«رؤية البحرين الاقتصادية 2050» التي ستطلقها البحرين في الفترة القادمة يمكن أن تركز على أمرين اقتصاديين مهمين. الأول هو الجانب المتعلق في زيادة إيرادات الدولة المالية في جميع القطاعات النفطية وغير النفطية، من سياحية، وخدمية، واستثمارية مالية، وصناعية، وغيرها من روافد ومصادر تنمية اقتصاد الدولة. والثاني تحديد القضايا والمجالات التي ترفع من نسبة مصروفات الدولة، وتزيد من النفقات العامة، فتؤدي إلى إرهاق ميزانية الدولة.
فلا بد إذن من التركيز بالقدر نفسه على هذين الأمرين، والتوازن والاعتدال في الجهود المبذولة في نجاحهما وتحقيقهما معاً جنباً إلى جنب، حتى لا نضع جل اهتمامنا ووقتنا، ونصب كل جهودنا في الجانب الأول، وننسى الجانب الثاني الذي يستهلك ويستنزف كل ما حققنا من استثمارات ورفع لمداخيل الدولة وإيراداتها. أي لا نريد أن نُدخل في ميزانية الدولة ملايين الدنانير من جهة، ثم من جهةٍ أخرى نُنفق ونصرف أكثر منها على أمور لها مردوداتها السلبية على اقتصاد الدولة وميزانيتها.
فهناك اليوم قضايا اقتصادية غير القضايا الاقتصادية التقليدية المعروفة منذ عقود طويلة من الزمن، وتأثير هذه القضايا الحديثة المستجدة على اقتصاد الدولة وميزانيتها يقع بطريقة غير مباشرة على المدى المتوسط والبعيد، ويكون هذا التأثير مرهقاً لميزانية الدولة. ومن بين هذه القضايا الاقتصادية الجديدة هو التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، الذي يعتبر من العوامل الاقتصادية الخارجية التي تستنزف المال العام.
وقد اهتمت الدول الصناعية المتقدمة بقضية تلوث الهواء بشكلٍ جدي، ولكن على عدة مراحل ومستويات استغرقت فترات زمنية طويلة. ففي المرحلة الأولى اهتمت الدول المتطورة بقضية تلوث الهواء والملوثات السامة والخطرة الموجودة فيه من الناحية البيئية البحتة، كأضرارها المباشرة على صحة وسلامة الهواء وجودته وصفائه وتغير لونه، إضافة إلى انكشاف مظاهر بيئية ظهرت في الهواء الجوي في هذه المدن الصناعية العريقة، كالضباب الأسود، والضباب الضوئي الكيميائي، والمطر الحمضي والأسود وغيرها من المظاهر المتعلقة مباشرة بجودة الهواء الجوي.
ثم بعد عقود من الزمن من نزول هذه المظاهر والمشكلات البيئية في الهواء الجوي، اكتشف الإنسان أن لهذه المظاهر جوانب صحية، وأن هذه المظاهر التي تنكشف في الهواء الجوي لها أبعاد خطيرة على الأمن الصحي للإنسان، سواء على المستوى المباشر القريب، أو على المستوى غير المباشر والبعيد.
ومن هنا جاءت المرحلة الثانية من عناية واهتمام الدول المتقدمة بتلوث الهواء، وهو معرفة العلاقة بين تلوث الهواء والصحة العامة. فقد أكدت آلاف الدراسات والأبحاث البيئية والصحية أن هناك الكثير من الأمراض التي ارتبطت الآن بتلوث الهواء، والتعرض للملوثات لفترة طويلة من الزمن، والعيش في مدن ملوثة، مثل أنواع كثيرة من السرطان، وعلى رأسها سرطان الرئة، علماً بأن سرطان الرئة في العقود الماضية كان مرتبطاً بالتدخين واليوم بتلوث الهواء (راجع: مجلة اللانست في 3 فبراير 2025). ومن الأمراض الأخرى ذات العلاقة بتلوث الهواء، أمراض الجهاز التنفسي الأخرى كالربو والانسداد الرئوي المزمن، وأمراض القلب، السكتة الدماغية، ومرض احتشاء عضلة القلب، وارتفاع ضغط الدم، إضافة إلى مرض السكري من النوع الثاني، والشيخوخة المبكرة، وتعقيدات حمل المرأة والتأثيرات المباشرة على الولادة وصحة الطفل المولود.
ومع الزمن تحولت هذه العلاقة بين تلوث الهواء وبعض الأمراض الحادة والمزمنة إلى حقيقة علمية أجمع عليها العلماء والمنظمات الصحية الدولية ذات العلاقة. فعلى سبيل المثال، منظمة الصحة العالمية وصفت تلوث الهواء بالقاتل الصامت، كما صنَّفت الوكالة الدولية للأبحاث عن السرطان، وهي الذراع العلمي المهتم بمرض السرطان لمنظمة الصحة العالمية، تلوث الهواء بأنه المحتمل أن يكون مسرطناً، أي يصيب الإنسان بمرض السرطان.
فبعد التأكد والاجماع على أن هناك علاقة مباشرة وسببية بين التعرض للهواء الملوث والعيش في بيئة ملوثة وبين الكثير من الأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج، إضافة إلى تأثيرها المباشر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بجودة الهواء والصحة العامة والعيش في بيئة صحية وسليمة، كان لا بد من الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الرعاية والاهتمام من قبل الدول المتطورة، وهي كلفة علاج الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء الجوي، ومدى تأثيرها على اقتصادات وميزانيات الدول، وحجم الانفاق والمصروفات على إدارة أمراض البيئة الملوثة. ففي هذه المرحلة الأخيرة تم التعامل مع تلوث الهواء كقضية اقتصادية، ونفقات خارجية تتحملها الدول، وتصرفها من ميزانياتها.
ومن أجل التعرف عن كثب على الجانب الاقتصادي المالي لتلوث الهواء فقد نُشرت مئات الدراسات، منها دراسات مستقلة قامت بها الجامعات ومراكز الأبحاث، ومنها الدراسات والتقارير التي أجرتها حكومات الدول. وآخر هذه الدراسات التي قدَّرت الكلفة الاقتصادية لتلوث الهواء جاءت من الحكومة الفرنسية، وبالتحديد من «وكالة الصحة العامة» ( Public Health France)، ونشرتْ تقريرها في 29 يناير 2025 .
حيث أفادت هذه الدراسة الحكومية الرسمية بأن التعرض للملوثات في الهواء الجوي، وبالتحديد الدخان أو الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين اللذان ينبعثان من السيارات ومحطات توليد الكهرباء تسبب المئات من الأمراض الحادة والمزمنة سنوياً، وترهق ميزانية الدولة بمبالغ مالية هائلة تقدر بأكثر من 16 مليار يورو سنوياً. فقد قيًّمت هذه الدراسة وقامت بإجراء تحليلٍ كمي ولأول مرة للتأثيرات الاقتصادية لتلوث الهواء في فرنسا، فعدد الوفيات من تلوث الهواء يقدر بنحو 40 ألف سنوياً في عام 2021، كما أن التعرض لفترة طويلة لتلوث الهواء يؤدي إلى انكشاف حالات مرضية جديدة كل سنة.
فعلى سبيل المثال بالنسبة للأطفال من 12% إلى 20% من الحالات الجديدة لأمراض الجهاز التنفسي، أي من 7000 إلى 40 ألف حالة سنوياً، وبالنسبة الى كبار السن من 7% إلى 13% من حالات الجهاز التنفسي الجديدة، أي 4000 إلى 78 ألف حالة سنويا.
وقد خلصت الدراسة إلى عدة نتائج مهمة جداً يجب أن تتحول إلى سياسات اقتصادية للدول، وهي أن تلوث الهواء يسبب تدهوراً اقتصادياً كبيراً يضخم من تكاليف العناية الصحية للشعب، وذلك من ناحية زيادة الأمراض الجسدية والعقلية والنفسية وارتفاع مستوى الوفيات في سنٍ مبكرة، وخفض الإنتاجية للشعب، وزيادة الغياب عن العمل، إضافة إلى تدهور المرافق والمباني والتأثير على القطاع الزراعي. كما خلصت الدراسة إلى أن هذه التكاليف الاقتصادية الخارجية يمكن منعها وخفضها من خلال خفض نسبة الملوثات وتحسين جودة الهواء.
ولذلك فهناك اجماع دولي على علاقة تلوث الهواء باقتصادات الدول، وارتفاع تكاليف العلاج من الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء، ما يعني أن أي خطة اقتصادية استراتيجية لأية دولة كـرؤية البحرين الاقتصادية 2050، يجب أن تتضمن رؤية واضحة في ترتيب تلوث الهواء في قائمة الأولويات، وأن تشتمل على خطة وإجراءات سنوية لخفض تركيز كل نوع من أنواع الملوثات الرئيسة في الهواء وتحسين جودة الهواء بشكل عام. فتحقيق هذه الرؤية يصب في أهداف التنمية المستدامة، ويرفع من مستوى التنافسية من خلال توفير بيئة الهواء النظيفة والصحية التي تجذب الاستثمار، ويخفض من العبء على ميزانية الدولة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك