لم تعد إسرائيل معنية بالتواصل مع الفلسطينيين سلما أو حرب، لا تريد التفاوض مع السلطة ولا مع حماس ولا أي فصيل سياسي أو عسكري، كل ما بات يشغلها هو اتخاذ كافة الإجراءات واتباع السياسات التي من شأنها عدم الاعتراف بدولة للفلسطينيين، بل العمل على بناء المستوطنات فوق أراضيهم وانتزاعها بقوة السلاح وتركهم أسرى خيارين، كلاهما مر، إما الموت وإما الرحيل عن الأرض قهرا أو طوعا.
ولا شك في أن التحركات الإسرائيلية على الأرض تتطابق مع الأهداف الموضوعة والمحددة، حيث يشهد قطاع غزة في الأشهر الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق من قبل الاحتلال الإسرائيلي، حيث تجاوزت الهجمات حدود العمليات العسكرية التقليدية لتتحول إلى سياسة ممنهجة تهدف إلى تفريغ القطاع من سكانه، وتدمير الأحياء السكنية، واستهداف البنية التحتية، ومنع إعادة الإعمار ليست مجرد نتائج جانبية للحرب، بل تبدو كجزء من خطة تهدف إلى دفع الفلسطينيين للخروج القسري من أرضهم. في ظل هذا الواقع، يطرح السؤال نفسه: هل أصبح التهجير هو الهدف الحقيقي وراء هذه الممارسات؟
الهدف هو استهداف شامل وتدمير ممنهج لكل ما ينبض بالحياة في قطاع غزة أو في الضفة الغربية، والدليل أنه منذ بداية العدوان الأخير لم تقتصر الهجمات على مواقع عسكرية، بل امتدت إلى الأحياء المكتظة بالسكان، ما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين وتشريد مئات الآلاف. التقارير تؤكد أن الاحتلال يستخدم أسلوبًا مدروسًا لضرب كل مقومات الحياة: قصف محطات الكهرباء، تدمير المستشفيات، استهداف الطرق والجسور، وقطع إمدادات الماء والغذاء. هذه السياسات لا يمكن تفسيرها إلا في إطار الضغط على السكان لدفعهم نحو النزوح الجماعي.
التصريحات الإسرائيلية تزيد من وضوح هذه النية، حيث لمّح بعض المسؤولين إلى أن بقاء الفلسطينيين في غزة ليس خيارًا مقبولًا، وأنه يجب «إيجاد حلول جذرية» للصراع.
في الوقت نفسه، هناك تقارير تشير إلى مقترحات تدعو إلى نقل سكان القطاع إلى مناطق في سيناء أو دول أخرى، في تكرار واضح لسياسة التهجير القسري التي شهدها الفلسطينيون عام 1948 وعام 1967.
قد يبدو للوهلة الأولى أن ما يجرى هو مجرد نزوح مؤقت بسبب الحرب، لكن التدقيق في التفاصيل يكشف أن الأمر أعمق من ذلك. فالاحتلال لا يكتفى بإجبار الناس على ترك بيوتهم، بل يمنعهم من العودة، كما فعل في مناطق عدة بالضفة الغربية والقدس. وبالإضافة إلى ذلك، هناك دلائل على أن إسرائيل تسعى لإحداث تغيير ديموغرافي طويل الأمد، عبر منع إعادة إعمار المناطق المدمرة، وفرض حصار خانق يمنع أي عودة طبيعية للحياة. في الضفة الغربية، نشهد عمليات مشابهة، حيث يتم تهجير الفلسطينيين من قراهم عبر هدم المنازل ومصادرة الأراضي. هذه الممارسات ليست مجرد رد فعل أمنى، بل هي جزء من مشروع استيطاني يسعى إلى تقليل الوجود الفلسطيني إلى الحد الأدنى، وهو ما ينطبق الآن على غزة أيضًا.
ورغم فداحة الجرائم الإسرائيلية، يبقى رد الفعل الدولي ضعيفًا. الإدانات الشكلية والبيانات الدبلوماسية لا تغير من الواقع شيئًا، بينما تستمر بعض الدول في تقديم الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل. المؤسسات الحقوقية وثّقت عمليات التهجير القسري، وصنفتها كجرائم حرب وفق القانون الدولي، لكن هذا لم يترجم إلى إجراءات عملية توقف هذه السياسات.
في الوقت نفسه، يلعب الإعلام الغربي دورًا كبيرًا في تبييض صورة الاحتلال، حيث يتم تصوير الأحداث على أنها «صراع متبادل»، بينما الحقيقة هي أن هناك طرفًا محتلًا يمارس تهجيرًا ممنهجًا ضد شعب بأكمله.
ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد عدوان عسكري، بل محاولة لإعادة رسم الخريطة السكانية بالقوة. الاحتلال يدرك أنه لا يستطيع القضاء على الفلسطينيين، لكنه يسعى إلى تقليل عددهم داخل فلسطين نفسها، وجعل الحياة مستحيلة لمن يبقى.
أمام هذا الواقع، لا بد من توثيق الجرائم الإسرائيلية وفضح هذه السياسات أمام الرأي العام العالمي. كما أن المقاومة بأشكالها المختلفة، سواء عبر الصمود على الأرض، أو التحرك القانوني والدبلوماسي، يبقى السلاح الأهم في مواجهة هذا المخطط؛ فالتاريخ أثبت أن الشعب الفلسطيني، رغم كل النكبات، لا يزال متمسكًا بأرضه، والتهجير لن يكون قدره المحتوم.
{ كاتب وباحث أكاديمي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك