لا تذكر كتب السير سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا وتذكر السيدة شقيقته فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها، ترى ما علاقة الصحابية فاطمة رضي الله عنها بالفاروق رضي الله عنه غير النسب والعلاقة الأسرية؟
هي فاطمة بنت الخطاب بن نفيل، ولقبها أميمة، وكنيتها أم جميل، وهي أخت أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وزوجة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي رضي الله عنه، أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وقيل إنها ولدت لسعد بن زيد ابنه عبد الرحمن.
وهي صحابية جليلة، اتسمت بعدد من المزايا؛ منها أنها كانت شديدة الإيمان بالله تعالى وشديدة الاعتزاز بالإسلام، طاهرة القلب، راجحة العقل، نقية الفطرة، من السابقات إلى الإسلام، أسلمت قديمًا مع زوجها قبل إسلام أخيهـا عمر رضي الله عنه، بل كانت سببًا في إسلامه، كما أنها بايعت الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت من المبايعات الأوائل.
الصفات القيادية في شخصية فاطمة بنت الخطاب
هذه الصحابية رضي الله عنها لم تحمل سيفًا ولم تسجل كتب التاريخ أنها شاركت في معركة أو غزوة، وإنما تذكر لها كتب التاريخ أعظم موقف لا يستطيع أن يتحمله أحد، ولكنها بقوة إيمانها وثقتها بالله سبحانه وتعالى وإيمانها بهذا الدين تمكنت من أن تغير مجرى التاريخ الإسلامي وهي قابعة في بيتها ولم تغادره، وهذه هي قدرتها القيادية، فليست القيادة أن نكون في مقدمة المحافل أو الندوات أو أماكن العمل، وإنما تبرز القدرات القيادة في الإنسان في أي موقف وأي موقع. لنحاول أن نتعرف على قدراتها القيادية رضي الله عنها:
أولاً: القدرة على مواجهة الشدائد وإدارة المواقف؛ جميعنا يعرف قصة إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه، ولكن لنحاول أن نذكر تلك القصة باختصار وبالتالي لنتعرف على المشهد الذي تبرز فيه الصحابية فاطمة رضي الله عنها، تقول كتب التاريخ:
عندما قرر عمر رضي الله عنه أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج من بيته يحمل سيفه بغير جرابه، فلقيَه صديق له، أخذته الدهشة للحالة التي رآه عليها فسأله عما ينوي أن يفعله، فقال عمر: «أريد أن أقتل محمدًا». فقال له: «ألا تدري أن أختك وزوجها قد أسلما»؟ صاعقة نزلت على عمر، وانقبض صدره بشدة، فتحرك في نفسه غرور الجاهلية فقرر أن يبدأ بأخته وزوجها أولاً.
عندما بلغ بيت أخته سمع من خلف الباب صوت تلاوة في الداخل، فدلف عمر إلى البيت مسرعًا وربما من غير أن يطرق الباب، فأختبأ خبّاب رضي الله عنه.
قامت فاطمة أخت عمر بتنحية الأوراق القرآنية جانبًا، وواجهت أخاها، فقال عمر: «لقد سمعت أنكما صبأتما». ورفع يده ليصفع زوجها الذي كان من أبناء عمومته، فألقت فاطمة نفسها على زوجها كي تحول بينه وبين عمر، فهبطت الضربة على وجه فاطمة، وأصابت أنفها الذي أخذ ينْزف الدماء بغزارة. إلا إن الضربة زادت من شجاعة فاطمة، فقالت: «نعم، لقد أسلمنا، ولن ندع هذا الدين، فافعل ما بدا لك».
في تلك اللحظة تحرك شيء في نفس عمر، وخاصة بعدما اصطبغ وجه أخته بالدم من أثر يده، في تلك اللحظة تحول عمر إلى شخص مختلف تمامًا. طلب منهما أن يرى أوراق القرآن التي كانوا يقرؤونها، فرفضت فاطمة خشية أن يمزقها ويلقي بها، فوعد عمر أنه لن يفعل. فطلبت منه فاطمة أن يتطهر أولاً فلا يلمس القرآن الكريم إلا وهو طاهر. وبعدما تطهّر وهدأت نفسه، تناول الصحائف القرآنية في يده وكانت تحوي جزءًا من سورة طه، حينها أسلم الفاروق.
لنحاول أن نقرأ موقف الصحابية بنت الخطاب رضي الله عنها؛ لنتصور الفاروق رضي الله عنه وهو يدخل عليهم البيت وهو في أقصى حالات الغضب، وبيده سيف جاهز للقتل. ومن هو عمر من الناحية الجسمانية، إذ تشير كتب التاريخ أنه كان ضخم الجثة. هذا الرجل الضخم الشديد الغضب وبيده سيف جاهز للقتل يدخل عليهم البيت والشر يتطاير من عينيه، إنه بالفعل ما جاء إلا للقتل.
يرفع الفاروق يده القوية الشديدة البأس ليضرب صهره سعيد بن زيد رضي الله عنه لأنه خالف وخرج عن تقاليد قريش التي هو يؤمن بها، إلا أنها تقف بين شقيقها وزوجها لتتلقى هي غضب الفاروق وبكل شجاعة، تنزل الصفعة على وجهها فيتناثر الدم على وجهها إلا أن هذا لم يخيفها ولم يجعلها تتردد لحظة أو تخاف أو يغمى عليها، وإنما ما زالت تقف بكل شجاعة أمام الفاروق ووجها ينزف، وترفض مرة أخرى أن تسلمه أوراق القرآن الكريم حتى يغتسل، لأنه مشرك.
لنعيد تخيل هذا الموقف في أدمغتنا مرات كثيرة، سنقف إجلالاً أمام شجاعتها وقدرتها على إدارة الموقف الذي لم تكن مستعدة له في تلك اللحظات، إلا أن شخصياتها القيادة هي التي مكنتها من الوقوف في ذلك الموقف.
ثانيًا: القدرة على الكتمان؛ تذكر هذه الحكاية في السيرة الحلبية في سيرة الأمين والمأمون، تقول الحكاية في دار الأرقم ألحّ أبوبكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور وإعلان الإسلام في المسجد الحرام، فقال: يا أبا بكر إنا قليل. فلم يزل به حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه إلى المسجد الحرام، وقام أبو بكر رضي الله عنه في الناس خطيبًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ودعا إلى الله ورسوله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى. وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوهم ضربا شديدًا، ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربًا شديدًا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه.
حمل الصديق رضي الله عنه إلى منزله، وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب، حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعذلوه، فصار يكرر ذلك، فقالت أمه: والله ما لي علم بصاحبك. فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب فاسأليها عنه.
فخرجت إليها وقالت لها: إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبد الله، فقالت: لا أعرف محمدًا ولا أبا بكر. ثم قالت لها: تريدين أن أخرج معك؟ قالت: نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر رضي الله عنه، فوجدته صريعًا، فصاحت، وقالت: إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فِسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم. فقال لها أبو بكر: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت له: هذه أمك تسمع، قال: فلا عين عليك منها (أي أنها لا تفشي سرك) قالت: سالم، فقال: أين هو؟ فقالت: في دار الأرقم، فقال: والله لا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس. فخرجنا به يتكئ عليّ حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق له رقة شديدة، وأكب عليه يقبله، وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي، وهذه أمي بارة بولدها، فعسى الله أن ينقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت. هكذا صارت أم أبي بكر من الذين أسلموا في أوائل الإسلام.
مرة أخرى لنعيد قراءة المشهد، الصديق رضي الله عنه مسجي على فراشه والدماء تنسكب من وجهه، وهو يسأل عن صديق عمره وحبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أحد أن يجيب عن سؤال ربما لسبيين، أولهما: أنه لا أحد يعرف الخبر، والسبب الآخر: هو أن هناك حظرا من كبار رجالات قريش على كل من يتواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجد الصديق رضي الله عنه إلا فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنه لتجيب عن تساؤلاته، لماذا فاطمة رضي الله عنه؟
لقدراتها القيادية ولشجاعتها، فلو لم تمتلك تلك القدرات، فهل يستدعيها الصديق حتى تخبره الخبر الذي لا يستطيع أحد في مكة أن يأتيه به؟ كتمانها هذا ربما يكون انعكاسًا للحديث النبوي الشريف «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها»، بنت الخطاب فهمت الدرس بصورة جيدة ولم تتهور حتى أمام والدة الصديق أبي بكر رضي الله عنهم جميعًا، فالمعركة الفكرية في مكة قد بدأت تأخذ مجرى جديدا من العنف، لذلك كان الكتمان والحذر واجبان، فاستطاعت بذكاء أن تتحكم في الموقف وتديره.
ونقول، ألسنا بالفعل نتحدث عن امرأة قائدة هنا، وهذه بعض الصفات القيادية للمرأة المسلمة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك