هل سيدفع العراق ثمن انحسار النفوذ الإيراني في المنطقة؟ ليس ذلك السؤال سابقا لأوانه، بعد أن استقبل العراق لبنانيين أثناء الحرب الأخيرة مرحبا بإقامتهم في العراق وبعدها جاء إعلان وزير الداخلية العراقي عن وجود أعداد من الجنود السوريين كانوا قد فروا إلى أراضيه أثناء زحف المعارضة السورية وبعد سقوط نظام بشار الأسد وقد خيَّرهم العراق بين البقاء أو الرجوع إلى وطنهم.
إلى وقت قريب كانت الحكومة العراقية تنأى بنفسها عما تقوم به المليشيات الموالية لإيران انسجاما مع شعار وحدة الساحات الذي رفعته الأخيرة وجعلت منه خيطا يصل بين المليشيات العاملة تحت إمرتها تجسيدا لنوع من المقاومة كان يُدار من قبل الحرس الثوري الإيراني. وما كان للبنان أن يكون هدفا للحرب الشاملة التي شنتها إسرائيل لولا وقوعه في مهب حرب إيران بالوكالة.
لقد حاولت الحكومة العراقية أن تبدو كما لو أنها ليست خاضعة للإملاءات الإيرانية مثلما هي المليشيات التي قامت بتنفيذ عمليات قصف استهدف الأراضي الفلسطينية المحتلة وكان الهدف منها توسيع دائرة الحرب وهو ما فعله الحوثيون في اليمن. لم تعترف الحكومة العراقية وهي تسعى إلى تبرئة ساحتها بأنها غير قادرة على ضبط نشاط المليشيات وأن تلك المليشيات لا تخضع لنفوذها.
حين تقدمت إسرائيل بشكوى ضد العراق في مجلس الأمن فإنها لم تنظر بطريقة جادة إلى تلك المحاولات، بل اعتبرتها نوعا من التضليل والخداع وهو ما تفهّمه المجلس حين دعّم حق إسرائيل في الرد. يومها صمتت الحكومة العراقية ولم يصدر عنها أيّ رد فعل. فمن الصعب عليها أن تعترف أن أراضيها مخترقة وأن المليشيات التي تعمل على تلك الأراضي ما هي إلا قواعد إيرانية أمامية.
وبغض النظر عمّا تقوله الحكومة العراقية في تفسير إشكالية العلاقة بإيران فإن ما لا يمكن إنكاره أن التحالف الحاكم وهو «الإطار التنسيقي» إنما يتألف من مجموعة الأحزاب والمليشيات الإيرانية الموالية لإيران والتي تتطابق مواقفها مع الموقف الإيراني في إطار الحرب الدائمة التي هي التجسيد العملي لمبدأ تصدير الثورة الذي جعل منه الخميني أسلوب حياة وهدفا لجمهوريته الإسلامية. كل الأحزاب والمليشيات المتحالفة في «الإطار التنسيقي» تؤمن بخط الإمام. وهو ما يعني أن العراق يُحكم من قبل فئة تؤمن بحق إيران في التمدد وهو الحق الذي يتم تفسيره عن طريق التمسك بالدفاع عن المذهب ووحدته.
لقد منحت الحكومات الديمقراطية في الولايات المتحدة العراق استثناء من العقوبات المفروضة على إيران بحيث إنه كان عبر سنوات طويلة المصدر الرئيس للعملة الصعبة التي أنقذت الاقتصاد الإيراني من الانهيار. كان استيراد الغاز الإيراني من أجل استعماله في توليد الطاقة الكهربائية في العراق، واحدة من أكبر الأكاذيب التي تم من خلالها تزويد إيران بالمليارات من الدولارات في ظل عقوبات أمريكية مشددة.
كان هناك تواطؤ أمريكي – إيراني ضحيته العراق. ولكنها الضحية التي تُقاد إلى الذبح بمشيئتها. ذلك لأن النظام السياسي في البلد كان ولا يزال وليد التسوية بين الطرفين المختلفين في كل شيء إلا في ما يتعلق بالعراق، فهما متفقان على كل شيء أو كانا كذلك قبل أن تفرض إسرائيل معادلات سياسية في المنطقة بعدما حدث في السابع من أكتوبر عام 2023.
لو بقي الأمر رهين المشيئة الأمريكية لما تحرر لبنان واستعاد دولته الحرة المستقلة ولما سقط نظام بشار الأسد في سوريا. إسرائيل بعد أن تعرضت لتهديد وجودي استفز مواطنيها هي التي أملت على الولايات المتحدة خيار تغيير سياستها المتواطئة مع المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة وهي التي وضعت على الطاولة الأمريكية سيناريو مناسبا لها لشرق أوسط جديد لن تحكمه إيران.
فقدت إيران تاج مشروعها في لبنان ولم يعد في إمكانها أن تجسد آمالها في العودة إليه بعد أن أُغلقت في وجهها الأراضي السورية. ذلك يعني أن نضالا استغرق أكثر من أربعين سنة وهُدرت من أجله المليارات وراح ضحيته الكثير من جنرالات الحرس الثوري وفي مقدمتهم قاسم سليماني، صار بمثابة ذكرى لا يمكن استعادتها إلا من أجل استدرار الدموع. ولأن اليمن بعيد وله معادلاته الخاصة لم يبق لإيران إلا العراق.
ولكن العراق هدية أمريكية.
لم تتمكن إيران من الهيمنة على العراق إلا بموافقة أمريكية. ما كان في إمكان المليشيات الموالية لإيران أن تبسط سيطرتها على الأراضي العراقية لولا أن سلطة الاحتلال الأمريكي سمحت لها بذلك. كان ذلك كله جزءا من مشروع تدمير العراق.
اليوم بعد أن انتهى العراق إيرانيا صار في إمكان الولايات المتحدة أن تسحب هديتها مضطرة. ولكن السؤال الذي ينطوي على السخرية هو «ما الذي يتبقى من العملية السياسية التي أقامتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق إذا ما تم إنهاء نفوذ الأحزاب والمليشيات الموالية لإيران؟» لا شيء طبعا. وهو ما يعني أن أكثر من عشرين سنة ضاعت هباء من الزمن العراقي.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك