أشرت سابقا إلى ما أطلقت عليه «عالم ترامب المخيف» (من واقع خطابات الرئيس العائد للحكم وقراراته وليس من خيالي)، والذي أراه يتميز بخمسة ملامح رئيسية، أعيد تلخيصها في الآتي:
(1) تجاهل قواعد القانون الدولي، و(2) العدول عن السياسات الداعمة للبيئة، و(3) التوجه لتطبيق سياسات اقتصادية تحقق مصالح أمريكية مباشرة ولكن تضر بالاقتصاد العالمي، و(4) إغلاق باب الترحيب التاريخي بالمهاجرين، و(5) التراجع عن مبدأ سيادة القانون واحترامه.
هذه ليست تغيرات فكرية ونظرية فقط، بل توجهات محددة، وقد تأكدت صحة المخاوف بشأنها من واقع السياسات التنفيذية التي اتخذها الرئيس الأمريكي فور توليه الحكم، وترتب عليها في غضون أيام قليلة اضطرابات شديدة في الأسواق العالمية، ووقف تمويل برامج محلية ودولية بالغة الأهمية، وفوضي قانونية بشأن أوضاع طالبي الهجرة، ومخاوف من صدامات دولية وشيكة.
كثيرون سألوني عما يجدر بنا أن نفعله حيال هذه الأوضاع المضطربة التي يتجه إليها العالم.
والحقيقة أن هذا التراجع المذهل في قيم ومبادئ الليبرالية التي سادت العالم من منتصف القرن الماضي وطرحت نفسها بديلًا وحيدًا للحوكمة والحكم، وسقوطها المدوي في اختبارات عديدة - أكبرها ما جرى لأهل غزة طوال العام الماضي تحت مرأى ومسمع وبمشاركة العالم «المتحضر» - يضعنا أمام لحظة صدق ومواجهة لحقيقة معتقداتنا الفكرية والإنسانية.
فهل لا تزال قيم الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة ودولة القانون جديرة بالاهتمام والسعي لتحقيقها والتضحية من أجلها، أم أن وقتها فات و«موضتها» زالت واهتمام العالم بها إلى تراجع؟
مدخلي للنظر إلى الموضوع هو التفرقة بين الفكرة الفلسفية وتطبيقها العملي. الذي أقصده أن من كان يريد النموذج الديمقراطي الغربي بحذافيره وبتطبيقاته العملية فعليه أن يعيد التفكير، لأن هذا النموذج تعرض لتراجع كبير بل وانتكاسة واضحة.
ولكن هذا النموذج لم يكن إلا تطبيقًا لفكرة أهم، وهي مشاركة الناس في الحكم وفي تقرير مصائرها.
قد يكون النموذج العملي للديمقراطية قد اهتز، بل لعله حتى في طريقه للسقوط، ولكن فكرة الشراكة في الحكم قائمة وإن كانت بحاجة إلى تطوير وإلى تطبيق جديد يناسب العصر. والنظم القانونية السائدة عالميًا، بما صارت تتميز به من بطء إجرائي وتأثير المال والنفوذ وتأثر بالرأي العام، قد لا تكون أفضل وسيلة لتحقيق العدالة. ولكن تظل فكرة العدالة ذاتها تستحق الدفاع عنها والتضحية من أجلها وإعادة إحيائها بنماذج عصرية ملائمة.
باختصار.. من كان يريد الشكل التقليدي للديمقراطية الليبرالية فهو في مأزق، أما من يبحث عن مضمونها فإن قضيته لا تزال عادلة وأحلامه مشروعة وقابلة للتحقيق، ولكن تحتاج نماذج عملية جديدة أو مختلفة.
دعونا لا نبحث إذن عن صناديق واقتراع وتصويت وقوائم وأحزاب ولافتات دعاية فقط.. بل عما نستهدفه من هذه الطقوس والممارسات.. عن الشراكة في الحكم وتداول السلطة والمساواة أمام القانون.. بأي شكل يكون.
في هذا الإطار فنحن -العرب- علينا أن نأخذ كلام ترامب عن غزة بجدية أكثر لأننا حيال وضع مختلف، حيث لإسرائيل مصلحة، وخطة إخلاء غزة حقيقية وقديمة.
إن الاصطفاف العربي وراء رفض تهجير الفلسطينيين هو الموقف الصحيح، وقد كان له وقع دولي ملموس، ويجب أن يستمر بذات القوة. ولكن ماذا بعد؟ هل نكتفي بالرفض والاصطفاف وراء التمسك بالحق والأرض الفلسطينيين، ثم ننتظر ماذا يتغير في موقف الرئيس الأمريكي؟
الأكيد أن الاكتفاء بالرفض ليس كافيًا، خاصة أن الوضع في غزة لا يسمح بالانتظار. بل لا بد أن يكون رفضًا مستندًا إلي دعم الخطة البديلة التي طرحتها القمة العربية. لأن الرئيس الأمريكي الذي سُئل ذات مرة عما يتوقعه من ردود الفعل العربية حيال خطته تجاه غزة، فقال ما معناه: «لا شيء.. فقد اعترضوا حينما أعلنت نقل السفارة إلي القدس ولم يفعلوا شيئًا». الرجل إذن يراهن على أن الرفض والتنديد هو أقصى ما نصل إليه. ولهذا يلزم أن تكون الخطة العربية البديلة مدعومة بإجراءات ومواقف عربية حاسمة.
وهناك أولويات كثيرة مطلوبة فورًا، على رأسها تثبيت واستمرار وقف إطلاق النار الحالي، وتشكيل المجموعة المفاوضة بالنيابة عن الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الدقيقة، والعمل على أن تستمر جهود الإغاثة الدولية وتتصاعد كي يتمكن أهل غزة من استرداد الحد الأدنى من ظروف المعيشة المحتملة .ولكن على التوازي فلا يجب انتظار دعوة الاتحاد الأوروبي أو البنك الدولي ولا الولايات المتحدة لعقد «مؤتمر دولي لإعمار غزة»، بل يلزم أخذ المبادرة عربيًا وهو ما دعت إليه مصر. ونحن لا ينقصنا لا الخبرة ولا الإمكانات ولا المعرفة لأخذ هذه المبادرة أو انتظار الضوء الأخضر من غيرنا.
إن خطة الرئيس «ترامب» قد تبدو لنا غير مقبولة وغير معقولة، وهي كذلك بالفعل. ولكن لن يكسبها جدية ومصداقية إلا أن يستمر الموقف العربي مكتفيًا بالرفض وبانتقاد ما هو مطروح. والرد العملي والمفيد عليها هو تعزيز البديل العربي سياسيا واقتصاديا بما يحافظ على الأرض الفلسطينية ويحمي أهل غزة من الهجرة القسرية ويمهد لإعادة الإعمار.
{ خبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك