أسفر اللقاء العاصف بين الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، ونظيره الأوكراني «فولوديمير زيلينسكي»، الذي عُقد في البيت الأبيض في 28 فبراير 2025، عن تداعيات مأساوية تعكس آثار الصراع المستمر في أوكرانيا منذ ثلاث سنوات. ووفقًا لخبراء وأكاديميين وسياسيين غربيين؛ فإن هذا اللقاء «سيترك تأثيرًا كبيرًا في مستقبل ديناميكيات الأمن الأوروبي»، حيث بات جليًا أن الاعتماد على الولايات المتحدة كضامن رئيسي لأمنها لم يعد خيارًا موثوقًا.
ووصفت «سوزان جلاسر»، في مجلة «نيويوركر»، المواجهة «غير العادية» بين «ترامب»، و«زيلينسكي»، بأنها تمثل «تحولًا واضحا»، في استراتيجية «واشنطن»، تجاه الحرب في أوكرانيا ومنافساتها التاريخية مع روسيا، حيث شهد اللقاء اتهام «جيه دي فانس»، نائب الرئيس الأمريكي، لزيلينسكي بعدم احترام الحكومة الأمريكية، فيما اتهم ترامب الأوكرانيين بـ«المقامرة بملايين الأرواح»، لرفضهم تقديم تنازلات لروسيا لإنهاء العمليات العسكرية، فيما كان أبرز مظاهر هذا التحول قرار ترامب بتعليق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ووقف التعاون الاستخباراتي، وطرحه إمكانية عدم نجاة أوكرانيا من الحرب، بغض النظر عن استمرار الدعم الأمريكي.
وعلى نطاق أوسع، رأى المعلقون الغربيون في تصريحات ترامب وإجراءاته تجاه أوكرانيا، «دليلًا قاطعًا»، على أن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على الدعم الأمريكي السياسي، والدبلوماسي، والاقتصادي، والأمني في مواجهة التحديات الاستراتيجية بين «الناتو»، و«روسيا». وأوضح «باستيان جيجريتش»، و«بين شراير»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، أن «البيت الأبيض»، أرسل رسالة واضحة مفادها أنه «لن يدعم الأمن الأوروبي بعد الآن». من جانبه، أشار «مايكل ويت»، من جامعة «كينجز كوليدج لندن»، إلى أن الإدارة الجمهورية أظهرت «أولوية المصالح الأمريكية على حساب التحالفات»، ما يعني أن أوروبا لم يعد بإمكانها الاعتماد على الحماية الأمريكية.
وبالنسبة إلى عديد من شركاء الولايات المتحدة حول العالم، لا سيما في الشرق الأوسط، فإن التحول في علاقاتها الدفاعية والاستراتيجية مع حلفائها الأوروبيين –الأقدم والأكثر ازدهارًا– يثير تساؤلات متزايدة بشأن التزامها طويل الأمد بأمنهم. ومع تركيز «إدارة ترامب»، المُعلن على المصالح الاقتصادية والسياسية لأمريكا قبل أي اعتبار آخر، فقد بات يُنظر إليها كشريك وحليف يفتقر إلى الموثوقية.
ورغم اصطفاف معظم الدول غير الأعضاء في «حلف الناتو»، خلف القضية الأوكرانية، وتجديد التزاماتها بالدعم طويل الأمد؛ رأى «شون موناجان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، أن تحقيق أهداف القادة الأوروبيين في «مساندة أوكرانيا»، و«استرضاء ترامب»، و«التصدي لبوتين»؛ يتطلب أكثر من مجرد اجتماعات أزمة وتصريحات حماسية. لهذا السبب، بدأت فكرة حقبة جديدة من التعاون الأمني الأوروبي تكتسب زخمًا بين المحللين وصانعي السياسات. ومع ذلك، يظل تنفيذ هذه الرؤية بعيدًا عن الواقع، بالنظر إلى التاريخ الطويل للمحاولات الفاشلة في تحقيق أمن مشترك بين دول ذات احتياجات وإمكانات مالية متفاوتة.
ورغم أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، أثارت توقعات بعودة التوتر في العلاقات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، خاصة فيما يتعلق بمسؤوليات الدفاع عن القارة، إلى جانب إصراره على أن إنهاء الحرب في أوكرانيا يتطلب تسوية تفاوضية مع موسكو؛ فإن المؤتمر الصحفي العلني مع زيلينسكي فاجأ المراقبين الأوروبيين بمستويات جديدة من التوتر. وأكدت «جوديث جوف»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أن «الخلافات في القمم أمر شائع»، حتى بين الحلفاء، لكن من «النادر للغاية» أن «تتجلى هذه الخلافات» بين زيلينسكي ومضيفيه «أمام الكاميرات بهذه الطريقة الدرامية».
ونتيجة لذلك، وجّه العديد من المحللين انتقادات لتصرفات «ترامب»، و«فانس»، وكبار المسؤولين الأمريكيين تجاه أوكرانيا، معتبرين أنها تعكس تغييرًا في السياسة الأمريكية. واتهم «جيجريتش»، و«شراير»، الإدارة الأمريكية بـ«التراجع عن مواقف رئيسية خدمة لمصالح روسيا؛ بهدف التوصل إلى وقف إطلاق النار»، مشيرين إلى أن ذلك تم «دون مراعاة كافية للأمن الأوروبي». وأكدت «كاثرين سبنسر»، من «المجلس الأطلسي»، أن «مساعي ترامب لإجراء إعادة ضبط جذري للعلاقات مع موسكو أضعفت الثقة في التحالف عبر الأطلسي بشكل خطير».
وبالنسبة إلى الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذين تكبدوا العبء الأكبر من الدعم المادي، والمالي لأوكرانيا منذ فبراير 2022 -بتكلفة بلغت 138 مليار دولار، إضافة إلى 120 مليار دولار إضافية، مقارنة بـ119 مليار دولار قدمتها الولايات المتحدة - أشار «موناجان»، إلى أن هذا الرقم لا يزال «غير كافٍ لتلبية احتياجات أوكرانيا»، مشيرا إلى أن أوروبا تفتقر إلى «القدرة المالية والصناعية» لمواصلة هذا المستوى من الدعم.
في المقابل، أوضح «لورانس فريدمان»، من «جامعة كينجز كوليدج»، أن «أيًا من» تصرفات ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض «لم يكن ينبغي أن يفاجئ قادة الناتو، بالنظر إلى إعلانه قبيل عودته عن رغبته في «إصلاح العلاقات مع روسيا»، وكذلك رفضه «لاستغلال أوروبا لبلاده»، مشيرًا إلى أن القارة لا يجب أن تتوقع أن يتم إنقاذها في أوقات الأزمات.
من جانبه، أوضح «ستيفن والت»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن عداء الرئيس الأمريكي تجاه حلفاء بلاده الأوروبيين أصبح جليًا، إلى الحد الذي بات فيه «يشجع علنًا القوى غير الليبرالية داخل أوروبا في الوقت الراهن». وأشار «جيجريتش»، و«شراير»، إلى أن النقاشات حول إمكانية «إصلاح» العلاقة عبر الأطلسي خلال السنوات الأربع المقبلة ليست سوى «إلهاءات» عن الواقع الأساسي، وهو أن صناع القرار في أوروبا يجب أن «يتوقفوا عن التركيز على خيارات ترامب»، ويحولوا اهتمامهم إلى «خياراتهم الخاصة»، وهو ما يستلزم «تعزيز القدرة الدفاعية الأوروبية»، بحيث تصبح القارة قادرة على الاعتماد على نفسها تمامًا في المسائل الأمنية والدفاعية.
ولتحقيق هذا الهدف، يجب الإشارة إلى رد فعل رئيس الوزراء البريطاني، «كير ستارمر»، لرفض ترامب دعم زيلينسكي، من خلال إنشاء «تحالف الراغبين» في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وهي المبادرة، التي أُعلنها خلال قمة لندن 2025 حول أوكرانيا في 2 مارس 2025، بمشاركة دول أوروبية أخرى، مثل فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، بهدف الاستمرار في دعم أوكرانيا اقتصاديًا وعسكريًا. كما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، «أورسولا فون دير لاين»، خطة خمسية جديدة لتمويل الاستثمارات الدفاعية الضخمة في الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى جمع ما يصل إلى 660 مليار جنيه إسترليني من أجل بناء ما أسمته أوروبا «الآمنة» على مدى أربع سنوات قادمة.
وعليه، تساءل المعلقون الغربيون عما إذا كانت الدول الأعضاء في «حلف الناتو»، قادرة على تحقيق استقلالية حقيقية في تطوير ديناميكيات الأمن والدفاع الإقليمية الخاصة بها، بعيدًا عن الاعتماد على واشنطن. وبالنظر إلى أن أكثر من 100 ألف جندي أمريكي منتشرين حاليًا في قواعد دول الحلف؛ فقد أشار «ألكسندر بوريلكوف»، و«جونترام وولف»، من مركز «بروغل»، إلى أنه يجب نشر أكثر من 300 ألف جندي أوروبي في تلك القواعد، لتحل محل الولايات المتحدة بالكامل في الأمور الدفاعية، بتكلفة مقدارها 250 مليار يورو تقريبا.
ووفقًا لـ«موناجان»، ففي «حال رفع كل عضو في حلف شمال الأطلسي ميزانيات الإنفاق الدفاعي بمعدل 2-3% من ناتجه المحلي الإجمالي في القمة القادمة للتحالف في يونيو، فإن ذلك سيضمن جمع 200 مليار دولار إضافية. وإذا وافق قادة الاتحاد الأوروبي على إعفاء الإنفاق الدفاعي من قيود الميزانية الحالية، فقد يصل حجم استثماراتهم في الشؤون الدفاعية إلى أكثر من 500 مليار دولار على مدار العِقد المقبل.
في الوقت نفسه، أشار «جاستن برونك»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، إلى أن معظم الجيوش الأوروبية تعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي في مجالات، مثل الاتصالات، والحرب الإلكترونية، وإعادة الإمداد بالذخائر. ووثق «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، كيف استحوذت الولايات المتحدة بين عامي 2019 و2023 على 55% من واردات القارة الدفاعية، بزيادة قدرها 20% عن السنوات الخمس السابقة.
ومع ذلك، شدد «جيجريتش»، و«شراير»، على أنه «رغم أن ما قدمته واشنطن في الماضي لا يمكن تعويضه بالكامل، فإن الكثير يمكن تعويضه»، مؤكدين أن الإنفاق الدفاعي الأوروبي المقبل يجب أن يُوجَّه نحو «سد الفجوات في القدرات الأساسية، وتقليل الاعتماد التكنولوجي الحاسم على الولايات المتحدة»، لا سيما في مجالات، مثل المراقبة والاستطلاع، والاستخبارات الإلكترونية، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي المتكاملة. وأكدت «سيلفيا فايفر»، و«لوسي فيشر»، و«ريتشارد ميلن»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، أن الدول الأوروبية «تشعر بالندم بعد عقود من شراء الأسلحة الأمريكية، مما جعلها تعتمد عليها بشكل كبير».
وإلى جانب هذه الاعتبارات المادية، يواجه سعي أوروبا نحو استقلال أكبر عن الولايات المتحدة في المسائل الأمنية، تحديات تتعلق بالتعاون المستقبلي. ويرى البعض أن الأسلحة الأمريكية المباعة لأوروبا قد تحتوي على ما يُعرف بـ«مفتاح القتل»، وهو ما قد يتيح لواشنطن تعطيل الأنظمة العسكرية الأوروبية في حال اتخذت إدارة ترامب قرارًا بذلك. فرغم أنها تبيع الأسلحة لحلفائها الأوروبيين، إلا أنها لا تصدر تقنيات تصنيعها، مما يُبقيهم في موقع ضعف في هذا المجال.
وأشار «لوك ماكجي»، في مجلة «فورين بوليسي»، إلى أن «تآكل الثقة عبر الأطلسي» - تحت قيادة ترامب - قد يؤدي إلى «تبادل استخباراتي محدود ومقيّد بين أوروبا والولايات المتحدة»، مؤكدا أن بعض الدول بدأت بالفعل «تقليل حجم المعلومات الاستخباراتية التي تشاركها مع واشنطن»، خشية أن يقوم ترامب بنقلها مباشرة إلى المسؤولين الروس خلال مكالماته الهاتفية، أو لقاءاته المباشرة معهم.
وفي ظل هذه الاعتبارات، أشار «جيجريتش»، و«شراير»، إلى أن الحكومات الأوروبية يجب أن «تستثمر في تطوير رادع استراتيجي خاص بها»، أي «مظلة نووية أوروبية بقيادة فرنسية وبريطانية»، واعتبرا أن هذا الأمر سيتطلب «زيادة في عدد الرؤوس الحربية النووية في القارة»، وبناء «ترسانات هجومية تقليدية في ألمانيا ودول أخرى غير نووية»، مع «استثمارات ضخمة في إنتاج صواريخ باليستية بعيدة المدى، وصواريخ أسرع من الصوت». ووصف «ويت»، عرض الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، بـ«توسيع» «المظلة النووية لباريس لتشمل ألمانيا وبقية أوروبا باعتباره «الحل الأكثر قابلية للتطبيق»، لتعويض فقدان الردع النووي الأمريكي لأعضاء الناتو. وأكدت «جوف»، على أن «النجاح في هذا المسعى يتطلب وحدة أوروبية مستدامة». ومن جانبها، تأمل «أجاثي ديماريس»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، في ضرورة تخطي القارة لهذه الفترة «المضطربة»، مشيرة إلى أنه يجب «الحفاظ على الهدوء والبقاء متحدين والتركيز على الأولويات طويلة الأجل».
ورغم ذلك، أصر «جيجريتش»، و«شراير»، على أنه «إذا لم تظل الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب حليفًا موثوقًا، واستمرت في دفع تسوية سلمية للحرب في أوكرانيا التي تصب في صالح روسيا؛ فإن أوروبا ستكون عرضة للخطر عسكريًا عدة سنوات».
ومع امتداد الشراكات التاريخية لواشنطن عبر مختلف أنحاء العالم، بات التراجع السريع في الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين واضحًا لدرجة دفعتهم إلى تبني مسار استراتيجي ودفاعي مستقل، ويشكل هذا التحول مؤشرًا على التأثير الأوسع المحتمل لسياسات إدارة ترامب في مناطق أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، يبدو واضحًا التشابه بين سياسات الإدارة الأمريكية الحالية، التي تبدو وكأنها خاضعة للمطالب الروسية في أوكرانيا، رغم تعارضها مع مصالح ورغبات الدول الأوروبية، ودعمها المتواصل لتدمير غزة، وتعزيز حملة إسرائيل لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة بالكامل، رغم احتجاجات الدول العربية.
وفي ظل تهديدات ترامب بوقف المساعدات لمصر والأردن في حال رفضهما تهجير الفلسطينيين من غزة بالقوة، يتجلى استعداد إدارته لتجاهل الشراكات التاريخية لصالح دعم مطامع الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، رغم انتهاكها الصريح للقانون الدولي، ومبادئ حقوق الإنسان، الأمر الذي يؤكد أن حالة عدم اليقين تجاه نوايا واشنطن ستظل سمة ثابتة في علاقاتها مع شركائها سنوات مقبلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك