العدد : ١٧١٥٦ - الخميس ١٣ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٦ - الخميس ١٣ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ رمضان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

شهر رمضان المبارك موسم لتعزيز القيم البيئية والمسؤولية المجتمعية

بقلم: د. فاطمة ناصر العالي

الخميس ١٣ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك،‭ ‬ذلك‭ ‬الشهر‭ ‬الذي‭ ‬يحل‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬محملا‭ ‬بنفحات‭ ‬إيمانية‭ ‬تلامس‭ ‬الروح،‭ ‬ويعد‭ ‬فرصة‭ ‬ثمينة‭ ‬للإنسان‭ ‬للتأمل‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬ومراجعة‭ ‬سلوكياته‭ ‬اليومية،‭ ‬والارتقاء‭ ‬بأخلاقياته‭. ‬إنه‭ ‬الشهر‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬دعوة‭ ‬عميقة‭ ‬للسمو‭ ‬بالروح،‭ ‬لتهذيب‭ ‬النفس،‭ ‬وزيادة‭ ‬الوعي‭ ‬بالقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تعزز‭ ‬الانسجام‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تلتقي‭ ‬القيم‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬يروج‭ ‬لها‭ ‬هذا‭ ‬الشهر‭ ‬مع‭ ‬ضرورة‭ ‬ترشيد‭ ‬استهلاك‭ ‬الموارد‭ ‬الطبيعية،‭ ‬بما‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬الجهود‭ ‬نحو‭ ‬الوعي‭ ‬البيئي‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬واستدامة‭ ‬مواردها‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة،‭ ‬وفقًا‭ ‬لما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬وَلَا‭ ‬تُسْرِفُوا‭ ‬إِنَّهُ‭ ‬لَا‭ ‬يُحِبُّ‭ ‬الْمُسْرِفِينَ‭). ‬هذا‭ ‬التوجيه‭ ‬الرباني‭ ‬يمثل‭ ‬دعوة‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬الاعتدال،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬ضبط‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬العبادة،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الموارد‭ ‬الطبيعية‭ ‬بحكمة‭ ‬وعناية،‭ ‬دون‭ ‬هدر‭ ‬أو‭ ‬إسراف‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬يُعد‭ ‬شهر‭ ‬الزهد‭ ‬والامتناع‭ ‬عن‭ ‬رغبات‭ ‬النفس،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬يعكس‭ ‬تباينًا‭ ‬ملحوظًا‭ ‬مع‭ ‬دعوة‭ ‬الشهر‭ ‬الكريم؛‭ ‬حيث‭ ‬يشهد‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬مظاهر‭ ‬استهلاك‭ ‬مفرط‭ ‬للطعام،‭ ‬والماء،‭ ‬والطاقة،‭ ‬مما‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬زيادة‭ ‬حجم‭ ‬النفايات،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬ذات‭ ‬الدخل‭ ‬المرتفع‭. ‬ووفقًا‭ ‬لتقارير‭ ‬‮«‬برنامج‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬للبيئة‮»‬‭ (‬UNEP‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬وصل‭ ‬الهدر‭ ‬الغذائي‭ ‬عالميًا‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬مقلقة،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬فقدان‭ ‬أو‭ ‬إهدار‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬ثلث‭ ‬الإنتاج‭ ‬الغذائي‭ ‬السنوي،‭ ‬أي‭ ‬حوالي‭ ‬1‭.‬3‭ ‬مليار‭ ‬طن‭ ‬من‭ ‬الغذاء‭. ‬وهذه‭ ‬الأرقام‭ ‬الضخمة‭ ‬لا‭ ‬تؤدي‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬ضياع‭ ‬موارد‭ ‬غذائية‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تغطي‭ ‬حاجة‭ ‬الشعوب‭ ‬الأشد‭ ‬فقرًا،‭ ‬بل‭ ‬تُسهم‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬تفاقم‭ ‬مشكلة‭ ‬التغير‭ ‬المناخي،‭ ‬حيث‭ ‬يتحلل‭ ‬هذا‭ ‬الغذاء‭ ‬المهدور‭ ‬مسببًا‭ ‬انبعاث‭ ‬كميات‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬الغازات‭ ‬الدفيئة‭ ‬التي‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬الاحتباس‭ ‬الحراري‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬أهمية‭ ‬استثمار‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬لنشر‭ ‬ثقافة‭ ‬الوعي‭ ‬البيئي،‭ ‬استحضارًا‭ ‬للقيم‭ ‬التي‭ ‬يدعو‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬اعتدال‭ ‬وتوازن‭.‬

لا‭ ‬تقتصر‭ ‬الرؤية‭ ‬الإسلامية‭ ‬للاستدامة‭ ‬على‭ ‬مجرد‭ ‬تجنب‭ ‬الإسراف،‭ ‬بل‭ ‬تتعداها‭ ‬لتجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬مسؤولًا‭ ‬عن‭ ‬إعمار‭ ‬الأرض،‭ ‬وفقًا‭ ‬لما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬هُوَ‭ ‬أَنْشَأَكُم‭ ‬مِّنَ‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬وَاسْتَعْمَرَكُمْ‭ ‬فِيهَا‭). ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التكليف‭ ‬الإلهي،‭ ‬نجد‭ ‬ما‭ ‬يتناغم‭ ‬مع‭ ‬مبادئ‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬الحديثة،‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬تلبية‭ ‬احتياجات‭ ‬الحاضر‭ ‬دون‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬حقوق‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق،‭ ‬يتحول‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬حقيقية‭ ‬تعلّم‭ ‬الإنسان‭ ‬سلوكيات‭ ‬الترشيد‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الموارد‭ ‬الطبيعية‭ ‬بشكل‭ ‬مدروس،‭ ‬بحيث‭ ‬يستهلك‭ ‬الإنسان‭ ‬بما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬حاجاته،‭ ‬ويترك‭ ‬ما‭ ‬زاد‭ ‬للطبيعة‭ ‬أو‭ ‬للآخرين،‭ ‬بما‭ ‬يضمن‭ ‬التوازن‭ ‬البيئي‭ ‬واستدامته،‭ ‬هذا‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬بالفعل‭ ‬تبني‭ ‬مبادرات‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬رمضان‭ ‬بلا‭ ‬نفايات‮»‬‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الإسلامية،‭ ‬حيث‭ ‬تركز‭ ‬هذه‭ ‬المبادرات‭ ‬على‭ ‬تقليل‭ ‬المخلفات‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬موائد‭ ‬الإفطار‭ ‬الجماعي‭ ‬والخيري،‭ ‬مما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬البيئة‭ ‬وحماية‭ ‬الموارد‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬الرمضانية،‭ ‬باتت‭ ‬الدعوات‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬أدوات‭ ‬صديقة‭ ‬للبيئة‭ ‬مثل‭ ‬الأكياس‭ ‬الورقية‭ ‬أو‭ ‬القماشية‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭ ‬الضار،‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الخطوات‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬اتخاذها‭ ‬نحو‭ ‬تعزيز‭ ‬البيئة‭ ‬المستدامة‭. ‬

أما‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفردي،‭ ‬فإن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬يوفر‭ ‬فرصة‭ ‬عظيمة‭ ‬لكل‭ ‬شخص‭ ‬ليتعلم‭ ‬كيفية‭ ‬العيش‭ ‬بتوازن‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬مظاهر‭ ‬البذخ‭ ‬والإسراف‭. ‬ويمكن‭ ‬للمرء‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬بخطوات‭ ‬بسيطة‭ ‬مثل‭ ‬تقليل‭ ‬كميات‭ ‬الطعام‭ ‬المجهزة‭ ‬للإفطار،‭ ‬واختيار‭ ‬المنتجات‭ ‬المحلية‭ ‬الموسمية،‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬استهلاك‭ ‬المياه‭ ‬أثناء‭ ‬الوضوء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬المنزلية‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التغييرات‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬صغيرة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الفرد،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تأثيرها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هائلًا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تبناها‭ ‬المجتمع‭ ‬بشكل‭ ‬جماعي،‭ ‬مما‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬البيئة‭ ‬وتحقيق‭ ‬حياة‭ ‬أفضل‭. ‬ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬تأثير‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬في‭ ‬الأفراد‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يمتد‭ ‬ليشمل‭ ‬المؤسسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والتجارية،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬اهتمامًا‭ ‬بتبني‭ ‬سياسات‭ ‬مسؤولة‭ ‬بيئيًا‭ ‬واجتماعيًا‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬تبرز‭ ‬مفاهيم‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الاقتصاد‭ ‬الأخضر‮»‬‭ ‬و«المسؤولية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للشركات‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬من‭ ‬استراتيجيات‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭. ‬وحسب‭ ‬توجيهات‭ ‬اللجنة‭ ‬الدولية‭ ‬المعنية‭ ‬بتغير‭ ‬المناخ‭ (‬IPCC‭) ‬بضرورة‭ ‬تقليل‭ ‬الانبعاثات‭ ‬الكربونية،‭ ‬واعتماد‭ ‬مصادر‭ ‬الطاقة‭ ‬النظيفة‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬تطبيقًا‭ ‬عمليًا‭ ‬خلال‭ ‬الشهر‭ ‬الكريم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقليل‭ ‬استهلاك‭ ‬الكهرباء،‭ ‬وتخفيف‭ ‬استخدام‭ ‬المركبات‭ ‬الخاصة،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬الأنشطة‭ ‬الرمضانية‭ ‬الطويلة،‭ ‬بهدف‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬البصمة‭ ‬الكربونية‭.‬

وختامًا‭: ‬إن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك،‭ ‬بما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬معان‭ ‬روحية‭ ‬وسلوكيات‭ ‬عملية،‭ ‬يمثل‭ ‬فرصة‭ ‬حقيقة‭ ‬لإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬العادات‭ ‬اليومية،‭ ‬وتحويل‭ ‬الوعي‭ ‬البيئي‭ ‬إلى‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬هوية‭ ‬المجتمع‭ ‬الدينية‭ ‬والثقافية‭. ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تمكنت‭ ‬المجتمعات‭ ‬من‭ ‬تحويل‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬إلى‭ ‬ممارسات‭ ‬مستدامة،‭ ‬فإن‭ ‬الأثر‭ ‬سيكون‭ ‬دائمًا،‭ ‬مما‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬توازن‭ ‬بين‭ ‬متطلبات‭ ‬الحياة‭ ‬الحديثة‭ ‬وضرورة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬البيئة‭. ‬فالبيئة‭ ‬ليست‭ ‬مسؤولية‭ ‬فرد‭ ‬أو‭ ‬جهة‭ ‬بعينها،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مسؤولية‭ ‬جماعية،‭ ‬وأقرّ‭ ‬الإسلام‭ ‬هذا‭ ‬الواجب‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬حيث‭ ‬وضعه‭ ‬ضمن‭ ‬أولويات‭ ‬المسلم‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬رضا‭ ‬الله‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬لذا،‭ ‬يبقى‭ ‬رمضان‭ ‬أفضل‭ ‬منصة‭ ‬لتعزيز‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬البيئي‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬مجتمعية‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة،‭ ‬وتؤكد‭ ‬مكانة‭ ‬الإنسان‭ ‬خليفة‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬شرط‭ ‬التوقف‭ ‬عن‭ ‬الإسراف‭ ‬والإفساد‭ ‬فيها‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا