سئل الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): كيف نعرف من هو من أهل الدنيا، ومن هو من أهل الآخرة، قال: «إذا فرحت بمن يعطيك أكثر من فرحك بمن يأخذ منك، فأنت من أهل الدنيا، أما إذا فرحت بمن يأخذ منك أكثر ممن يعطيك، فأنت من أهل الآخرة».
وكانت أم المؤمنين عائشة (رضوان الله تعالى عليها) تعتني بالدينار قبل أن تتصدق به، فتنظفه وتعطره، فيسألها ابن أختها عبد الله ابن الزبير (رضي الله عنه): لم تفعلين ذلك؟ تقول له: لأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد الفقير، وكانت رضي الله تعالى عنها تحب أن تكون يد الفقير الذي تتصدق عليه هي اليد العليا ويدها هي السفلى لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه اللًه، ومن يستغن يغنه الله» البخاري.
وانظروا كيف رفع الله تعالى من مقام المتصدقين حين جعلهم لا يكتفون بسد فاقة الفقراء والمحتاجين، بل يضيف إليها أنهم يتخيرون أفضل ما لديهم، يقول تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا (9)) الإنسان.
ولقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة / 27. وقال المفسرون: إن هابيل كان يملك زرعًا فتصدق بأفضل ما عنده، أما قابيل فكان لديه غنم وتصدق بأسوأ ما يملك، فتقبل الله تعالى من هابيل ولم يتقبل من قابيل، وفي هذا إشارة واضحة على أن من يتصدق بأحب إليه مما يملك من الآخر، وذلك حبًا وتقربًا إلى الله تعالى، فعلم الله سبحانه صدق نية هابيل فأقبل عليه، وأعرض عن قابيل فلم يقبل منه لسوء نيته، وكما أن الله تعالى في الجزاء يتخير من الأفعال والأقوال أحسن الذي عمل العبد، فيكافئه على بقية أعماله الخيرة على هذا المستوى بغض النظر عن تفاوتها في الدرجة صعودًا وهبوطًا، قوةً وضعفًا لأنه سبحانه الغني والجواد الكريم، أيضًا في العقوبة على الذنوب، فإن الله تعالى من فضله ومنته يتخير من أفعال العباد أسوأ الذي عملوا، وإذا غفر الكبائر من الذنوب، فمغفرة الصغائر متحقق من باب أولى، يقول تعالى: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) الزمر / 35. لا يكتفي الحق سبحانه وتعالى بهذا العطاء، بل يبالغ فيه، يقول سبحانه: (والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا(70)) سورة الفرقان. بل إن الله تعالى يكافئ العبد إذا هَمَّ بمعصية ولم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ويعفو الله تعالى عنها بالتوبة والعمل الصالح، أما إذا هَمَّ بحسنة ولم يعملها لأي سبب كان كتبت له حسنة، وإن فعلها كتبت له عشر حسنات ويضاعف الله تعالى له ذلك أضعاف كثيرة.
ما أعظمه وأكرمه من إله يأمر بالعمل ويكتفي منه بالقليل، ويعطي على القليل من الطاعة الكثير من الأجر والمثوبة، فإذا تغيرت أحوال العبد من الصحة إلى المرض، ومن القدرة إلى العجز، ومن الإقامة إلى السفر خفف عنه التكاليف، ففي الإقامة يؤدي العبد الطاعات بشروطها، فإذا كان على سفر فيخفف عنه، فيقصر الصلاة الرباعية إلى اثنتين، وله أن يجمع تقديمًا أو تأخيرًا، وله أن يفطر في السفر، فإذا رجع من سفره قضى ما فاته، وتأملوا قول الحق سبحانه وتعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) (البقرة / 185) ومن كرم الله تعالى وفضله أن جاءت هذه الآية الجليلة في معرض التخفيف والتيسير على العباد في التكاليف وفي شروط قبولها أو ردها في شهر رمضان الذي هو شهر العزائم.
هذا هو الإسلام.. وهذه فلسفته في الأخذ والعطاء، وهذا نهجه في التخفيف على العباد، «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» صحيح الجامع / الألباني.
فليطمئن المؤمن وليفرح بكرم الله تعالى أخذًا وعطاءً، ومغفرة ورحمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك