وضع ستيفن كوفي في كتابه (العادات السبعة لأكثر الناس فعالية) هذه العادة (ابدأ وعيناك على النهاية) على اعتبار أنها العادة الثانية التي خضعها للدراسة، وهذه العادة تعني ببساطة أنه عندما يرغب الإنسان أن يبدأ حياته أو مشروعه أو دراسته أو أي شيء فإنه يجب ألا يبدأ إلا ولديه فهم واضح وجيد لما هو مقدم عليه وماض فيه وإليه، فهو يجب أن يعرف أين هو الآن؟ إلى أين يريد أن يصل؟ وكيف سيصل إلى المكان الذي يرغب؟ بمعنى آخر يعني أن يكون لدى المرء هدف واضح وخطة للسير في الطريق لتحقيق الهدف.
وقد يجد بعضنا أن هذا الموضوع له علاقة مباشرة بالإدارة وخاصة إدارة المؤسسات، ربما تكون هذه الحقيقة صحيحة نوعًا ما، إلا أن الموضوع في مجمله ليس له علاقة بإدارة المؤسسات وإنما بإدارة الحياة، وإدارة أي شيء، فحياتنا كلها تخضع للإدارة بطريقة أو بأخرى، فحتى نسير في هذه الحياة ونعيش ونجني ثمار حياتنا فيجب أن تكون لدينا أهداف نرغب في تحقيقها حتى وإن كانت بسيطة، وإن أردنا أن نعمل في وظيفة فإن هذا هو الهدف ونسعى إلى تحقيقه، وإن لم نجد وظيفة فإنه ينبغي أن نحدد هدفا آخر وخطة حياة أخرى، ليس ذلك فحسب وإنما كلما حققنا هدفًا فإنه ينبغي ألا نتوقف وإنما نضع هدفا آخر، وآخر من أجل السير في الطريق، فإن لم نفكر في ذلك فإن هذا يعني أن نجلس في بيوتنا ونغلق على أنفسنا الباب، حتى لا تأتي رياح التغيير.
يقول ستيفن كوفي إن مفهوم (ابدأ وعيناك على النهاية) قائم على أساس أن جميع الأمور تبتكر مرتين، أي أنها تبدأ (بالابتكار أو التكوين الذهني) ومن ثم (الابتكار أو التكوين المادي). ثم يضرب مثالا لتفسير هذا المفهومين من خلال بناء المنزل، فيقول:
عندما يشرع المرء في بناء المنزل فإنه يذهب إلى المهندس ليقوم برسم المنزل، وذلك قبل أن يدق أي مسمار في أي جدار أو قطعة خشب، ربما تتغير تلك الخارطة مرات ومرات، وكلها على ورق، حتى تكون الفكرة واضحة عن نوعية المنزل الذي يرغب المرء في امتلاكه، فالفكرة أو الهدف هو بناء منزل العمر، كما نقول. نفكر على ورق في كل صغيرة وكبيرة، الغرف الرئيسية، المطبخ، غرف الأولاد، الصالة، حتى أين توضع مكيفات الهواء ودخول أشعة الشمس والهواء، وكل ذلك على ورق، تصور لو لم نقم بذلك، فهل يمكن أن يقام المنزل من الخيال؟ ليس ذلك فحسب وإنما يجب أن يتم كل ذلك بمقاييس محدد وواضحة، لماذا نفعل ذلك؟
ثم نأتي إلى مصطلح (التكوين المادي)، بمعنى تجسيد كل هذا الذي كان على ورق إلى واقع مادي ملموس، وحتى أثناء تجسيد ذلك الواقع فإن الأمور تحتاج باستمرار إلى مراقبة وتقييم وتقويم، حتى يتم التنفيذ.
وهكذا الأهداف أو النهاية التي يرغب الشخص في بلوغها، وليس مهمًا أن تكون الأهداف أمورا مادية ملموسة، إنما ربما تكون السعادة في حد ذاتها هدفا، الجلوس وإسعاد الأسرة هدف، الصحة والبقاء في صحة جيدة هدف، ويمكن تحقيقها بطريقة أو بأخرى.
يحكى أنه ذهب صديقان في رحلة لصيد السمك، فاصطاد أحدهما سمكة كبيرة، فوضعها في حقيبته ونهض لينصرف. فسأله الآخر: إلى أين تذهب؟ فأجابه: إلى البيت، فقد اصطدت سمكة كبيرة جدًا تكفيني أنا وعائلتي عدة أيام.
فرد الصديق: انتظر لتصطاد المزيد من الأسماك الكبيرة مثلي.
فقال الصياد: ولماذا أفعل ذلك؟
فأجاب الصديق: عندما تصطاد أكثر من سمكة يمكنك أن تبيعها؟
فسأله الصياد: ولماذا أفعل ذلك؟
رد الصديق: كي تحصل على المزيد من المال.
فقال الصياد: ولماذا أفعل ذلك؟
فقال الصديق: يمكنك أن تدخر المال ليزيد رصيدك من المال ومدخراتك.
فأجاب الصياد: من أجل ماذا؟
فقال الصديق: حتى تصبح ثريًا.
فقال الصياد: وماذا أفعل بعد أن أصبح ثريًا؟
قال الصديق: تستطيع أن تستمتع بوقتك عندما تكبر مع أولادك وزوجتك، وتعيش في رفاهية.
فرد الصياد: هذا بالضبط ما أفعله كل يوم، ولا أريد تأجيل كل هذه السعادة حتى أكبر ويضيع عمري.
هذا الصياد كان واضحًا في تحديد هدفه، فوضع هدفه أمام نصب عينيه، السعادة مع أهله وأولاده، فالقضية بالنسبة إليه ليست أهدافا مادية ملموسة، وإنما تكفيه السعادة التي يعيشها اليوم.
وقد يجد بعض الناس صعوبة في التفكير في وضع هدف أو صياغته، إلا أن الحقيقة تقول عكس ذلك، فتحديد الهدف أمر بسيط ولا يحتاج إلى شهادات أو خبرات في تحديد الأهداف، وإنما الأمر أبسط من ذلك بكثير، لذلك يجب أن يكون لكل منا مجموعة أهداف، يحققها واحدا تلو الآخر.
فالهدف هو النهاية المرجوة، التي نسعى إلى تحقيقها والتي يجب أن تكون العين عليها قبل أن نبدأ مشوارنا، فإدارة الوقت هدف، وإدارة الوقت بطريقة إبداعية هدف لذلك يجب أن نخصص له عملية التفكير والتحليل والتخطيط المستقبلي، وقس على ذلك الكثير من الأمور.
وكذلك يجب أن يكون معلومًا أنه ليس بالضرورة أن يكون الإنجاز فوريًا، فبعض الأهداف لا تتحقق إلا بعد بضع سنوات، فكلما كبرت الأهداف أصبح السير لتحقيقها متعبا، ولكنه يستحق.
وبالعودة إلى تاريخنا الإسلامي، يروى عن عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، فقلنا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثمَّ يُؤتى بالمِنْشَارِ فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصُدُّهُ ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غَنَمِه، ولكنكم تستعجلون»، رواه البخاري. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضح الهدف، وكان يريد من الصحابة رضوان الله عليهم أن يرتقوا بأنفسهم إلى ذلك الهدف الذي سيؤدي إلى سيادة الإسلام في كل الجزيرة العربية والعالم أجمع، فقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يطلب من الله سبحانه وتعالى فينتهي الموضوع في لحظة، كما حدث مع بقية الأنبياء. ولكن هنا يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى التركيز على الهدف المرسوم في الحياة، وعدم الالتفات إلى بعض التفاصيل الصغيرة مهما كانت قاسية أو مؤلمة كي لا تكون هذه التفاصيل سببًا في انهيار الأمور وعدم تحقيق الأهداف حين يقول لهم: «لا يصرفه ذلك عن دينه»، لقد كان الهدف وما زال هو الدين، ليس دين العبادات فحسب، بل هو دين العبادات والمعاملات ومنهج الحياة الذي جاء به الإسلام وبقي رسولُ الله يدعو إليه وما زال الدعاة يدعون إليه وستستمر الدعوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأنه طريق الجنة.
هذه الفكرة أو هذه العادة يمكن أن يفكر فيها المربي أو الأب أو الأم مع الأبناء أو التلاميذ، إذ يحاول أن يزرع فيهم القدرة على اتخاذ الأهداف القصيرة أو الطويلة المدى، فلا يترك الطفل أو الصديق أو الزوج أو الزوجة من غير أن يقوم بتحديد الأهداف، وتمر الحياة تباعًا عليه من غير أن يدرك فيجد نفسه قد كبر في السن وهو لم يحقق شيئا، وحتى هذا نجده في تاريخنا الإسلامي فقد روي عن سالمِ بنِ عبدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه عَن أَبِيِه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ اللَّهِ لَو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، قالَ سالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بعْدَ ذلكَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلًا، متفقٌ عَلَيْهِ. نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد هدفا للصحابي عبد الله بن عمر رضي الله، وهو قيام الليل.
إن الناجحين يعلمون أن الأشياء دائمًا تبدأ أفكارا في العقل قبل أن تتحقق على أرض الواقع، لذلك فهم يكتبون أهدافهم ويجعلونها أساسًا عند اتخاذ قراراتهم المستقبلية، ثم إنهم يحددون بدقة وعناية أولوياتهم قبل الانطلاق لتحديد أهدافهم ويضعون الخطط اللازمة لذلك، أما المخفقون فيسمحون لعاداتهم القديمة، ولأناس آخرين، وللظروف المحيطة بهم أن تملي عليهم أهدافهم، أو تؤثر في أولوياتهم أو تخطيطهم أو قراراتهم، إنهم يتبنون القيم والأهداف السائدة في مجتمعهم، وتقاليدهم، وثقافتهم، دون فحصها للتأكد من صحتها وسلامتها، أو مناسبتها لهم.
لذلك علينا مهما كانت أعمارنا، سواء كنا شيوخًا أو شبابًا أن نأخذ ورقة وقلما، ثم نكتب ما الذي نطمح في تحقيقه، وهو هدفنا والذي تكون عليه العين مفتوحة، ثم نبدأ في وضع خطوات الرحلة، كيف نسير، وما الأساليب والوسائل المتخذة في تحقيق الرحلة؟ ومتى يمكن أن نصل، وبعد ذلك نبدأ في وضع خطواتنا في السير في طريق المليون ميل، عندها حتمًا سنصل، وحتى إن لم نتمكن فيكفينا شرف المحاولة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك