كل الدول من دون استثناء تدَّعي بأنها توفر هامشاً كبيراً وتُقدم ميداناً واسعاً للشعوب لتعبر عن رأيها وفكرها حتى لو اختلف عن رأي الدولة، كما تُصرح هذه الدول بأن حرية التعبير والرأي مكفولة ومصونة ويدعمها دستور وتشريعات الدولة.
ولكن هذه الادعاءات لكي تكون لها مصداقية وواقعية يجب أن تُترجم في قُدرة وسائل الإعلام على النقد وطرح الرأي الآخر في المجتمع بدون رقابة مشددة، أو ملاحقة قضائية وعقاب غليظ. كما يجب أن تنعكس على وسائل التواصل الاجتماعي من إعطاء الحرية للأفكار المختلفة والمتنوعة، إضافة إلى أنها يجب أن تترجم هذه الادعاءات في منح الحريات في أبحاث ودراسات مراكز البحوث والجامعات ومراكز الفكر، بحيث تكون لديها الصلاحية في اختيار نوعية الدراسات، والقضايا التي تعالجها، والمواضيع التي تتناولها.
ولذلك الكثير من الدول تفشل عند التجربة الأولى، وترسب في الامتحان الأول، وهذا ما حدث اليوم في أكبر الدول تقدماً وتطوراً، وأكثرها ادعاءً بتطبيق الديمقراطية وإطلاق سراح الشعب لإبداء رأيه، والتعبير عن فكره، إضافة إلى تبني وتشجيع التنوع الثقافي والفكري والديني.
فالولايات المتحدة الأمريكية سرعان ما كشفت عن ممارسات غير ديمقراطية بعد تولي ترامب، بحسب ادعائه شخصياً بأنه ملك، زمام الحكم للمرة الثانية في البيت الأبيض، فأظهر بشكلٍ علني ومشهود وقوي سياساته الضيقة الأحادية الجانب ضد الآراء والمواقف المخالفة له، والتي لا تتفق مع توجهاته المسيحية الصهيونية المتطرفة. فالرئيس ترامب ذكرني بفرعون مصر الذي قال لشعبه، كما ورد في القرآن الكريم: «ما أُريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». فالرأي الصواب رأي ترامب، والفكر السليم هو فكر ترامب، والسياسة الصحيحة هي ما تتوافق مع سياسته، وغير ذلك يجب أن يحارب بسلاح القانون والقضاء المسيس، وبسلاح التضييق المالي ومنع الدعم والمساعدات، إضافة إلى سلاح الطرد من الوظيفة والترهيب. ولذلك قد نفذ ترامب سياسة الرأي الواحد، والفكر الواحد، والتعبير الواحد على الجامعات ومراكز البحوث، ووسائل الإعلام الأمريكية على حدٍ سواء، واستخدم في ذلك أسلوب بعض الدول النامية والمتأخرة، أي أسلوب الحكم «البوليسي» لتنفيذ جدول أعماله، أي بعبارة أخرى قام ترامب بتسييس حرية الرأي والتعبير والفكر بحيث لا تخرج عن دائرة رأيه وسياساته ومواقفه.
ومن أجل تنفيذ سياساته وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وبخاصة تلك المتعلقة بمعاداة السامية، ومعاداة الصهيونية والكيان الصهيوني، قام بتشكيل فريق عمل متخصص في مكافحة معاداة السامية تحت مسمى «فريق عمل مكافحة معاداة السامية» (Task Force to Combat Anti-Semitism). ويتكون أعضاء الفريق من «إدارة الخدمات العامة»، ووزارة التربية، ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ووزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالية. والهدف الرئيس، والمهمة الأساسية لفريق العمل هو «استئصال التحريض على السامية في المدارس والجامعات»، وخاصة بعد التضامن الكبير والواسع النطاق غير المسبوق في معظم جامعات أمريكا للقضية الفلسطينية ومواقفهم المعارضة للإبادة الجماعية الشاملة التي تعرض لها سكان غزة فاستشهد أكثر من 47 ألف فلسطيني.
وكانت الضحية الأولى التي يجب أن تقتدي بها باقي الجامعات لهذه الفرقة البوليسية هي جامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك، حيث تم إلغاء 400 مليون دولار بشكلٍ فوري من المنح والعقود التي تُعطى للجامعة، حيث برَّر الفريق هذا الترهيب والابتزاز المالي للجامعة في بيان منشور جاء فيه: «الجامعة استمرت في عدم اتخاذ خطوات جادة لمواجهة المضايقات ضد الطلبة اليهود ومعاداة السامية». وقد نشرت «إدارة الخدمات العامة» في السابع من مارس 2025 هذا القرار التعسفي في بيان رسمي تحت عنوان: «وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، ووزارة التربية، وإدارة الخدمات العامة تعلن إلغاء أولي للمنح والعقود إلى جامعة كولومبيا بقيمة 400 مليون دولار». فهذا التضييق المالي الأولي على الجامعة، وهذا الابتزاز والضغط عليها لتكون أقل تحملاً لحرية التعبير والرأي، يرهب إدارة الجامعة ويضطرها إلى أن تكون أكثر تشدداً لمن يبدي رأيه دعماً للقضية الفلسطينية، أو أنه يعارض الإبادة الجماعية للشعب المحاصر والأعزل. فالمطلوب إذن لكي يرضى ترامب عن الجامعات ويمنحها الدعم المالي الاتحادي عدم الدفاع عن القضية الفلسطينية كلياً، وعدم السماح للطلبة بإبداء الرأي حول الإبادة الجماعية وكأنها لم تقع أمامنا، ولم نشاهدها في وسائل الإعلام على الهواء مباشرة، إضافة إلى عدم انتقاد قتل الأطفال والنساء والشيوخ، والسكوت على هدم المستشفيات والكنائس والمساجد، والصمت عن معاناة الشعب برمته. فلا يبدي أي طالب أية عاطفة، أو يعبر عن شعور إنساني، أو إحساس بشري مع الشهداء، والضحايا، والثكالى، والمرضى، واليتامى، والأرامل، والمعوقين بسبب حرب الصهاينة الهمجية والبربرية على شعب غزة ومخيمات الضفة الغربية، وإذا فعل ذلك فهو سيكون متهماً بمعاداة السامية وسيعتقل ويطرد فوراً من أمريكا! وقد كانت الضحية الأولى على مستوى الطلبة لتسييس وقمع حرية الرأي والتعبير هو الأمريكي الفلسطيني الأصل محمود خليل الذي يحمل البطاقة الخضراء واعتُقل في 10 مارس من السكن الطلابي في الجامعة، وقد صرح ترامب مرهباً الطلبة الآخرين قائلاً: «هذا هو الاعتقال الأول من بين الكثير من الاعتقالات القادمة».
وأما القطاع الثاني غير قطاع الجامعات الذي تم تسييس حرية الرأي والتعبير فيه فهو السلطة الرابعة، أو وسائل الإعلام. فقبل دخول ترامب البيت الأبيض كانت له مواقف معادية لوسائل الإعلام، وكان دائماً يهددها ويسخر منها، وتم تفعيل هذه السياسات الآن بعد أن مسك عصا السلطة التي بدأ يضرب فيها بشدة هذه الوسائل الإعلامية. واستخدم في ذلك عدة أدوات لكبح جماح الإعلام، وترويضها، وجعلها تردد ما يقوله ويصرح به كصدى الصوت، مثل أداة الدعوات القضائية، وأداة إدارية تهميشية وإقصائية للوسائل التي لا تتفق مع رأيه وسياساته. أما بالنسبة إلى الدعوات القضائية فقد رفع قضية ضد المحطة التلفزيونية الإخبارية الشهيرة «أي بي إس»، وتوصل معهم إلى تسوية بحيث دفعت المحطة مبلغ 15 مليون دولار، إضافة إلى القضية التي رفعها ضد المحطة التلفزيونية الشهيرة «سي بي إس». وعلاوة على هذه الإجراءات القضائية المالية فقد استخدم أسلوب الإقصاء والتهميش، حيث منع وكالة «أسوشييتد برس» المعروفة من البيت الأبيض، وحظر تغطيتهم لأخبار البيت الأبيض، وذلك بسبب تقديمهم وتبنيهم لآراء مخالفة لترامب. كما أصبح البيت الأبيض الآن ولأول مرة هو الذي يختار الشبكات الإعلامية التي تحضر المؤتمرات الصحفية الدورية في البيت الأبيض، حيث يركز ترامب على وسائل الإعلام اليمينية المسيحية والصهيونية المتشددة، حتى يسيس آراءهم ويضمن نشرهم لسياساته، ومواقفه دون انتقاد، أو معارضة، فتتحول هذه الوسائل إلى أبواق عمياء تكرر وتنقل فقط آراء وسياسات حكومة ترامب.
والمشكلة العظمى الآن ستكمن في أن هذا الوباء الفكري العقيم لن يتفشى فقط على مستوى أمريكا فحسب وإنما سينتقل إلى ما عبر البحار والمحيطات، فيُعدي ويلوث سياسات الدول الأخرى التي ستتأثر به، وخاصة أن ترامب لم ينتظر طويلاً للإفصاح عن نواياه التوسعية الجغرافية حول العالم، وفرضْ سياساته وآرائه المتطرفة والمنحازة على الآخرين خارج أمريكا، كما أنه لم يصبر قليلاً حتى بعد موعد تنصيبه رئيساً رسمياً للولايات المتحدة الأمريكية ليؤكد طموحاته الاستعمارية لدول العالم التي تتمتع بالسيادة والحكم الذاتي، سواء بالقوة العسكرية التقليدية المعروفة، أو بسلاح القوة الاقتصادية، أو بالترهيب والابتزاز. ففي السابع من يناير 2025 في المؤتمر الصحفي أعلن عن خططه للانقضاض على الدول، وضمها إلى إمبراطورتيه الواسعة بحجج بالية ووهمية منها ضروريات الأمن القومي الأمريكي، وتعميم السلام والأمن على سطح الأرض، وحماية العالم الحر، مثل جزيرة جرينلاند، وقناة باناما، إضافة إلى ضم كندا لتُصبح الولاية رقم (51) للولايات المتحدة الأمريكية، كما قام بتغيير الاسم التاريخي لخليج المكسيك إلى «خليج أمريكا».
فكل ما سبق يؤكد واقعية الحُكم الدكتاتوري التوسعي وسياسة رأي الفرد الواحد فقط، والعمل بشدة على تسييس حرية الرأي والتعبير على كافة المستويات في الداخل والخارج لتتوافق مع هذا الحُكم، بحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية مع هذا التلوث الفكري والتنمر على الآخرين تحولت إلى دولة من دول العالم الثالث، أو إحدى الدول النامية غير المتحضرة التي تفتقر إلى حرية كاملة للرأي والتعبير والفكر المتنوع والمختلف.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك