسات تجارية غير عادلة تجاه السوق والمنتجات الأمريكية، في حين ترى الصين أن ترامب يستهدف عرقلة الصعود الصيني السياسي والاقتصادي.
رابعا: ضغط اقتصادي على الحلفاء التجاريين الآسيويين والأوروبيين، والجارتين كندا والمكسيك. ولم يسلم أيضا حلفاء واشنطن من العقوبات والتعريفات التجارية الأمريكية: دخل ترامب في مواجهات تجارية مع المكسيك وكندا، وفرض تعريفات قيمتها 25%، وعاد وأجل تطبيقها مدة شهر واحد، كما فرض تعريفات على منتجات الحديد والألومنيوم، وتعهد بفرض تعريفات تصل إلى 25% على الواردات الأوروبية.
يرى ترامب أنه بذلك يحمى العامل والمنتج الأمريكي، بفرضه تعريفات جمركية وضرائب على المنتجات الواردة من كبار شركاء واشنطن التجاريين المنافسين منهم والحلفاء.
هكذا يبدو أن ترامب يتبنى سياسة خارجية قومية يراها أكثر إنصافا للمصالح الأمريكية المادية التي تجاهلتها الإدارات السابقة، ولا يريد أن تنفق واشنطن على تكلفة وجود قواعد عسكرية لحماية بعض الدول خاصة الغنية منها.
كما لا ينتظر أن تغير الإدارات القادمة في عصر ما بعد ترامب من هذا النهج الذي يلقى دعما من الحزب الجمهوري والبعض في الحزب الديمقراطي. وربما تدشن قومية السياسات الخارجية في عهد ترامب مبدأ أو عقيدة سياسية جديدة ينتهجها حكام البيت الأبيض في المستقبل.
{ كاتب صحفي مختص
في الشؤون الأمريكية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك