بلا شك، أضحى التعايش السلمي ركيزة أساسية في بناء المجتمعات المستقرة، ولم يعد نقاشا نظريا، بل ضرورة حتمية تفرضها التحديات التي تواجه الدول في عصرنا الحالي. ففي عالم يتسم بالتنوع والاختلاف، لا يمكن لأي كيان أن يحقق الاستقرار دون الاعتراف بحق الجميع في العيش بسلام، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الثقافة.
انطلاقا من هذه القناعة، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 28 يناير يوما عالميا للتعايش السلمي، بناءً على مبادرة قدمتها البحرين عبر مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي الذي يهدف إلى نشر قيم التسامح وإرساء التفاهم بين الثقافات والديانات. هذه الخطوة تأتي كتقدير دولي للجهود المستمرة التي تبذلها بلدنا لتعزيز قيم التسامح والانفتاح، وإرساء ثقافة التقدير المتبادل بين الشعوب.
ثقافة الوئام ليست فكرة عابرة أو مشروعا مؤقتا، بل هي عملية متواصلة تحتاج إلى تضافر الجهود على مختلف المستويات والأصعدة. التعليم، والإعلام، والتشريعات، كلها تلعب دورًا في تشكيل الوعي المجتمعي، وتعمل على ترسيخ قيم المودة والتآزر. فلا يمكن بناء أمة متماسكة إذا لم يكن هناك وعي جماعي بأهمية قبول الآخر والتفاعل الإيجابي معه.
لقد أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). (الحجرات: 13). وهذا التعارف لا يكون إلا من خلال التفاعل الإيجابي وقبول الآخر، وهو جوهر الانسجام بين المكونات المختلفة، ويعكس أحد مبادئ ديننا الحنيف القائم على السلام والحب.
في كثير من الأحيان، لا يكمن التحدي في التنوع نفسه، بل في كيفية إدارته. بعض الجموع تنجح في تحويل التنوع إلى مصدر قوة، فيما تجد جموع أخرى للأسف نفسها عالقة في دوائر الصراعات بسبب عدم قدرتها على تقبل الاختلاف. في الأندلس، على سبيل المثال، كان التنوع العرقي والديني عنصرا أساسيا في النهضة الفكرية والعلمية التي شهدتها المنطقة، قبل أن تقضي النزاعات على هذا النموذج الفريد من التعايش. وماليزيا اليوم مثال آخر على قدرة المجتمعات المتعددة الثقافات على تحقيق التقدم والاستقرار من خلال سياسات تعزز المشاركة والعدالة.
عندما اقترحت البحرين تخصيص يوم عالمي للتعايش السلمي، لم يكن ذلك إجراءً بروتوكوليا بحتا، بل رسالة واضحة بأن السلام والتسامح يجب أن يكونا في صلب السياسات والممارسات اليومية. فقد أثمر التلاقي اليومي بين مختلف الأطياف تجربة حقيقية، حيث صنعت فسيفساء المجتمع البحريني، بمكوناته المتنوعة، واقعا عمليا يثبت أن الاختلاف يثري الهوية الوطنية ولا يهددها.
العالم اليوم في حاجة ماسة إلى خطاب جديد يعزز قيم التعايش، ويبتعد عن خطابات الانقسام والتفرقة.
لكن تحقيق التسامح والقبول المتبادل، لا يقتصر على السياسات الحكومية والمبادرات الدولية، بل يبدأ من الأفراد أنفسهم. كل شخص في المجتمع مسؤول وهو جزء من هذه المنظومة، وتصرفاته اليومية يمكن أن تكون إما عاملا لتعزيز هذا التوجه أو سببا لزيادة الفجوة بين الفئات المختلفة. الاعتراف بالآخر، والإصغاء له، والابتعاد عن الأحكام المسبقة، كلها ممارسات بسيطة لكنها تصنع فارقا في بناء بيئة أكثر وئاما وتواصلا، وعندما تتلاقى الجهود الفردية مع المبادرات المجتمعية. يقف المجتمع المدني، بمبادراته الخلاقة وحواراته المفتوحة، في طليعة تحويل قيم التعايش من نظريات مجردة إلى تجارب ملموسة، وتترسخ ثقافة القبول كممارسة، يعيشها الجميع بتلقائية وعفوية.
الحروب والنزاعات لم تحقق يوما استقرارًا مستداما، بينما أثبت التاريخ أن المجتمعات التي تبنت الانفتاح والتسامح كانت الأكثر قدرة على تحقيق الازدهار. وكما قال الزعيم والمناضل الجنوب إفريقي، نيلسون مانديلا: «السلام ليس مجرد غياب الصراع، بل هو القدرة على التعامل مع الاختلاف بوسائل سلمية».
المستقبل يعتمد على قدرتنا على بناء جسور التواصل بين الثقافات المختلفة، وإعلاء المثل الكونية. التحديات التي تواجه العالم اليوم – سواء كانت بيئية أو اقتصادية أو سياسية– لا يمكن مواجهتها إلا من خلال التعاون والتفاهم بين الأمم. وهذا يتطلب سياسات شاملة تدعم الحوار وتكافح كل أشكال التمييز والكراهية.
إقرار يوم عالمي للتعايش السلمي هو خطوة مهمة نحو عالم أكثر استقرارًا، لكنه ليس سوى البداية. المطلوب هو عمل مستمر لترسيخ ثقافة التعايش في كل جانب من جوانب الحياة، وتحويل هذا المبدأ إلى ممارسة يومية تبنى عليها مجتمعات أكثر قوة وتلاحما.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك