العدد : ١٧١٥٢ - الأحد ٠٩ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٢ - الأحد ٠٩ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ رمضان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

كيف نتعامل مع عالم «ترامب»؟

بقلم: د. زياد بهاء الدين

الأحد ٠٩ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

أشرت‭ ‬سابقا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أطلقت‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬ترامب‭ ‬المخيف‮»‬‭ (‬من‭ ‬واقع‭ ‬خطابات‭ ‬الرئيس‭ ‬العائد‭ ‬للحكم‭ ‬وقراراته‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬خيالي‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬أراه‭ ‬يتميز‭ ‬بخمسة‭ ‬ملامح‭ ‬رئيسية،‭ ‬أعيد‭ ‬تلخيصها‭ ‬في‭ ‬الآتي‭:‬

‭(‬1‭) ‬تجاهل‭ ‬قواعد‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬و‭(‬2‭) ‬العدول‭ ‬عن‭ ‬السياسات‭ ‬الداعمة‭ ‬للبيئة،‭ ‬و‭(‬3‭) ‬التوجه‭ ‬لتطبيق‭ ‬سياسات‭ ‬اقتصادية‭ ‬تحقق‭ ‬مصالح‭ ‬أمريكية‭ ‬مباشرة‭ ‬ولكن‭ ‬تضر‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬و‭(‬4‭) ‬إغلاق‭ ‬باب‭ ‬الترحيب‭ ‬التاريخي‭ ‬بالمهاجرين،‭ ‬و‭(‬5‭) ‬التراجع‭ ‬عن‭ ‬مبدأ‭ ‬سيادة‭ ‬القانون‭ ‬واحترامه‭.‬

هذه‭ ‬ليست‭ ‬تغيرات‭ ‬فكرية‭ ‬ونظرية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬توجهات‭ ‬محددة،‭ ‬وقد‭ ‬تأكدت‭ ‬صحة‭ ‬المخاوف‭ ‬بشأنها‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬السياسات‭ ‬التنفيذية‭ ‬التي‭ ‬اتخذها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬فور‭ ‬توليه‭ ‬الحكم،‭ ‬وترتب‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬اضطرابات‭ ‬شديدة‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬العالمية،‭ ‬ووقف‭ ‬تمويل‭ ‬برامج‭ ‬محلية‭ ‬ودولية‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية،‭ ‬وفوضي‭ ‬قانونية‭ ‬بشأن‭ ‬أوضاع‭ ‬طالبي‭ ‬الهجرة،‭ ‬ومخاوف‭ ‬من‭ ‬صدامات‭ ‬دولية‭ ‬وشيكة‭.‬

كثيرون‭ ‬سألوني‭ ‬عما‭ ‬يجدر‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نفعله‭ ‬حيال‭ ‬هذه‭ ‬الأوضاع‭ ‬المضطربة‭ ‬التي‭ ‬يتجه‭ ‬إليها‭ ‬العالم‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬المذهل‭ ‬في‭ ‬قيم‭ ‬ومبادئ‭ ‬الليبرالية‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وطرحت‭ ‬نفسها‭ ‬بديلًا‭ ‬وحيدًا‭ ‬للحوكمة‭ ‬والحكم،‭ ‬وسقوطها‭ ‬المدوي‭ ‬في‭ ‬اختبارات‭ ‬عديدة‭ - ‬أكبرها‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬لأهل‭ ‬غزة‭ ‬طوال‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬تحت‭ ‬مرأى‭ ‬ومسمع‭ ‬وبمشاركة‭ ‬العالم‭ ‬‮«‬المتحضر‮»‬‭ - ‬يضعنا‭ ‬أمام‭ ‬لحظة‭ ‬صدق‭ ‬ومواجهة‭ ‬لحقيقة‭ ‬معتقداتنا‭ ‬الفكرية‭ ‬والإنسانية‭.‬

فهل‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قيم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والمساواة‭ ‬ودولة‭ ‬القانون‭ ‬جديرة‭ ‬بالاهتمام‭ ‬والسعي‭ ‬لتحقيقها‭ ‬والتضحية‭ ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬وقتها‭ ‬فات‭ ‬و«موضتها‮»‬‭ ‬زالت‭ ‬واهتمام‭ ‬العالم‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬تراجع؟

مدخلي‭ ‬للنظر‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬هو‭ ‬التفرقة‭ ‬بين‭ ‬الفكرة‭ ‬الفلسفية‭ ‬وتطبيقها‭ ‬العملي‭. ‬الذي‭ ‬أقصده‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬النموذج‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الغربي‭ ‬بحذافيره‭ ‬وبتطبيقاته‭ ‬العملية‭ ‬فعليه‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬التفكير،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬تعرض‭ ‬لتراجع‭ ‬كبير‭ ‬بل‭ ‬وانتكاسة‭ ‬واضحة‭.‬

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إلا‭ ‬تطبيقًا‭ ‬لفكرة‭ ‬أهم،‭ ‬وهي‭ ‬مشاركة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬وفي‭ ‬تقرير‭ ‬مصائرها‭.‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬النموذج‭ ‬العملي‭ ‬للديمقراطية‭ ‬قد‭ ‬اهتز،‭ ‬بل‭ ‬لعله‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬للسقوط،‭ ‬ولكن‭ ‬فكرة‭ ‬الشراكة‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬قائمة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬وإلى‭ ‬تطبيق‭ ‬جديد‭ ‬يناسب‭ ‬العصر‭. ‬والنظم‭ ‬القانونية‭ ‬السائدة‭ ‬عالميًا،‭ ‬بما‭ ‬صارت‭ ‬تتميز‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬بطء‭ ‬إجرائي‭ ‬وتأثير‭ ‬المال‭ ‬والنفوذ‭ ‬وتأثر‭ ‬بالرأي‭ ‬العام،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬أفضل‭ ‬وسيلة‭ ‬لتحقيق‭ ‬العدالة‭. ‬ولكن‭ ‬تظل‭ ‬فكرة‭ ‬العدالة‭ ‬ذاتها‭ ‬تستحق‭ ‬الدفاع‭ ‬عنها‭ ‬والتضحية‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬وإعادة‭ ‬إحيائها‭ ‬بنماذج‭ ‬عصرية‭ ‬ملائمة‭.‬

باختصار‭.. ‬من‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬الشكل‭ ‬التقليدي‭ ‬للديمقراطية‭ ‬الليبرالية‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬مأزق،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مضمونها‭ ‬فإن‭ ‬قضيته‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬عادلة‭ ‬وأحلامه‭ ‬مشروعة‭ ‬وقابلة‭ ‬للتحقيق،‭ ‬ولكن‭ ‬تحتاج‭ ‬نماذج‭ ‬عملية‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬مختلفة‭.‬

دعونا‭ ‬لا‭ ‬نبحث‭ ‬إذن‭ ‬عن‭ ‬صناديق‭ ‬واقتراع‭ ‬وتصويت‭ ‬وقوائم‭ ‬وأحزاب‭ ‬ولافتات‭ ‬دعاية‭ ‬فقط‭.. ‬بل‭ ‬عما‭ ‬نستهدفه‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الطقوس‭ ‬والممارسات‭.. ‬عن‭ ‬الشراكة‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬وتداول‭ ‬السلطة‭ ‬والمساواة‭ ‬أمام‭ ‬القانون‭.. ‬بأي‭ ‬شكل‭ ‬يكون‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬فنحن‭ -‬العرب‭- ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نأخذ‭ ‬كلام‭ ‬ترامب‭ ‬عن‭ ‬غزة‭ ‬بجدية‭ ‬أكثر‭ ‬لأننا‭ ‬حيال‭ ‬وضع‭ ‬مختلف،‭ ‬حيث‭ ‬لإسرائيل‭ ‬مصلحة،‭ ‬وخطة‭ ‬إخلاء‭ ‬غزة‭ ‬حقيقية‭ ‬وقديمة‭.‬

إن‭ ‬الاصطفاف‭ ‬العربي‭ ‬وراء‭ ‬رفض‭ ‬تهجير‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬هو‭ ‬الموقف‭ ‬الصحيح،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬وقع‭ ‬دولي‭ ‬ملموس،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬بذات‭ ‬القوة‭. ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬بعد؟‭ ‬هل‭ ‬نكتفي‭ ‬بالرفض‭ ‬والاصطفاف‭ ‬وراء‭ ‬التمسك‭ ‬بالحق‭ ‬والأرض‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬ثم‭ ‬ننتظر‭ ‬ماذا‭ ‬يتغير‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي؟

الأكيد‭ ‬أن‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالرفض‭ ‬ليس‭ ‬كافيًا،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بالانتظار‭. ‬بل‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رفضًا‭ ‬مستندًا‭ ‬إلي‭ ‬دعم‭ ‬الخطة‭ ‬البديلة‭ ‬التي‭ ‬طرحتها‭ ‬القمة‭ ‬العربية‭. ‬لأن‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الذي‭ ‬سُئل‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬عما‭ ‬يتوقعه‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬الفعل‭ ‬العربية‭ ‬حيال‭ ‬خطته‭ ‬تجاه‭ ‬غزة،‭ ‬فقال‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬‮«‬لا‭ ‬شيء‭.. ‬فقد‭ ‬اعترضوا‭ ‬حينما‭ ‬أعلنت‭ ‬نقل‭ ‬السفارة‭ ‬إلي‭ ‬القدس‭ ‬ولم‭ ‬يفعلوا‭ ‬شيئًا‮»‬‭. ‬الرجل‭ ‬إذن‭ ‬يراهن‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الرفض‭ ‬والتنديد‭ ‬هو‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬نصل‭ ‬إليه‭. ‬ولهذا‭ ‬يلزم‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الخطة‭ ‬العربية‭ ‬البديلة‭ ‬مدعومة‭ ‬بإجراءات‭ ‬ومواقف‭ ‬عربية‭ ‬حاسمة‭.‬

‭ ‬وهناك‭ ‬أولويات‭ ‬كثيرة‭ ‬مطلوبة‭ ‬فورًا،‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬تثبيت‭ ‬واستمرار‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬الحالي،‭ ‬وتشكيل‭ ‬المجموعة‭ ‬المفاوضة‭ ‬بالنيابة‭ ‬عن‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬الدقيقة،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬جهود‭ ‬الإغاثة‭ ‬الدولية‭ ‬وتتصاعد‭ ‬كي‭ ‬يتمكن‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬من‭ ‬استرداد‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬ظروف‭ ‬المعيشة‭ ‬المحتملة‭ .‬ولكن‭ ‬على‭ ‬التوازي‭ ‬فلا‭ ‬يجب‭ ‬انتظار‭ ‬دعوة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬أو‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬ولا‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لعقد‭ ‬‮«‬مؤتمر‭ ‬دولي‭ ‬لإعمار‭ ‬غزة‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬يلزم‭ ‬أخذ‭ ‬المبادرة‭ ‬عربيًا‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دعت‭ ‬إليه‭ ‬مصر‭. ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬ينقصنا‭ ‬لا‭ ‬الخبرة‭ ‬ولا‭ ‬الإمكانات‭ ‬ولا‭ ‬المعرفة‭ ‬لأخذ‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة‭ ‬أو‭ ‬انتظار‭ ‬الضوء‭ ‬الأخضر‭ ‬من‭ ‬غيرنا‭. ‬

إن‭ ‬خطة‭ ‬الرئيس‭ ‬‮«‬ترامب‮»‬‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬لنا‭ ‬غير‭ ‬مقبولة‭ ‬وغير‭ ‬معقولة،‭ ‬وهي‭ ‬كذلك‭ ‬بالفعل‭. ‬ولكن‭ ‬لن‭ ‬يكسبها‭ ‬جدية‭ ‬ومصداقية‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬الموقف‭ ‬العربي‭ ‬مكتفيًا‭ ‬بالرفض‭ ‬وبانتقاد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطروح‭. ‬والرد‭ ‬العملي‭ ‬والمفيد‭ ‬عليها‭ ‬هو‭ ‬تعزيز‭ ‬البديل‭ ‬العربي‭ ‬سياسيا‭ ‬واقتصاديا‭ ‬بما‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ويحمي‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬من‭ ‬الهجرة‭ ‬القسرية‭ ‬ويمهد‭ ‬لإعادة‭ ‬الإعمار‭.‬

{ خبير‭ ‬اقتصادي‭  ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا