زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وعشت بين الشياطين والضباع
ربما تهيج المناسبات والعطلات الدينية شجوني، لإحساسي بقدر من الذنب لأنني هجرت مراتع الصبا ثم هجرت وطني بأكمله وعشت في منطقة الخليج العربي سنوات أطول من تلك التي عشتها في السودان، ولم يكن من ذلك بُد:
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم/ وترمي النوى بالمقترين المراميا
رحم الله الشاعر عبدالوهاب البغدادي، وأعزي نفسي أيضا بمقولة ان الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن.
ولا أزعم ان بدين وهي وطني الصغير في شمال السودان هي الفردوس الذي خرجت منه نادما حسيرا، فقد كانت على عهود صبانا، وبمعايير هذا الزمان بلدة تعيش في اللا زمان: لا كهرباء ولا ماء يجري في أنابيب ولا طبيب فيها ولا شرطي ولا قضاة ولا سيارات ولا حتى دراجات.
وكانت بدين تلك على ذمة كبارنا تذخر بالشياطين الذين يتخذون هيئات البشر، ولكن بحوافر حمير أو هيئات كلاب أو بعير، وكان بكل قرية من قرى بدين نقطة تجمع ليلية للجن. وتخيل نفسك مضطرا للسير ليلا من حيّ الى آخر فتسمع همهمة تيس او حمار ولا تستطيع ان تجزم ما إذا كان حيوانا عاديا او شيطانا، وكان هناك كائن شرير اسمه «سورنق جَدِّي» أي «شفاط الأنوف»، وكان - على ذمة أهلنا - يقيم عادة في حقول الذرة، وإذا أمسك بك يشفط السوائل من أنفك - ليس لتخليصك من التهاب الجيوب الأنفية - بل حتى يشفط مخك فتسقط ميتا، ولم نسمع قط عن شخص مات ضحية الشفط من «سرنق جدي»، ولكن التحذير من غدره كان يلازمنا كلما دخلنا المزارع. وكان هناك السحاحير (ومفردها سَحَّار) وهم أصلا بشر مثلي مثلك، ولكنهم يتحولون ليلا إلى كائنات شريرة لها ذيول يهجمون على بني البشر الذين من غير ذيول ويقتلونهم، ولم نسمع قط عن شخص مات أو أصيب على يد سحّار، ولكن الخوف منهم كان متجذرا في كبارنا وصغارنا، ومن الشائع في السودان الشمالي أن القيادة القومية للسحاحير هي جزيرة ناوا، وأهلها نوبيون، وبها أول مسجد عرفه السودان، ولبست فيهم تهمة التحول الى كائنات شرسة كما لبست السودانيين تهمة «الكسل»، ولكن لا بأس ففي مصر آلاف النكات عن «قصور فهم» الصعايدة كما هو الحال بالنسبة إلى أهل حلب في سوريا والخليل في فلسطين، مع أن مروجي تلك النكات أصلا أهالي تلك المناطق/ المدن ذات العراقة والأصالة.
وكان هناك كائن آخر اسمه دُقُر وكان أيضا يعتدي على الناس ويقتلهم او يلحق بهم إصابات جسيمة، وأتينا مدرسة البرقيق المتوسطةـ وثقافة الرعب متمكنة منا، فإذا بنا أمام خطر حقيقي شاهده المئات وشاهدته نفسيا عدة مرات: الضباع!! فلأن منطقتنا محاصرة بما يعرف بالصحراء النوبية، وبما ان مزارع المشروع الزراعي التي كانت المدرسة تتوسطها، لم تكن مأهولة ليلا، فقد كانت الضباع تتسلل الى المدرسة كل مساء. خذ في الاعتبار أننا كسائر السودانيين كنا ننام في الفضاء المفتوح (الحوش) وليس داخل الغرف صيفا، وأن المدرسة لم يكن بها سوى سور من نبات يسمى الأهبل (الأبله)، عن استحقاق وجدارة ولم أر في حياتي نبتة في بلاهتها وعباطتها، فلو كسرت اي جزء منها وغرسته في أرض يباب، نبت وأزهر بعد أيام، أي أنه ينمو بـ«التيمم» ولا حاجة به إلى ماء أو أوكسجين أو أشعة شمس، ولم يكن السياج النباتي يمثل عقبة أمام الضباع التي كثيرا من استيقظنا ليلا لنجدها تتجول بين الأسرة الموزعة في فناء المدرسة، وبسبب الضباع كنا نمتنع عن شرب السوائل بعد غروب الشمس، فأي شيء يستوجب زيارة دورة المياه ليلا. بلاش منه، ومن يتعرض لزنقة تضطره الى الذهاب الى الحمامات ليلا، كان يستنجد بنحو أربعة من النائمين حوله كي يصاحبوه في المشوار، لأن الضباع لا تهاجم عادة إلا الشخص الغافل.
نعم أحنُّ الى تلك العوالم: شياطين وكائنات ذوات ذيول ولكن من حولهم بشر طيبون اتسربل بعواطفهم وتمنحني الدفء في هذا الشتاء القارس.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك