من المعلوم أن النظام الاقتصادي البحريني، هو نظام اقتصاد السوق الحر، الذي يطلق مجال النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، ويمكنه سياسيًا وتشريعيًا، ويفتح أمامه الفرص في الداخل والخارج، ومنذ توليه المسؤولية في مارس 1999، وجه جلالة الملك، الحكومة إلى تعزيز دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، وتم تبني برنامج ضخم للخصخصة تحررت فيه الكثير من الأنشطة، وتقلص دور القطاع العام فيها لصالح القطاع الخاص، ثم تأتي «رؤية البحرين الاقتصادي 2030»، تقصر دور الحكومة في النشاط الاقتصادي على التنظيم، بينما يتولى القطاع الخاص هذا النشاط، وعززت الحكومة هذا التوجه، وتبنت في برامجها الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص في كل جوانب هذه البرامج.
وتقليديًا، عُرف القطاع الخاص البحريني بحسه الوطني، والتزامه نهج المسؤولية الاجتماعية، وامتدت أنشطته من العمل الخيري إلى التنموي، من جهة توفير الأمن الغذائي للبلاد، وتنويع مصادر الاستيراد، بما يسهم من الحد في التضخم، إلى المشاركة الفعالة في خطط التنويع الاقتصادي، بما يجنب البلاد أثار تذبذب أسعار النفط، وتوليه تعميق التصنيع، بالبناء مثلاً على منتج الألومنيوم من شركة إلبا، وانتشار صناعاته في المناطق الصناعية التي وفرتها الحكومة، إلى نشاطه في التعليم والتدريب والرعاية الصحية والإسكان الاجتماعي، وتعدد شراكاته الخارجية، بما يحقق جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إلى الالتزام بالمشاركة في برامج التنمية الاجتماعية، مثل تبنيه تأهيل وتشغيل ذوي الإعاقة، والتوسع في تشغيل المرأة، حتى صارت تشغل نحو 35% من وظائفه، وتنفيذ السياسات الحكومية المتعلقة بمكافحة البطالة، وحصرها في الحد الأدنى المأمون، وكلما توسع النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص والتزامه المسؤولية الاجتماعية، كلما قلت أعباء الميزانية العامة، وانخفض الدين العام، وكلما أمكن تحقيق التوازن المالي.
والمسؤولية الاجتماعية بأبسط معانيها تعني عدم قصر اهتمام منشآت القطاع الخاص على تحقيق مكاسبها الاقتصادية فقط، ولكن امتداده لخدمة الأهداف العامة للمجتمع وبيئة هذه المنشآت، وهذه الأهداف تختلف من مجتمع إلى آخر ومن وقت إلى آخر، ولكنها بوجه عام حاليًا هي شديدة الارتباط بالشراكة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وفي مملكة البحرين تأتي أولويات توطين العمالة، والارتقاء بمستوى معيشة المواطن البحريني وصحته وتعليمه وسكنه، وخفض الانبعاثات الكربونية، وتعزيز تنويع قاعدة الاقتصاد البحريني وجاذبيته للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وإقرارًا لسير القطاع الخاص على نهج المسؤولية الاجتماعية، شهدت «المنامة»، في يناير الماضي النسخة الثالثة لمؤتمر المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص ودورها في التنمية المستدامة، والذي تم تنظيمه بالشراكة بين «اتحاد الغرف العربية»، و«الشبكة الإقليمية للمسؤولية الاجتماعية»، بالتعاون مع «مكتب ترويج الاستثمار والتكنولوجيا لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية» (اليونيدو)، و«جامعة الدول العربية»، و«مجموعة كلينجروب»، و«الاتحاد الدولي للمسؤولية الاجتماعية»، وتولى الرئاسة الشرفية للمؤتمر ، رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة البحرين «سمير ناس»، واستهدف المؤتمر تسليط الضوء على أهمية التزام القطاع الخاص ببرامج المسؤولية الاجتماعية، والاهتمام بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى تنمية الوعي بهذه المسؤولية، وأهمية إدراجها في استراتيجيات الشركات والمؤسسات، فيما شهد هذا المنتدى إطلاق «اليونيدو» مبادرتين: «التحالف الدولي لرواد الأعمال»، والنداء العالمي لليونيدو 2025 تحت عنوان «الاقتصاد البرتقالي الإبداعي .. ابتكار المستقبل».
ومن أهم مسارات القطاع الخاص البحريني على نهج المسؤولية الاجتماعية؛ يأتي مسار التشغيل، حيث سعت الحكومة إلى تقليص البطالة، وحصرها عند الحد الأدنى الآمن، ووفرت لذلك فرص التدريب للشباب والفتيات الباحثين عن عمل، وعملت على ربط مخرجات النظام التعليمي باحتياجات سوق العمل؛ لكن، لأن القطاع الخاص هو الذي يقوم بالنشاط الاقتصادي، فإنه يقع عليه التزام التشغيل، وعليه، تبنت الحكومة مستهدف جعل العمالة البحرينية خيارًا مفضلاً لدى هذا القطاع، وفرضت نسب البحرنة في منشآته، حيث يتم إلزام مختلف القطاعات والأنشطة دون استثناء بهذه النسب، وفق درجة إقبال ورغبة البحرينيين في المهن المتوفرة لديها.
وتصل نسبة البحرنة في بعض القطاعات الجاذبة إلى 50%، ويتم تطبيقها بشكل إلكتروني، ويتم فرض رسم يبلغ 500 دينار على كل تصريح عمل للعمالة الأجنبية في حالة عدم التزام المنشأة بالنسبة المقررة، وبينما تتم مراجعة وتقييم هذه النسب بشكل مستمر، فإنه يشترط للحصول على المناقصات الحكومية الالتزام بنسبة البحرنة المقررة، فيما أصبح العامل البحريني قادرًا على المنافسة بما امتلكه من خبرات ومهارات مطلوبة في سوق العمل، الأمر الذي أدى إلى التزام كثير من منشآت القطاع الخاص طوعًا بهذه النسب، فيما وصلت نسبتها في بعضها إلى ما بين 80 – 90%.
وفي هذا السياق، عملت الحكومة على خفض تكلفة العمالة البحرينية، من خلال برامج دعم الأجور، التي تحفز صاحب العمل على تشغيل العمالة البحرينية، فعلى مدى 3 سنوات يتم هذا الدعم (70% في السنة الأولى و50% في السنة الثانية، و30% في السنة الثالثة)، وبرنامج زيادة وتحسين أجور العاملين في القطاع الخاص الذين تقل رواتبهم عن 1500 دينار، ويتم دعم هذه الزيادة لمدة 24 شهرا، بشرط ألا تزيد على 20%، ولا تقل عن 5% من الراتب الأصلي، وفي مقابل ذلك فرض رسوم على تشغيل العمالة الأجنبية، حيث يؤول 80% من إجمالي هذه الرسوم لصندوق العمل (تمكين)، الذي يوظفها لخلق فرص عمل للبحرينيين، وكذلك تشديد الغرامات على المخالفين بتشغيل الأجانب بدون ترخيص، وتبلغ الغرامة من ألف إلى ألفين دينار عن كل عامل مخالف.
علاوة على ذلك، وفرت الحكومة برنامج دعم توظيف المهندسين مدة 5 سنوات بغية حصولهم على رخصة مزاولة المهنة، وتم رفع سقف الدعم ليصل إلى 1000 دينار، وكذلك استحداث دعم مخصص لخريجي الحقوق، يتم تدريبهم لدى مكاتب المحاماة المرخصة، ويتم منح المتدربين مكافأة 300 دينار شهريًا لمدة عامين، كما يهدف برنامج التدريب على رأس العمل إلى تنمية وتطوير الشباب البحريني، وإكسابهم الخبرات والمهارات المؤهلة للالتحاق بسوق العمل مع منحه مكافأة شهرية 200 دينار، وصرف التأمين ضد التعطل خلال فترة التدريب 150 دينارا لغير الجامعي، و200 دينار للجامعي، وبرنامج التدريب مع ضمان التوظيف ويحصل فيه الشباب أو الفتاة على التدريب ثم الوظيفة، وبرنامج تدريب وإعادة تأهيل الباحثين عن عمل. وبينما كان صاحب العمل يتحمل 50% من تكلفة التدريب، أصبح صندوق العمل «تمكين» يتحمل التكلفة كلها، كما يتم دعم الأجور للوظائف القيادية والتنفيذية الجديدة لمدة تصل إلى 24 شهرًا.
وعلى الرغم من أن الحكومة قامت بالعديد من المبادرات والإجراءات، لتحفيز أصحاب الأعمال على تشغيل العمالة البحرينية؛ لكن مازالت نسبتها منخفضة عند نحو 33% بعدد إجمالي نحو 109 آلاف عامل بحريني، وبلغت نسبة البحرينيين الذين يتقاضون أجورًا تزيد على 600 دينار نحو 35%، وأمكن تجاوز الهدف السنوي لتشغيل العمالة البحرينية في خطة التعافي الاقتصادي، إذ تم في العام الأول لهذه الخطة، توظيف نحو 30 ألف بحريني، بنسبة 149.9% من المستهدف، وما كان ذلك ليتم إلا بتعاون القطاع الخاص، والتزامه المسؤولية الاجتماعية نحو هذا الهدف الاستراتيجي، وصارت كلفة تشغيل المواطن البحريني أقل من نظيره الأجنبي، فيما لا يزال ثقل الاعتماد على العمالة الأجنبية قائما.
وفيما يعد التقدم في مسار البحرنة واحدًا من تجليات المسؤولية الاجتماعية في القطاع الخاص، تبدو إسهامات هذا القطاع في التعليم، القاطرة التي قادت مسار التنمية البحريني، حيث ينشط القطاع الخاص من التعليم ما قبل المدرسة إلى التعليم الجامعي والعالي ومن التعليم العام إلى التلمذة المهنية، ويسهم التعليم الخاص في الناتج المحلي الإجمالي البحريني بـ 2.5% ويوظف 3% من إجمالي قوة العمل البحرينية، وتبلغ نسبة البحرنة فيه 30%، وفي مقابل ثلاث جامعات حكومية توجد 12 جامعة خاصة، وفي مقابل 213 مدرسة حكومية، توجد 67 مدرسة خاصة.
وفي قطاع الرعاية الصحية يسهم القطاع الخاص بـ 2% من القوى العاملة، و1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما يبلغ عدد منشآت الرعاية الصحية 831 مرفقا، منها 21 مستشفى و301 مركز صحي، و96 عيادة، وبلغ عدد أسرة الرعاية الصحية الخاصة 542 سريرا، وتتعدد فرص توسع الرعاية الصحية الخاصة، من التطبيب عن بعد إلى رعاية المسنين، إلى الرعاية الصحية العقلية إلى الرعاية الصحية الوقائية، إلى البحث الطبي واستخدامات الذكاء الاصطناعي.
وقد أصبحت برامج توفير الخدمات الإسكانية بالشراكة مع القطاع الخاص تحظى بالأولوية، وتشهد المرحلة المقبلة توسعًا أكبر على صعيد تنفيذ برنامج حقوق تطوير الأراضي الحكومية، ما يمثل فرصًا سانحة للقطاع الخاص للمشاركة في تنفيذها، وتوفير الوحدات السكنية للمواطنين مع التركيز على الإسكان الاجتماعي، ومن المقرر أن يوفر هذا البرنامج 19 ألف وحدة سكنية.
وإذ تتعدد مشاركات القطاع الخاص في مجالات التنمية المختلفة، فقد بلغت نسبة مشاركته الإجمالية في الاقتصاد الوطني 82%، فيما كانت هذه النسبة 42% قبل 20 عامًا، وقد فتحت له الحكومة العديد من الأبواب كي ينمو ويتسع، ولكن عليه أن يبادر إلى الأسواق التي فتحتها له الحكومة، سواء من خلال اتفاقات التجارة الحرة، أو اتفاقات حماية تشجيع الاستثمارات المتبادلة أو اتفاقات منع الازدواج الضريبي، لتوسيع دائرة الصادرات البحرينية، حيث إن ضيق حجم السوق المحلي لن يسعفه في تحقيق خططه التوسعية، ويقع على جانب المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص أيضًا التطوير التنظيمي لهذا القطاع، الذي يكفل له الاستدامة، من حالة المنشآت الفردية إلى حالة الشركات، وولوج هذه الشركات إلى الأسواق المالية، ودعم مبادرات رواد الأعمال، وتعزز الحكومة البحرينية هذا التوجه حتى إنه في فترة وجيزة تقلصت المنشآت الفردية من 75% إلى 53%.
وإذا كان يعزى إلى نشاط القطاع الخاص البحريني تحقيق الكثير من الأهداف التنموية؛ فإن ما عزز ذلك سيره على منهاج المسؤولية الاجتماعية، والإطار التعاوني للعمل من خلال الشراكة الاستراتيجية بين القطاعين العام والخاص.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك