العدد : ١٧١٥٢ - الأحد ٠٩ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٢ - الأحد ٠٩ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ رمضان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

فلسفة الأخذ والعطاء في الإسلام!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ٠٩ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

سئل‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭): ‬كيف‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الدنيا،‭ ‬ومن‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الآخرة،‭ ‬قال‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬فرحت‭ ‬بمن‭ ‬يعطيك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬فرحك‭ ‬بمن‭ ‬يأخذ‭ ‬منك،‭ ‬فأنت‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الدنيا،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬فرحت‭ ‬بمن‭ ‬يأخذ‭ ‬منك‭ ‬أكثر‭ ‬ممن‭ ‬يعطيك،‭ ‬فأنت‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الآخرة‮»‬‭.‬

وكانت‭ ‬أم‭ ‬المؤمنين‭ ‬عائشة‭ (‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عليها‭) ‬تعتني‭ ‬بالدينار‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتصدق‭ ‬به،‭ ‬فتنظفه‭ ‬وتعطره،‭ ‬فيسألها‭ ‬ابن‭ ‬أختها‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬ابن‭ ‬الزبير‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭): ‬لم‭ ‬تفعلين‭ ‬ذلك؟‭ ‬تقول‭ ‬له‭: ‬لأن‭ ‬الصدقة‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الفقير،‭ ‬وكانت‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عنها‭ ‬تحب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬يد‭ ‬الفقير‭ ‬الذي‭ ‬تتصدق‭ ‬عليه‭ ‬هي‭ ‬اليد‭ ‬العليا‭ ‬ويدها‭ ‬هي‭ ‬السفلى‭ ‬لأن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬قال‭: ‬‮«‬اليد‭ ‬العليا‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬اليد‭ ‬السفلى،‭ ‬وابدأ‭ ‬بمن‭ ‬تعول،‭ ‬وخير‭ ‬الصدقة‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬غنى،‭ ‬ومن‭ ‬يستعفف‭ ‬يعفه‭ ‬اللًه،‭ ‬ومن‭ ‬يستغن‭ ‬يغنه‭ ‬الله‮»‬‭ ‬البخاري‭.‬

وانظروا‭ ‬كيف‭ ‬رفع‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬المتصدقين‭ ‬حين‭ ‬جعلهم‭ ‬لا‭ ‬يكتفون‭ ‬بسد‭ ‬فاقة‭ ‬الفقراء‭ ‬والمحتاجين،‭ ‬بل‭ ‬يضيف‭ ‬إليها‭ ‬أنهم‭ ‬يتخيرون‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬لديهم،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭: (‬ويطعمون‭ ‬الطعام‭ ‬على‭ ‬حبه‭ ‬مسكينًا‭ ‬ويتيمًا‭ ‬وأسيرا‭ (‬8‭) ‬إنما‭ ‬نطعمكم‭ ‬لوجه‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬منكم‭ ‬جزاءً‭ ‬ولا‭ ‬شكورا‭ (‬9‭)) ‬الإنسان‭.‬

ولقد‭ ‬أشار‭ ‬القرآن‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬واتل‭ ‬عليهم‭ ‬نبأ‭ ‬ابني‭ ‬آدم‭ ‬بالحق‭ ‬إذ‭ ‬قربا‭ ‬قربانًا‭ ‬فتقبل‭ ‬من‭ ‬أحدهما‭ ‬ولم‭ ‬يتقبل‭ ‬من‭ ‬الآخر‭ ‬قال‭ ‬لأقتلنك‭ ‬قال‭ ‬إنما‭ ‬يتقبل‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬المتقين‭) ‬المائدة‭ / ‬27‭. ‬وقال‭ ‬المفسرون‭: ‬إن‭ ‬هابيل‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬زرعًا‭ ‬فتصدق‭ ‬بأفضل‭ ‬ما‭ ‬عنده،‭ ‬أما‭ ‬قابيل‭ ‬فكان‭ ‬لديه‭ ‬غنم‭ ‬وتصدق‭ ‬بأسوأ‭ ‬ما‭ ‬يملك،‭ ‬فتقبل‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬من‭ ‬هابيل‭ ‬ولم‭ ‬يتقبل‭ ‬من‭ ‬قابيل،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬إشارة‭ ‬واضحة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يتصدق‭ ‬بأحب‭ ‬إليه‭ ‬مما‭ ‬يملك‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬وذلك‭ ‬حبًا‭ ‬وتقربًا‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬فعلم‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬صدق‭ ‬نية‭ ‬هابيل‭ ‬فأقبل‭ ‬عليه،‭ ‬وأعرض‭ ‬عن‭ ‬قابيل‭ ‬فلم‭ ‬يقبل‭ ‬منه‭ ‬لسوء‭ ‬نيته،‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬الجزاء‭ ‬يتخير‭ ‬من‭ ‬الأفعال‭ ‬والأقوال‭ ‬أحسن‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬العبد،‭ ‬فيكافئه‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬أعماله‭ ‬الخيرة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬تفاوتها‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬صعودًا‭ ‬وهبوطًا،‭ ‬قوةً‭ ‬وضعفًا‭ ‬لأنه‭ ‬سبحانه‭ ‬الغني‭ ‬والجواد‭ ‬الكريم،‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬العقوبة‭ ‬على‭ ‬الذنوب،‭ ‬فإن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬من‭ ‬فضله‭ ‬ومنته‭ ‬يتخير‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬العباد‭ ‬أسوأ‭ ‬الذي‭ ‬عملوا،‭ ‬وإذا‭ ‬غفر‭ ‬الكبائر‭ ‬من‭ ‬الذنوب،‭ ‬فمغفرة‭ ‬الصغائر‭ ‬متحقق‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬أولى،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭: (‬ليكفر‭ ‬الله‭ ‬عنهم‭ ‬أسوأ‭ ‬الذي‭ ‬عملوا‭ ‬ويجزيهم‭ ‬أجرهم‭ ‬بأحسن‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬يعملون‭) ‬الزمر‭ / ‬35‭. ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬بهذا‭ ‬العطاء،‭ ‬بل‭ ‬يبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬يقول‭ ‬سبحانه‭: (‬والذين‭ ‬لا‭ ‬يدعون‭ ‬مع‭ ‬الله‭ ‬إلهًا‭ ‬آخر‭ ‬ولا‭ ‬يقتلون‭ ‬النفس‭ ‬التي‭ ‬حرم‭ ‬الله‭ ‬إلا‭ ‬بالحق‭ ‬ولا‭ ‬يزنون‭ ‬ومن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬يلق‭ ‬أثاما‭ (‬68‭) ‬يضاعف‭ ‬له‭ ‬العذاب‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬ويخلد‭ ‬فيه‭ ‬مهانا‭ (‬69‭) ‬إلا‭ ‬من‭ ‬تاب‭ ‬وآمن‭ ‬وعمل‭ ‬عملًا‭ ‬صالحًا‭ ‬فأولئك‭ ‬يبدل‭ ‬الله‭ ‬سيئاتهم‭ ‬حسنات‭ ‬وكان‭ ‬الله‭ ‬غفورًا‭ ‬رحيمًا‭(‬70‭)) ‬سورة‭ ‬الفرقان‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬يكافئ‭ ‬العبد‭ ‬إذا‭ ‬هَمَّ‭ ‬بمعصية‭ ‬ولم‭ ‬يعملها‭ ‬كتبت‭ ‬له‭ ‬حسنة،‭ ‬وإن‭ ‬عملها‭ ‬كتبت‭ ‬عليه‭ ‬سيئة‭ ‬واحدة،‭ ‬ويعفو‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عنها‭ ‬بالتوبة‭ ‬والعمل‭ ‬الصالح،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬هَمَّ‭ ‬بحسنة‭ ‬ولم‭ ‬يعملها‭ ‬لأي‭ ‬سبب‭ ‬كان‭ ‬كتبت‭ ‬له‭ ‬حسنة،‭ ‬وإن‭ ‬فعلها‭ ‬كتبت‭ ‬له‭ ‬عشر‭ ‬حسنات‭ ‬ويضاعف‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬أضعاف‭ ‬كثيرة‭.‬

ما‭ ‬أعظمه‭ ‬وأكرمه‭ ‬من‭ ‬إله‭ ‬يأمر‭ ‬بالعمل‭ ‬ويكتفي‭ ‬منه‭ ‬بالقليل،‭ ‬ويعطي‭ ‬على‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الطاعة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأجر‭ ‬والمثوبة،‭ ‬فإذا‭ ‬تغيرت‭ ‬أحوال‭ ‬العبد‭ ‬من‭ ‬الصحة‭ ‬إلى‭ ‬المرض،‭ ‬ومن‭ ‬القدرة‭ ‬إلى‭ ‬العجز،‭ ‬ومن‭ ‬الإقامة‭ ‬إلى‭ ‬السفر‭ ‬خفف‭ ‬عنه‭ ‬التكاليف،‭ ‬ففي‭ ‬الإقامة‭ ‬يؤدي‭ ‬العبد‭ ‬الطاعات‭ ‬بشروطها،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬سفر‭ ‬فيخفف‭ ‬عنه،‭ ‬فيقصر‭ ‬الصلاة‭ ‬الرباعية‭ ‬إلى‭ ‬اثنتين،‭ ‬وله‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬تقديمًا‭ ‬أو‭ ‬تأخيرًا،‭ ‬وله‭ ‬أن‭ ‬يفطر‭ ‬في‭ ‬السفر،‭ ‬فإذا‭ ‬رجع‭ ‬من‭ ‬سفره‭ ‬قضى‭ ‬ما‭ ‬فاته،‭ ‬وتأملوا‭ ‬قول‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭: (‬يريد‭ ‬الله‭ ‬بكم‭ ‬اليسر‭ ‬ولا‭ ‬يريد‭ ‬بكم‭ ‬العسر‭ ‬ولتكملوا‭ ‬العدة‭ ‬ولتكبروا‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هداكم‭ ‬ولعلكم‭ ‬تشكرون‭) (‬البقرة‭ / ‬185‭) ‬ومن‭ ‬كرم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬وفضله‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬الجليلة‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬التخفيف‭ ‬والتيسير‭ ‬على‭ ‬العباد‭ ‬في‭ ‬التكاليف‭ ‬وفي‭ ‬شروط‭ ‬قبولها‭ ‬أو‭ ‬ردها‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬شهر‭ ‬العزائم‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬الإسلام‭.. ‬وهذه‭ ‬فلسفته‭ ‬في‭ ‬الأخذ‭ ‬والعطاء،‭ ‬وهذا‭ ‬نهجه‭ ‬في‭ ‬التخفيف‭ ‬على‭ ‬العباد،‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الله‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬تؤتى‭ ‬رخصه‭ ‬كما‭ ‬يكره‭ ‬أن‭ ‬تؤتى‭ ‬معصيته‮»‬‭ ‬صحيح‭ ‬الجامع‭ / ‬الألباني‭.‬

فليطمئن‭ ‬المؤمن‭ ‬وليفرح‭ ‬بكرم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أخذًا‭ ‬وعطاءً،‭ ‬ومغفرة‭ ‬ورحمة‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا