العدد : ١٧١٥٤ - الثلاثاء ١١ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٤ - الثلاثاء ١١ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ رمضان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

28 يناير.. مبادرة بحرينية لترسيخ التعايش السلمي

بقلم: نبيلة رجب

الثلاثاء ١١ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

بلا‭ ‬شك،‭ ‬أضحى‭ ‬التعايش‭ ‬السلمي‭ ‬ركيزة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المجتمعات‭ ‬المستقرة،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬نقاشا‭ ‬نظريا،‭ ‬بل‭ ‬ضرورة‭ ‬حتمية‭ ‬تفرضها‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي‭. ‬ففي‭ ‬عالم‭ ‬يتسم‭ ‬بالتنوع‭ ‬والاختلاف،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأي‭ ‬كيان‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬الاستقرار‭ ‬دون‭ ‬الاعتراف‭ ‬بحق‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬بسلام،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬العرق‭ ‬أو‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬الثقافة‭.‬

انطلاقا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القناعة،‭ ‬تبنت‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬يوم‭ ‬28‭ ‬يناير‭ ‬يوما‭ ‬عالميا‭ ‬للتعايش‭ ‬السلمي،‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬مبادرة‭ ‬قدمتها‭ ‬البحرين‭ ‬عبر‭ ‬مركز‭ ‬الملك‭ ‬حمد‭ ‬العالمي‭ ‬للتعايش‭ ‬السلمي‭ ‬الذي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬قيم‭ ‬التسامح‭ ‬وإرساء‭ ‬التفاهم‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬والديانات‭. ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬تأتي‭ ‬كتقدير‭ ‬دولي‭ ‬للجهود‭ ‬المستمرة‭ ‬التي‭ ‬تبذلها‭ ‬بلدنا‭ ‬لتعزيز‭ ‬قيم‭ ‬التسامح‭ ‬والانفتاح،‭ ‬وإرساء‭ ‬ثقافة‭ ‬التقدير‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭.‬

ثقافة‭ ‬الوئام‭ ‬ليست‭ ‬فكرة‭ ‬عابرة‭ ‬أو‭ ‬مشروعا‭ ‬مؤقتا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬عملية‭ ‬متواصلة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تضافر‭ ‬الجهود‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات‭ ‬والأصعدة‭. ‬التعليم،‭ ‬والإعلام،‭ ‬والتشريعات،‭ ‬كلها‭ ‬تلعب‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي،‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬قيم‭ ‬المودة‭ ‬والتآزر‭. ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬بناء‭ ‬أمة‭ ‬متماسكة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬وعي‭ ‬جماعي‭ ‬بأهمية‭ ‬قبول‭ ‬الآخر‭ ‬والتفاعل‭ ‬الإيجابي‭ ‬معه‭.‬

لقد‭ ‬أشار‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس‭ ‬إنا‭ ‬خلقناكم‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬وأنثى‭ ‬وجعلناكم‭ ‬شعوبا‭ ‬وقبائل‭ ‬لتعارفوا‭). (‬الحجرات‭: ‬13‭). ‬وهذا‭ ‬التعارف‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التفاعل‭ ‬الإيجابي‭ ‬وقبول‭ ‬الآخر،‭ ‬وهو‭ ‬جوهر‭ ‬الانسجام‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬المختلفة،‭ ‬ويعكس‭ ‬أحد‭ ‬مبادئ‭ ‬ديننا‭ ‬الحنيف‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬والحب‭.‬

في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬التحدي‭ ‬في‭ ‬التنوع‭ ‬نفسه،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬إدارته‭. ‬بعض‭ ‬الجموع‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬التنوع‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬قوة،‭ ‬فيما‭ ‬تجد‭ ‬جموع‭ ‬أخرى‭ ‬للأسف‭ ‬نفسها‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬الصراعات‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تقبل‭ ‬الاختلاف‭. ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬كان‭ ‬التنوع‭ ‬العرقي‭ ‬والديني‭ ‬عنصرا‭ ‬أساسيا‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬الفكرية‭ ‬والعلمية‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬المنطقة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقضي‭ ‬النزاعات‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬الفريد‭ ‬من‭ ‬التعايش‭. ‬وماليزيا‭ ‬اليوم‭ ‬مثال‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتعددة‭ ‬الثقافات‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬التقدم‭ ‬والاستقرار‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سياسات‭ ‬تعزز‭ ‬المشاركة‭ ‬والعدالة‭.‬

عندما‭ ‬اقترحت‭ ‬البحرين‭ ‬تخصيص‭ ‬يوم‭ ‬عالمي‭ ‬للتعايش‭ ‬السلمي،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬إجراءً‭ ‬بروتوكوليا‭ ‬بحتا،‭ ‬بل‭ ‬رسالة‭ ‬واضحة‭ ‬بأن‭ ‬السلام‭ ‬والتسامح‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكونا‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬السياسات‭ ‬والممارسات‭ ‬اليومية‭. ‬فقد‭ ‬أثمر‭ ‬التلاقي‭ ‬اليومي‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الأطياف‭ ‬تجربة‭ ‬حقيقية،‭ ‬حيث‭ ‬صنعت‭ ‬فسيفساء‭ ‬المجتمع‭ ‬البحريني،‭ ‬بمكوناته‭ ‬المتنوعة،‭ ‬واقعا‭ ‬عمليا‭ ‬يثبت‭ ‬أن‭ ‬الاختلاف‭ ‬يثري‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬ولا‭ ‬يهددها‭.‬

العالم‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬جديد‭ ‬يعزز‭ ‬قيم‭ ‬التعايش،‭ ‬ويبتعد‭ ‬عن‭ ‬خطابات‭ ‬الانقسام‭ ‬والتفرقة‭.‬

لكن‭ ‬تحقيق‭ ‬التسامح‭ ‬والقبول‭ ‬المتبادل،‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬السياسات‭ ‬الحكومية‭ ‬والمبادرات‭ ‬الدولية،‭ ‬بل‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬أنفسهم‭. ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬مسؤول‭ ‬وهو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المنظومة،‭ ‬وتصرفاته‭ ‬اليومية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إما‭ ‬عاملا‭ ‬لتعزيز‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬أو‭ ‬سببا‭ ‬لزيادة‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬الفئات‭ ‬المختلفة‭. ‬الاعتراف‭ ‬بالآخر،‭ ‬والإصغاء‭ ‬له،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الأحكام‭ ‬المسبقة،‭ ‬كلها‭ ‬ممارسات‭ ‬بسيطة‭ ‬لكنها‭ ‬تصنع‭ ‬فارقا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬بيئة‭ ‬أكثر‭ ‬وئاما‭ ‬وتواصلا،‭ ‬وعندما‭ ‬تتلاقى‭ ‬الجهود‭ ‬الفردية‭ ‬مع‭ ‬المبادرات‭ ‬المجتمعية‭. ‬يقف‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬بمبادراته‭ ‬الخلاقة‭ ‬وحواراته‭ ‬المفتوحة،‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬تحويل‭ ‬قيم‭ ‬التعايش‭ ‬من‭ ‬نظريات‭ ‬مجردة‭ ‬إلى‭ ‬تجارب‭ ‬ملموسة،‭ ‬وتترسخ‭ ‬ثقافة‭ ‬القبول‭ ‬كممارسة،‭ ‬يعيشها‭ ‬الجميع‭ ‬بتلقائية‭ ‬وعفوية‭.‬

الحروب‭ ‬والنزاعات‭ ‬لم‭ ‬تحقق‭ ‬يوما‭ ‬استقرارًا‭ ‬مستداما،‭ ‬بينما‭ ‬أثبت‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تبنت‭ ‬الانفتاح‭ ‬والتسامح‭ ‬كانت‭ ‬الأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الازدهار‭. ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬الزعيم‭ ‬والمناضل‭ ‬الجنوب‭ ‬إفريقي،‭ ‬نيلسون‭ ‬مانديلا‭: ‬‮«‬السلام‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬غياب‭ ‬الصراع،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الاختلاف‭ ‬بوسائل‭ ‬سلمية‮»‬‭.‬

المستقبل‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬جسور‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬المختلفة،‭ ‬وإعلاء‭ ‬المثل‭ ‬الكونية‭. ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬بيئية‭ ‬أو‭ ‬اقتصادية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬مواجهتها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التعاون‭ ‬والتفاهم‭ ‬بين‭ ‬الأمم‭. ‬وهذا‭ ‬يتطلب‭ ‬سياسات‭ ‬شاملة‭ ‬تدعم‭ ‬الحوار‭ ‬وتكافح‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬التمييز‭ ‬والكراهية‭.‬

إقرار‭ ‬يوم‭ ‬عالمي‭ ‬للتعايش‭ ‬السلمي‭ ‬هو‭ ‬خطوة‭ ‬مهمة‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬أكثر‭ ‬استقرارًا،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬البداية‭. ‬المطلوب‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬مستمر‭ ‬لترسيخ‭ ‬ثقافة‭ ‬التعايش‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬الحياة،‭ ‬وتحويل‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬إلى‭ ‬ممارسة‭ ‬يومية‭ ‬تبنى‭ ‬عليها‭ ‬مجتمعات‭ ‬أكثر‭ ‬قوة‭ ‬وتلاحما‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا