العدد : ١٧١٧٢ - السبت ٢٩ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٢ - السبت ٢٩ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ رمضان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

التهجير القسري الهدف الحقيقي لاستئناف العدوان

بقلم: د. طارق عباس

الأربعاء ٢٦ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

لم‭ ‬تعد‭ ‬إسرائيل‭ ‬معنية‭ ‬بالتواصل‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬سلما‭ ‬أو‭ ‬حرب،‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬التفاوض‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬ولا‭ ‬مع‭ ‬حماس‭ ‬ولا‭ ‬أي‭ ‬فصيل‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬عسكري،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يشغلها‭ ‬هو‭ ‬اتخاذ‭ ‬كافة‭ ‬الإجراءات‭ ‬واتباع‭ ‬السياسات‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬عدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬بدولة‭ ‬للفلسطينيين،‭ ‬بل‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬المستوطنات‭ ‬فوق‭ ‬أراضيهم‭ ‬وانتزاعها‭ ‬بقوة‭ ‬السلاح‭ ‬وتركهم‭ ‬أسرى‭ ‬خيارين،‭ ‬كلاهما‭ ‬مر،‭ ‬إما‭ ‬الموت‭ ‬وإما‭ ‬الرحيل‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬قهرا‭ ‬أو‭ ‬طوعا‭. ‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬التحركات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬تتطابق‭ ‬مع‭ ‬الأهداف‭ ‬الموضوعة‭ ‬والمحددة،‭ ‬حيث‭ ‬يشهد‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬الأشهر‭ ‬الأخيرة‭ ‬تصعيدًا‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬حيث‭ ‬تجاوزت‭ ‬الهجمات‭ ‬حدود‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬التقليدية‭ ‬لتتحول‭ ‬إلى‭ ‬سياسة‭ ‬ممنهجة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تفريغ‭ ‬القطاع‭ ‬من‭ ‬سكانه،‭ ‬وتدمير‭ ‬الأحياء‭ ‬السكنية،‭ ‬واستهداف‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬ومنع‭ ‬إعادة‭ ‬الإعمار‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬نتائج‭ ‬جانبية‭ ‬للحرب،‭ ‬بل‭ ‬تبدو‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬خطة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬دفع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬للخروج‭ ‬القسري‭ ‬من‭ ‬أرضهم‭. ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬يطرح‭ ‬السؤال‭ ‬نفسه‭: ‬هل‭ ‬أصبح‭ ‬التهجير‭ ‬هو‭ ‬الهدف‭ ‬الحقيقي‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬الممارسات؟

الهدف‭ ‬هو‭ ‬استهداف‭ ‬شامل‭ ‬وتدمير‭ ‬ممنهج‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬ينبض‭ ‬بالحياة‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬والدليل‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬العدوان‭ ‬الأخير‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬الهجمات‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬عسكرية،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬إلى‭ ‬الأحياء‭ ‬المكتظة‭ ‬بالسكان،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬مقتل‭ ‬آلاف‭ ‬المدنيين‭ ‬وتشريد‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭. ‬التقارير‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الاحتلال‭ ‬يستخدم‭ ‬أسلوبًا‭ ‬مدروسًا‭ ‬لضرب‭ ‬كل‭ ‬مقومات‭ ‬الحياة‭: ‬قصف‭ ‬محطات‭ ‬الكهرباء،‭ ‬تدمير‭ ‬المستشفيات،‭ ‬استهداف‭ ‬الطرق‭ ‬والجسور،‭ ‬وقطع‭ ‬إمدادات‭ ‬الماء‭ ‬والغذاء‭. ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفسيرها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬السكان‭ ‬لدفعهم‭ ‬نحو‭ ‬النزوح‭ ‬الجماعي‭.‬

التصريحات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬وضوح‭ ‬هذه‭ ‬النية،‭ ‬حيث‭ ‬لمّح‭ ‬بعض‭ ‬المسؤولين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بقاء‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬ليس‭ ‬خيارًا‭ ‬مقبولًا،‭ ‬وأنه‭ ‬يجب‭ ‬‮«‬إيجاد‭ ‬حلول‭ ‬جذرية‮»‬‭ ‬للصراع‭. ‬

في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬هناك‭ ‬تقارير‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬مقترحات‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬نقل‭ ‬سكان‭ ‬القطاع‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬في‭ ‬سيناء‭ ‬أو‭ ‬دول‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬تكرار‭ ‬واضح‭ ‬لسياسة‭ ‬التهجير‭ ‬القسري‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬وعام‭ ‬1967‭.‬

‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجرى‭ ‬هو‭ ‬مجرد‭ ‬نزوح‭ ‬مؤقت‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب،‭ ‬لكن‭ ‬التدقيق‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭ ‬يكشف‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬فالاحتلال‭ ‬لا‭ ‬يكتفى‭ ‬بإجبار‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬بيوتهم،‭ ‬بل‭ ‬يمنعهم‭ ‬من‭ ‬العودة،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬عدة‭ ‬بالضفة‭ ‬الغربية‭ ‬والقدس‭. ‬وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬هناك‭ ‬دلائل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬تسعى‭ ‬لإحداث‭ ‬تغيير‭ ‬ديموغرافي‭ ‬طويل‭ ‬الأمد،‭ ‬عبر‭ ‬منع‭ ‬إعادة‭ ‬إعمار‭ ‬المناطق‭ ‬المدمرة،‭ ‬وفرض‭ ‬حصار‭ ‬خانق‭ ‬يمنع‭ ‬أي‭ ‬عودة‭ ‬طبيعية‭ ‬للحياة‭. ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬نشهد‭ ‬عمليات‭ ‬مشابهة،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تهجير‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬قراهم‭ ‬عبر‭ ‬هدم‭ ‬المنازل‭ ‬ومصادرة‭ ‬الأراضي‭. ‬هذه‭ ‬الممارسات‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬أمنى،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬استيطاني‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تقليل‭ ‬الوجود‭ ‬الفلسطيني‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينطبق‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬غزة‭ ‬أيضًا‭.‬

ورغم‭ ‬فداحة‭ ‬الجرائم‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬يبقى‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬الدولي‭ ‬ضعيفًا‭. ‬الإدانات‭ ‬الشكلية‭ ‬والبيانات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬لا‭ ‬تغير‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬شيئًا،‭ ‬بينما‭ ‬تستمر‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الدعم‭ ‬السياسي‭ ‬والعسكري‭ ‬لإسرائيل‭. ‬المؤسسات‭ ‬الحقوقية‭ ‬وثّقت‭ ‬عمليات‭ ‬التهجير‭ ‬القسري،‭ ‬وصنفتها‭ ‬كجرائم‭ ‬حرب‭ ‬وفق‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يترجم‭ ‬إلى‭ ‬إجراءات‭ ‬عملية‭ ‬توقف‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭.‬

في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬يلعب‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربي‭ ‬دورًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬تبييض‭ ‬صورة‭ ‬الاحتلال،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تصوير‭ ‬الأحداث‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬صراع‭ ‬متبادل‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬طرفًا‭ ‬محتلًا‭ ‬يمارس‭ ‬تهجيرًا‭ ‬ممنهجًا‭ ‬ضد‭ ‬شعب‭ ‬بأكمله‭.‬

ما‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬عدوان‭ ‬عسكري،‭ ‬بل‭ ‬محاولة‭ ‬لإعادة‭ ‬رسم‭ ‬الخريطة‭ ‬السكانية‭ ‬بالقوة‭. ‬الاحتلال‭ ‬يدرك‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬لكنه‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تقليل‭ ‬عددهم‭ ‬داخل‭ ‬فلسطين‭ ‬نفسها،‭ ‬وجعل‭ ‬الحياة‭ ‬مستحيلة‭ ‬لمن‭ ‬يبقى‭.‬

أمام‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬توثيق‭ ‬الجرائم‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬وفضح‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬أمام‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬العالمي‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المقاومة‭ ‬بأشكالها‭ ‬المختلفة،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬الصمود‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬أو‭ ‬التحرك‭ ‬القانوني‭ ‬والدبلوماسي،‭ ‬يبقى‭ ‬السلاح‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هذا‭ ‬المخطط؛‭ ‬فالتاريخ‭ ‬أثبت‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬النكبات،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬متمسكًا‭ ‬بأرضه،‭ ‬والتهجير‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬قدره‭ ‬المحتوم‭.‬

{ ‭ ‬كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬أكاديمي‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا