أثار الحوار الذي دار بين ترامب وزيلينسكى بين أوساط المفكرين علامات استفهام عديدة بقدر ما أثار دهشة العالم حول منحاه الدرامي العجيب، وخاصة أنه يشذ عن المألوف في المجال الدبلوماسي وعن المعتاد في المناقشات التي تجرى بين رؤساء الدول خلال لقاءاتهم.
وبخلاف ما تشير إليه الوسائل الإعلامية العالمية من أن هذا اللقاء حقق ملايين المشاهدات فهو قد كشف بوضوح أننا على عتبة نظام عالمي جديد مختلف تمامًا عما تصوره الكثيرون من خبراء السياسة والاجتماع. فمن كان مثلًا يتوقع أن يومًا سيأتي تتصدع فيه العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا وهما اللذان ارتبطا بعلاقة تاريخية قوية الجذور تدشنت في حلف الناتو وغيره؟ ومن كان بمقدوره يتصور أن يصير رئيسًا للولايات المتحدة شخص يدهس كل الأصول الدبلوماسية المستقرة ويضرب بأبسط مبادئها عرض الحائط؟
نحن بلا ريب أمام رئيس أمريكي مختلف عن كل من سبقه من الرؤساء ويرى البعض ان شخصيته وطريقته في التفكير تشبه بدرجة ما شخصية «شايلوك» في رائعة شكسبير المعروفة «تاجر البندقية».
كان شايلوك تاجرًا نهمًا جشعًا لا هم له في الدنيا إلا جمع ثروة طائلة بأي وسيلة مهما بلغت في لاأخلاقياتها. ولم يجاوز مستشاره السابق للأمن القومي الجنرال هربرت ريموند ماكماستر الحقيقة عندما صرح في 8 يناير الماضي أمام مجلس العلاقات الخارجية بأن السيد ترامب لا يعتبر الاتحاد الأوروبي شريكًا له وإنما يراه منافسًا اقتصاديًا مستغلًا للولايات المتحدة ينبغي إزاحته، كما أنه لا يرى في أساليبه الدبلوماسية ورؤيته الخاصة في التعامل مع الدول أي تعارض مع الأعراف الدبلوماسية التقليدية.
وقد بدت واضحة رؤيته الخاصة كتاجر سوق للأمريكيين في الرحلة الغريبة التي قام بها نجله إلى جرينلاند وكان في استقباله أشخاص يرتدون قبعات مطبوع عليها عبارة عريضة تقول «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، فهؤلاء الأشخاص لم يكونوا سوى بضعة مأجورين جندتهم إدارة ترامب للقيام بهذا الاستقبال الحافل مقابل أن توفر لهم وجبة طعام ساخنة وبعض العطايا.
وعندما تم تنصيب ترامب رئيسًا أرسل في اليوم التالي مباشرة السيد ستيفن ويتكوف وهو أحد أكبر وأقدم شركائه في تجارة العقارات، ولا يتمتع بأي خبرة في الشؤون الدبلوماسية والسياسية إلى إسرائيل لكي يتولى بنفسه الإشراف على وقف إطلاق النار بين تل أبيب وحركة حماس!
وثمة واقعة لفتت انتباه المعلقين فيما يخص جرينلاند وبنما. إذ برر رئيس الولايات المتحدة تهديداته بإقامة الحواجز الجمركية بحجة «الأمن القومي الأمريكي». ولم تكن هذه المرة الأولى التي يستحضر فيها هذه الحجة في سياق يرتبط في حقيقة الأمر بالتجارة الخارجية وما تدره من أرباح هائلة أكثر من فكرة الدفاع والأمن القومي. وقد سبق لترامب أن استخدم هذا التبرير منذ عام 2017 وحذا حذوه بعد ذلك جو بايدن لإضفاء الشرعية على سياسة التحول الحمائي للاقتصاد الأمريكي اعتمادًا على بند لم يستغل إلا نادرًا في الاتفاقية العامة القديمة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (الجات) التي تبيح لأي دولة عضو اتخاذ «أي إجراء تراه ضروريًا لحماية المصالح الأساسية لأمنها». وربما كان هذا التحايل الشيء الوحيد الذي اشترك فيه ترامب مع بايدن من أجل منع هيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية من مراجعتهما في قرارهما.
بيد أن السؤال الذي يشغل خبراء السياسة الساخطين على أساليب ترامب في إدارته للملفات الداخلية والخارجية يدور حول مواجهة التجمع الغريب من وزراء غير متجانسين يبلغ عددهم 14 مليارديرًا من عديمي الخبرة في الشؤون السياسية.
يرى أستاذ الاجتماع مارتان بارني أن «النهج غير المعتاد الذي يسير عليه ترامب يتشابه إلى حد كبير مع منهج سلفه ريتشارد نيكسون الذي كان متخصصًا في الحيل المثيرة للجدل، فكل منهما بنى رئاسته حول استخدام شخصيات من خارج المجال السياسي، فترامب مثلا عين إيلون ماسك في حكومته وزيرا لمجرد أنه مول حملته الرئاسية بـ288 مليون دولار. كما أن نيكسون اتبع سياسة أحادية تخلى فيها عن الاهتمام بالقارة القديمة (اوروبا) لصالح موسكو وكان مصيره مأساويًا عندما عجز عن الدفاع عن نفسه في فضيحة ووترجيت.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآاب - جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك