خلال الأسابيع الأولى من رئاسة «دونالد ترامب»، الثانية طغى الشرق الأوسط على أبرز قراراته الخارجية. وفي إطار ما وصفه «برايان كاتوليس»، من «معهد الشرق الأوسط»، بـ«عملية ارتجال في السياسة الخارجية»، أيّد الرئيس الأمريكي التطهير العرقي لأكثر من مليوني فلسطيني لتسهيل إعادة إعمار غزة، باعتبارها «ريفييرا الشرق الأوسط»، تحت إشراف الإدارة الأمريكية، واستفاد من موضع السعودية الصاعد، كوسيط في الأزمات الدولية لمحاولة التفاوض على وقف إطلاق النار في الحرب المستعرة منذ ثلاث سنوات بين روسيا وأوكرانيا.
ومنذ يناير 2025، أظهرت إدارته نهجًا أقل تشددًا في سياساتها تجاه إيران، وبرنامجها النووي. وبينما اعتبر «كاتوليس» أن هذا الملف «لا يزال التحدي الاستراتيجي الأكبر الذي تواجهه أمريكا في الشرق الأوسط»، فقد أشار إلى أن «الإدارة الجمهورية»، تفتقر حتى الآن إلى «بوصلة استراتيجية واضحة»، للتعامل مع هذه القضية، ما أدى إلى إرسال «رسائل متضاربة».
في الوقت نفسه، يواصل البرنامج النووي الإيراني تقدمه. وبينما كان «الاتفاق النووي»، المعروف بـ«خطة العمل الشاملة المشتركة»، الذي انسحب منه «ترامب» في 2018، يفرض قيودًا على تخصيب اليورانيوم عند مستوى 3.67%، فإن أحدث تقارير «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» تكشف أن إيران تمتلك نحو 275 كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي كمية تكفي لإنتاج ست قنابل نووية إذا وصلت نسبة التخصيب إلى 90%. ومع تصاعد خطر توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية، أوضحت وسائل إعلام غربية أن إيران تكثف جهودها لتعزيز قدرتها على إنتاج أسلحة نووية.
وقبل عودته إلى البيت الأبيض، كتب «جيمس ليندسي»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، عن التزام ترامب بنهجه الثابت في خططه، حيث كان يعتزم إعادة تفعيل حملة «الضغط الأقصى»، عبر العقوبات الاقتصادية لإجبار طهران على «الحد من برامجها النووية، والصواريخ الباليستية، وكبح دعمها لوكلائها المسلحين» في المنطقة، ومن ثم، وقع في 4 فبراير 2025 أمرًا تنفيذيًا، بإعادة فرض عقوبات «الضغط الأقصى»، مستهدفًا خفض صادراتها النفطية في السوق الدولية إلى الصفر.
وأشار «ليندسي» إلى أن حملة «الضغط الأقصى» –رغم أنها «ضيّقت الخناق على الاقتصاد الإيراني»، وزادت الضغوط المحلية والدولية على كبار مسؤوليها– إلا أنها «أخفقت» في إجبارها على التفاوض على اتفاق نووي جديد من موقف ضعف. لذلك، في عام 2025، أشار «كاتوليس»، إلى أن البيت الأبيض أبدى أيضًا رغبته في «استكشاف سبل لإجراء محادثات مع طهران»، بشأن الانتشار النووي في المنطقة، مستندًا إلى النهج التقليدي لترامب الذي يجمع بين الإطراء والتهديدات الصريحة.
وخلال ولايته الثانية شدد مستشاره للأمن القومي، «مايك والتز»، على أن «جميع الخيارات مطروحة»، في التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، مؤكدًا أن الإدارة الأمريكية لن تدخل في مفاوضات مع طهران ما لم توافق الأخيرة على «التخلي الكامل عن برنامجها ووقف ألاعيبها». وفي مارس 2025، أشار الرئيس الأمريكي إلى «وجود خيارين للتعامل معها»؛ إما «التدخل العسكري»، وإما «إبرام صفقة»، مشددًا على عزمه «إتمام صفقة كبيرة»، لكنها لن تكون وفق شروط «خطة العمل الشاملة المشتركة»، معتبرًا أن مثل هذه «الصفقة قصيرة الأجل» لن تكون حاسمة بالشكل الكافي، ولا تلبّي تطلعات واشنطن.
من جانبه، رأى «كاتوليس» أن إرسال «إدارة ترامب» رسالة إلى طهران تتضمن مقترحًا بإجراء مفاوضات حول مستقبل برنامجها النووي عبر دولة الإمارات يأتي في سياق «تحركات جيوسياسية أوسع»، و«قد يؤثر على الديناميكيات الاستراتيجية الإقليمية». وأوضح «باراك رافيد»، من موقع «أكسيوس»، أن الرسالة نُقلت إلى الإيرانيين عبر اجتماع «ستيف ويتكوف»، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، مع قادة إماراتيين، الذين بدورهم أوصلوها إلى طهران. ووفقًا لترامب نفسه، عبّرت الرسالة عن «أمله» أن يوافق المسؤولون الإيرانيون على محادثات جديدة بشأن الاتفاق، محذرًا من أن «التدخل العسكري، إن حدث، سيكون كارثيًا».
وفي حين رفض المرشد الأعلى الإيراني «علي خامنئي» مقترح ترامب، ووصفه بأنه «خداع»، مؤكّدًا للإعلام الغربي أنه إذا قررت طهران تطوير أسلحة نووية «فلن تتمكن أمريكا من إيقافنا»، فقد أشارت «البعثة الدبلوماسية الإيرانية» في الأمم المتحدة إلى أن المفاوضات قد تكون «محل دراسة»، إذا كان الهدف منها «معالجة المخاوف الغربية بشأن احتمال أن يكون البرنامج النووي الإيراني ذا طابع عسكري».
ورغم تأكيد «جوناثان لورد»، من «مركز الأمن الأمريكي الجديد»، أن ترامب أعلن «بوضوح» عن رغبته في عقد اتفاق مع إيران؛ فإنه من الصعب تجاهل العوامل العديدة داخل الولايات المتحدة، إضافة إلى الضغوط التي يمارسها حلفاؤها الإسرائيليون على إدارته لدفعها نحو استخدام القوة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية. ورأى «جيسون برودسكي»، من منظمة «متحدون ضد إيران النووية»، أن «واشنطن»، و«طهران»، «تتجهان حاليًا نحو المواجهة، وليس نحو حل دبلوماسي»، مشيرًا إلى أن الأخيرة «لم تخفف بعد من موقفها بشأن ملفها النووي». وأكد «جوليان بورغر»، في صحيفة «الجارديان»، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، «بنيامين نتنياهو»، تعهد «بإنهاء مهمة» تحييد البرنامج النووي الإيراني بدعم أمريكي، وأن إسرائيل تسعى إلى «جرّ» إدارة ترامب نحو توجيه ضربات مستقبلية ضد المواقع النووية الإيرانية.
ومع إشارة «وكالات الاستخبارات الأمريكية» إلى أن إسرائيل قد تشنّ ضربة ضد البرنامج النووي الإيراني في النصف الأول من 2025، تساءلت «أريان طباطبائي»، من مؤسسة «راند»، عن «كيفية تأثير الاستفزازات الإسرائيلية على تصاعد التوترات داخل إدارة ترامب»، بين معسكر «ضبط النفس»، ومن هم «أكثر ميلاً» لاستخدام القوة. ومع ذلك، أشارت إلى أنه في «الأيام الأولى» للإدارة الجديدة لم يتضح بعد «أي فريق سيحظى بمزيد من النفوذ في العملية، ويتولى زمام الأمر في نهاية المطاف».
وسبق أن وجّه «ترامب» تهديدات مبطنة باستخدام القوة العسكرية ضد إيران في حال عدم موافقتها على التفاوض بشأن اتفاق نووي جديد، ففي 7 مارس صرّح بأن «شيئًا ما سيحدث قريبًا جدًا»، مشيرًا إلى أنه رغم تفضيله «رؤية اتفاق سلام»، بديلًا عن «الخيار العسكري»، فإنه شدد على فعالية هذا الخيار، وقدرته على «حل المشكلة».
وفي ظل هذا الضغط، كتبت «إيف سامبسون»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، عن انقسام الداخل الإيراني بشأن إمكانية التفاوض مع إدارة ترامب حول اتفاق نووي جديد، حيث يميل «القادة المعتدلون والإصلاحيون» إلى هذا الخيار، بينما رفضه «خامنئي»، متسائلًا: «عندما نعلم أنهم لن يحترموه، فما الفائدة من التفاوض؟». وفي هذا السياق، أشار «جون غامبريل»، و«ويل فايسرت»، من وكالة «أسوشييتد برس»، إلى «التراجع الكبير» في قيمة العملة الإيرانية، إلى جانب تفاقم البطالة، ونقص فرص العمل، فضلًا عن الضربات التي تلقاها ما يُعرف بـ«محور المقاومة»، بفعل عمليات الاغتيال الإسرائيلية التي استهدفت العديد من قادته.
وإدراكًا لنهج ترامب الجيوسياسي القائم على «التدخل بقوة» لإبرام صفقة تصب في مصلحة الولايات المتحدة؛ رأى «أليكس فاتانكا»، من «معهد الشرق الأوسط»، أن هذا الأسلوب «قد يكون فعالًا مع بعض الدول في أوروبا أو أمريكا اللاتينية»، لكنه أقل احتمالًا للنجاح مع إيران، مشيرا إلى أن «خامنئي» يتعامل بحذر بالغ في رده على ترامب، تفاديًا لأي ضرر بصورته الشخصية، وسعيًا للحفاظ على مكانته كرمز بارز في الشرق الأوسط «يتحدى الغطرسة الغربية».
وتبرز ديناميكية أخرى مؤثرة، تتمثل في التقارير التي تشير إلى حصول ترامب على موافقة الرئيس الروسي، «فلاديمير بوتين»، للتوسط في أي مفاوضات أمريكية-إيرانية مستقبلية. وفي هذا السياق، رأى «لورد»، أن على إدارة ترامب «التخلي فورًا» عن «سعيها غير الحكيم»، للتعاون مع موسكو بشأن اتفاق نووي إيراني جديد، موضحا أن «روسيا قوضت المصالح الوطنية الأمريكية في الشرق الأوسط» من خلال دعم خصومها، ومساعدة إيران في تطوير برنامجها الصاروخي الباليستي، وانتهاك العقوبات الدولية المفروضة على الاقتصاد الإيراني».
وكما رأت «سنام فاكيل»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، فإن ترامب، خلال أول شهرين من ولايته الثانية، «كبح رغبة إسرائيل في ضرب المواقع النووية الإيرانية»، وأصدر أوامر تنفيذية «لخفض مبيعات النفط الإيراني». ومع ذلك، أشارت إلى أن الإدارة الجمهورية العائدة ستواصل جهودها «لاستكشاف مدى استعداد طهران للدخول في مفاوضات جديدة في المستقبل».
ويبقى إرسال رسالة إلى إيران عبر الإمارات محاولة لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهي خطوة ربما رفضها خامنئي شخصيًا، لكن النظام عمومًا أظهر «بعض الانفتاح على المحادثات». وفي هذا السياق، حث «كاتوليس» المراقبين على «ترقب الأمر بعناية». ومع ذلك، رأى «لورد» أن على إدارة ترامب الاستعانة بدول غربية أخرى «لجعل حملة الضغط الأقصى جهدًا متعدد الأطراف»، بحيث يمكن مخاطبة إيران من «موقع قوة».
ومع ذلك، فقد أثرت قرارات السياسة الخارجية الأخرى لترامب سلبًا على الأمن الأوروبي، وأدت إلى ضعف التعاون والثقة عبر الأطلسي، ما قلل من احتمالية دعم الدول الأوروبية لأي استراتيجية أمريكية ضد إيران، وخاصة إذا كان هناك أي تدخل روسي في هذا المسار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك