المناورات العسكرية تتجاوز كونها تدريبات عسكرية مشتركة بين القوات المختلفة للدول بهدف التكامل بين تلك القوات، وإنما هي استعراض للقوة ورسالة ردع للأطراف المعادية بألا تقوم بفعل عدائي تجاه تلك الدول، وربما تحمل المناورات في طياتها أيضاً رسائل سياسية، ومن هنا تجيء أهمية المناورات البحرية المشتركة «حزام الأمان 2025» التي انطلقت في العاشر من مارس 2025 بين القوات البحرية لكل من روسيا والصين وإيران في ميناء جابهار جنوب شرق إيران، فما هي الرسائل التي تحملها تلك المناورات بين هذه الدول وفي هذا التوقيت؟
بداية ينبغي التأكيد أنها المرة الخامسة التي تجرى فيها مناورات بين الدول الثلاث منذ عام 2019 حتى عام 2025، ووفقاً للمصادر تتضمن تلك المناورات ضرب أهداف بحرية وعمليات صعود وتفتيش وسيطرة على الأضرار بالإضافة إلى عمليات البحث والإنقاذ المشتركة، من خلال سفن وفرقاطات للدول الثلاث بلغت 15 سفينة حربية وسفن دعم وقوارب قتالية وطائرات مروحية، وقد يبدو للبعض أنها تمرينات بحرية نمطية إلا أن منطقة شمال المحيط الهندي حيوية للأمن البحري للأطراف المشاركة في تلك التمرينات، كما جاءت تلك المناورات في توقيت مهم للغاية بين أطراف ثلاثة تشهد علاقاتها توتراً ملحوظاً مع الولايات المتحدة، إذ يلاحظ التصعيد في الخطاب الأمريكي تجاه إيران، إما التفاوض وإما خيارات أخرى للحيلولة دون حصول إيران على السلاح النووي في ظل تقارير تفيد بتراكم المخزون من اليورانيوم المخصب لدى إيران بما يعني اقترابها فعلياً من النسب اللازمة لتحويل تلك البرامج السلمية للأغراض العسكرية، ودخول روسيا على خط التفاعل من خلال إبداء الاستعداد لممارسة دور الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران بشأن المسألة النووية وتأكيد ضرورة حلها سلمياً تزامناً مع محادثات أمريكية-روسية، وأمريكية-أوكرانية حول الحرب في أوكرانيا مع تصعيد ميداني واضح، وعلى صعيد متصل لا تتسم العلاقات الأمريكية-الصينية بالهدوء بعد قرار الرئيس دونالد ترمب فرض رسوم تجارية بنسبة 25% على جميع واردات الصلب والألمنيوم من الصين إلى الولايات المتحدة دون استثناءات أو إعفاءات، حيث ردت الصين بفرض تعريفة جمركية مماثلة بنسبة 15% على الفحم والغاز المسال، و10% على النفط ومعدات الزراعة المستوردة من الولايات المتحدة.
وعودا على بدء، ففي تقديري أن تلك المناورات تحمل في طياتها رسائل أمنية، إذ لطالما كانت هناك اتهامات غربية لإيران بتزويد روسيا طائرات بدون طيار« درونز» في حربها ضد أوكرانيا، فضلاً عن التعاون في المجالين الأمني والعسكري بين الصين وإيران ضمن اتفاق التعاون الاستراتيجي الذي يمتد إلى نحو 25 عاماً متضمناً مجالات عديدة، بما يعنيه ذلك من أن تلك المناورات تعد استكمالاً للتعاون الأمني بين تلك الدول، وكذلك رسائل سياسية، فالدول الثلاث لديها قضايا خلافية مع الولايات المتحدة وخاصة في الوقت الراهن، أخذاً بالاعتبار أن العلاقة بين تلك الدول لن تبلغ حد الشراكة، فهناك سقف للمناورة مع الولايات المتحدة، وصولاً إلى المجال البحري الذي توليه الدول الثلاث أهمية بالغة، فإيران دولة بحرية وتولي تطوير موانئها أهمية كبيرة، بل إن سيطرتها على مضيق هرمز ذاته تعد جزءًا من نفوذها الإقليمي، وهناك توجيهات مستمرة بتطوير القدرات البحرية، أما الصين التي نأت بنفسها طويلاً عن الانخراط في قضايا الأمن الإقليمي فأضحت أحد الأطراف التي تشارك في مواجهة تهديدات الأمن البحري في تلك المنطقة، ففي أعقاب تصاعد الهجمات الحوثية على السفن التجارية في البحر الأحمر، أعلنت الصين في فبراير 2024 إرسال الأسطول (46) ويضم مدمرة صواريخ وفرقاطة صواريخ وسفينة إمداد وأكثر من 700 ضابط وجندي، من بينهم عشرات من أفراد القوات الخاصة، فضلاً عن مروحيتين على متن الأسطول، أما روسيا فقد قامت بتوقيع اتفاق لإقامة قاعدة بحرية في السودان في فبراير 2025، تلك المؤشرات تعني أن النفوذ البحري للدول الثلاث يزداد على المستوى الإقليمي، ولكن المسألة ليست عملية حسابية، بمعنى أنه كم لدى الدول الثلاث من قطع بحرية؟ ولكن في السياق الجيواستراتيجي ودلالات ذلك بالنسبة للجهود الدولية بشأن أمن الملاحة البحرية عموماً.
ومع أهمية ما سبق فإن التساؤل الذي يفرض ذاته: ما هي حدود المناورة السياسية التي تعكسها التقاء إرادات الدول الثلاث لإجراء مثل تلك المناورات ولو بشكل سنوي متواتر في مواجهة القوة الأمريكية؟ تساؤل له وجاهته وخاصة في ظل رد الفعل الأولي من الرئيس دونالد ترمب بشأن تلك المناورات حيث قال: «إنه غير قلق على الإطلاق بشأن المناورات العسكرية بين روسيا والصين وإيران»، تصريح ذو دلالة ولا يعكس فقط حجم القوة البحرية الأمريكية بقدر ما يعكس مضامين علاقات الولايات المتحدة بالدول الثلاث من منظور واقعي، فمهما بلغت درجة التقارب الروسي-الإيراني، فإن ذلك لن يكون على حساب علاقات روسيا بالولايات المتحدة والتي تشهد تحسناً ملحوظاً منذ مجيء الرئيس ترامب إلى سدة الحكم مجدداً، كما أنه ليس من مصلحة روسيا أن تكون إيران قوة نووية، وكان واضحاً عدم معارضة روسيا غير ذي مرة فرض عقوبات على إيران جراء برامجها النووية، أما على صعيد العلاقات مع الصين فبالنظر إلى حجم الاستثمارات الأمريكية في الصين والعكس فإنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة انهيار اقتصاد الصين، وصولاً إلى علاقات الولايات المتحدة مع إيران والتي تتراوح بين المد والجزر، ولكنها لن تصل إلى حد المواجهة العسكرية.
ومع أهمية ما سبق وحتى بافتراض أن تلك المناورات هي عملية روتينية تجري كل عام بانتظام فإن القراءة الاستراتيجية لسياسات الأطراف الثلاثة (الصين وروسيا وإيران) أنها تسعى لنفوذ إقليمي، فإذا كان الأمر بالنسبة للصين هو تنفيذ متطلبات مبادرة الحزام والطريق، فإن لروسيا أهدافا بتوطيد تواجدها في نقاط ارتكاز مفصلية في المنطقة في حال فقدت وجودها البحري في سوريا، أما إيران فإنها وإن كانت قد تأثرت بالتطورات الإقليمية وخاصة تأثيرها على الجماعات دون الدول فإن الأمن البحري يظل مجالاً آخر للنفوذ.
ومجمل القول أمران، الأول: أن المنافع المتبادلة بين الدول هي التي تحدد طبيعة العلاقات سواء أكانت شراكات أم تحالفات، والثاني: أن الشراكات لا تبنى في وقت زمني بسيط ولكنها تحتاج إلى سنوات ولا يشترط بالضرورة أن تكون عسكرية في ظل تغير مفهوم الأمن وتداخل مستوياته بشكل غير مسبوق، إلا أن الأمر الثابت هو أن التقارب بين الدول الثلاث ربما يكون ورقة تفاوضية مع الولايات المتحدة، ولكن لن يكون له تأثير جذري في المشهدين الإقليمي والعالمي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك