استقطبت المشادة الكلامية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اهتمام الملايين حول العالم وخاصة أنه ليس من المعتاد أن تجرى مناقشات حول العلاقات بين الدول على الهواء مباشرة، حيث اعتدنا أن تلتقط عدسات المصورين ابتسامات اللقاءات حتى لو كانت المحادثات قد جرت على نحو مغاير، ذلك اللقاء المثير للجدل أعاد إلى ذهني نقاشا مع أحد الزملاء قبل نحو ثلاث سنوات عندما سألني: إذا كان لديك نصيحة للرئيس الأوكراني فما هذه النصيحة؟ فقلت له فوراً عقد اتفاق مع الرئيس الروسي لمنع الغزو، ربما لم تكن إجابتي مقنعة بالنظر إلى قوة الناتو وكونه عامل ردع ضد أي تهديد للقارة الأوروبية، ولكن معضلة أوكرانيا كما أشرت في مقالات سابقة أنها تصنف ضمن ما يعرف «بالدولة العازلة» وهو مفهوم ينطبق على عديد من الدول في العالم التي تفصل بين قوى متصارعة بما يعنيه ذلك من أن عقلانية القرارات ورشادتها تظل متطلباً للنخب الحاكمة في تلك الدول، فما كان يهم روسيا هو عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، ولكن مؤشرات توجه أوكرانيا نحو ذلك الهدف كانت سبباً في اندلاع الحرب وصولاً إلى الوضع الراهن.
وربما تكون القصة معروفة للكثيرين، ولكن التساؤل الذي يفرض ذاته الآن: ما خيارات الرئيس الأوكراني؟ هل تقديم تنازلات لروسيا أو بالأحرى تسوية الأزمة وفقاً للوضع الميداني والتضحية بما فقدته أوكرانيا من أراض خلال السنوات الثلاث الماضية؟ أو القبول بالمقترحات الأمريكية، أم البحث عن مظلة أوروبية للأمن؟
رد الفعل الروسي تجاه إعلان الرئيس زيلينسكي قبول التفاوض جاء سريعاً وعلى لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي رفض رفضاً قاطعاً هدنة سلام مؤقتة وقال «إن موسكو يجب أن تختار سلاماً في أوكرانيا يضمن أمن روسيا على المدى الطويل وتنميتها المستدامة». وأضاف بالقول: «يتعين علينا أن نختار لأنفسنا خيار السلام الذي يناسبنا ويعكس ذلك قوة وواقع الموقف الروسي والذي لم يكن موجهاً تجاه أوكرانيا فحسب بل للغرب والقارة الأوروبية التي أكدت الأزمة الأوكرانية انكشافها أمنياً وحاجتها لبديل أمني يتكامل مع حلف الناتو ولا يتعارض معه، ولعل ما كان واضحاً أيضاً في الموقف الروسي إثارة ملفات أخرى يمكن أن تكون ضمن أجندة المحادثات الموسعة مع الولايات المتحدة ومنها الملف النووي الإيراني، ففي تصريح للناطق الرئاسي الروسي دميتري بيسكوف قال: «إن روسيا تطور علاقات متبادلة المنفعة مع إيران، ومستعدة لبذل كل ما في وسعها لحل القضية النووية». وأضاف أن «إيران دولة شريكة وحليفة لروسيا»، ويعني ذلك أن تداخل المفاوضات حول أوكرانيا مع ملفات أخرى شائكة بين الولايات المتحدة وروسيا يعني أنها ستكون خصماً من المصالح الأوكرانية على نحو مؤكد، وبالرغم من نتائج الحرب سواء بالنسبة إلى أوكرانيا أو لروسيا فإن الأخيرة لديها القدرات والإمكانات لاستمرار تلك الحرب سنوات قادمة، ويتمثل الخيار الثاني في قبول زيلينسكي بالمقترحات الأمريكية وخاصة بعد إعلان الإدارة الأمريكية تجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وتكمن أهمية الدور الأمريكي في تلك المفاوضات في مسألة الضمانات الأمنية التي لن تكون من خلال حلف الناتو لأن أوكرانيا ليست عضواً في الحلف ولكن من خلال الولايات المتحدة ولكن ما هو ثمن ذلك؟ ربما تكون هناك حاجة إلى توقيع اتفاق يتضمن ذلك ولكنه لا يعني العودة إلى نقطة الصفر على غرار اتفاق مينسك الموقع بين روسيا وأوكرانيا عام 2015، فهناك حرب دامية رتبت خسائر للطرفين وأصبح هناك أمر واقع، أخذاً في الاعتبار أيضاً أن الرئيس زيلينسكي ذاته ربما لا يكون هو الخيار المفضل لدى الإدارة الأمريكية للمضي قدماً في محادثات سلام حيث تمت محادثات بالفعل بين شخصيات في الإدارة الأمريكية وزعماء المعارضة الأوكرانية للنظر في إمكانية إجراء انتخابات رئاسية في أوكرانيا بشكل عاجل، ولكن في الوقت ذاته فإن إعلان الرئيس زيلينسكي أن بلاده لديها استعداد لتوقيع اتفاق مع الولايات المتحدة يتيح لها أفضلية الوصول إلى معادن أوكرانيا ومواردها الطبيعية أمر ذو دلالة، وصولاً إلى الخيار الثالث وهو المظلة الأوروبية لأمن أوكرانيا ولكن حتى الآن لا يوجد إجماع أوروبي على أن أوكرانيا يجب أن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي، ولا حتى في حلف الناتو الذي تتداخل عضوية العديد من دوله مع عضويتها في الاتحاد الأوروبي، حيث كان تصريح مارك روته الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «الناتو» واضحاً بالقول: «إن عضوية أوكرانيا في الحلف يمكن مناقشتها في المستقبل، لكنها لن تكون جزءا من أي اتفاقية سلام»، وعوداً إلى المظلة الأوروبية، حيث يلاحظ تأرجح التأييد ما بين إعلان الاتحاد الأوروبي تخصيص حوالي 30 مليار يورو خلال عام 2025 لدعم أوكرانيا وإعلان بعض الدول الأوروبية استعدادها لإرسال جنود لأوكرانيا والتي ستكون في مرمى نيران القوات الروسية حيث لن يتدخل حلف الناتو للدفاع عن هؤلاء الجنود لأنه ليس اعتداءً على أراضي الحلف وفقاً لمضمون المادة الخامسة، بل وتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه على استعداد لوضع ترسانة بلاده النووية تحت تصرف الأوروبيين لمواجهة التهديدات الروسية وهو ما اعتبرته روسيا تهديداً لها، ولا يزال الطريق أمام الاتحاد الأوروبي طويلاً ليكون لديه بديل أمني على غرار حلف الناتو، وكان لافتاً مشاركة الرئيس زيلينسكي في القمة التي عقدها الاتحاد الأوروبي في 6 مارس 2025 وتم تخصيصها لدعم أوكرانيا ومناقشة تطوير مظلة أمنية أوروبية عموماً في ظل توتر العلاقات الأوروبية- الأمريكية وأكدت خلالها أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية «أنها لحظة وجودية بالنسبة إلى أوروبا ولا بد أن تكون قادرة للدفاع عن نفسها»، ولكن تحفظ المجر على دعم أوكرانيا كان حاضراً.
ومن الطبيعي عدم توقع أي من تلك السيناريوهات، كما هو حال الأزمات التي تعكس تعارض المصالح الاستراتيجية لقوى بينها توازن للقوى (روسيا، حلف الناتو) على الأقل على المستوى النووي مع تفوق نسبي لروسيا، ولكن تلك الأزمة بها العديد من الدروس المستفادة وهي دراسة سلوك الدول العازلة ليس فقط وفقاً لمصالحها ولكن ضمن قدرات الأطراف المتصارعة التي تعد أراضي تلك الدولة فاصلاً بينهما، فضلاً عن تأثير تحولات النظام الدولي في الصراعات الإقليمية ذاتها، فمن حوالي 65 مليار قدمتها إدارة بايدن لأوكرانيا منذ بدء الحرب إلى توقف تام من جانب إدارة ترامب لتلك المساعدات.
إن مقولتي لا عدو دائم ولا صديق والمصالح تتصالح تتجسدان في الأزمة الأوكرانية التي حتماً ستكون محور اهتمام باحثي العلاقات الدولية مستقبلاً.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك