العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٥٥ - الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وعشت بين الشياطين والضباع

ربما‭ ‬تهيج‭ ‬المناسبات‭ ‬والعطلات‭ ‬الدينية‭ ‬شجوني،‭ ‬لإحساسي‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬الذنب‭ ‬لأنني‭ ‬هجرت‭ ‬مراتع‭ ‬الصبا‭ ‬ثم‭ ‬هجرت‭ ‬وطني‭ ‬بأكمله‭ ‬وعشت‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬سنوات‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بُد‭:‬

يقيم‭ ‬الرجال‭ ‬الموسرون‭ ‬بأرضهم‭/ ‬وترمي‭ ‬النوى‭ ‬بالمقترين‭ ‬المراميا

رحم‭ ‬الله‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬البغدادي،‭ ‬وأعزي‭ ‬نفسي‭ ‬أيضا‭ ‬بمقولة‭ ‬ان‭ ‬الفقر‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬غربة‭ ‬والغنى‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬وطن‭.‬

ولا‭ ‬أزعم‭ ‬ان‭ ‬بدين‭ ‬وهي‭ ‬وطني‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬هي‭ ‬الفردوس‭ ‬الذي‭ ‬خرجت‭ ‬منه‭ ‬نادما‭ ‬حسيرا،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬عهود‭ ‬صبانا،‭ ‬وبمعايير‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭ ‬بلدة‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬اللا‭ ‬زمان‭: ‬لا‭ ‬كهرباء‭ ‬ولا‭ ‬ماء‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬أنابيب‭ ‬ولا‭ ‬طبيب‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬شرطي‭ ‬ولا‭ ‬قضاة‭ ‬ولا‭ ‬سيارات‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬دراجات‭.‬

وكانت‭ ‬بدين‭ ‬تلك‭ ‬على‭ ‬ذمة‭ ‬كبارنا‭ ‬تذخر‭ ‬بالشياطين‭ ‬الذين‭ ‬يتخذون‭ ‬هيئات‭ ‬البشر،‭ ‬ولكن‭ ‬بحوافر‭ ‬حمير‭ ‬أو‭ ‬هيئات‭ ‬كلاب‭ ‬أو‭ ‬بعير،‭ ‬وكان‭ ‬بكل‭ ‬قرية‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬بدين‭ ‬نقطة‭ ‬تجمع‭ ‬ليلية‭ ‬للجن‭. ‬وتخيل‭ ‬نفسك‭ ‬مضطرا‭ ‬للسير‭ ‬ليلا‭ ‬من‭ ‬حيّ‭ ‬الى‭ ‬آخر‭ ‬فتسمع‭ ‬همهمة‭ ‬تيس‭ ‬او‭ ‬حمار‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬ان‭ ‬تجزم‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬حيوانا‭ ‬عاديا‭ ‬او‭ ‬شيطانا،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬كائن‭ ‬شرير‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬سورنق‭ ‬جَدِّي‮»‬‭ ‬أي‭ ‬‮«‬شفاط‭ ‬الأنوف‮»‬،‭ ‬وكان‭ - ‬على‭ ‬ذمة‭ ‬أهلنا‭ - ‬يقيم‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬الذرة،‭ ‬وإذا‭ ‬أمسك‭ ‬بك‭ ‬يشفط‭ ‬السوائل‭ ‬من‭ ‬أنفك‭ - ‬ليس‭ ‬لتخليصك‭ ‬من‭ ‬التهاب‭ ‬الجيوب‭ ‬الأنفية‭ - ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬يشفط‭ ‬مخك‭ ‬فتسقط‭ ‬ميتا،‭ ‬ولم‭ ‬نسمع‭ ‬قط‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬مات‭ ‬ضحية‭ ‬الشفط‭ ‬من‭ ‬‮«‬سرنق‭ ‬جدي‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬التحذير‭ ‬من‭ ‬غدره‭ ‬كان‭ ‬يلازمنا‭ ‬كلما‭ ‬دخلنا‭ ‬المزارع‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬السحاحير‭ (‬ومفردها‭ ‬سَحَّار‭) ‬وهم‭ ‬أصلا‭ ‬بشر‭ ‬مثلي‭ ‬مثلك،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يتحولون‭ ‬ليلا‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬شريرة‭ ‬لها‭ ‬ذيول‭ ‬يهجمون‭ ‬على‭ ‬بني‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ذيول‭ ‬ويقتلونهم،‭ ‬ولم‭ ‬نسمع‭ ‬قط‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬مات‭ ‬أو‭ ‬أصيب‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬سحّار،‭ ‬ولكن‭ ‬الخوف‭ ‬منهم‭ ‬كان‭ ‬متجذرا‭ ‬في‭ ‬كبارنا‭ ‬وصغارنا،‭ ‬ومن‭ ‬الشائع‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الشمالي‭ ‬أن‭ ‬القيادة‭ ‬القومية‭ ‬للسحاحير‭ ‬هي‭ ‬جزيرة‭ ‬ناوا،‭ ‬وأهلها‭ ‬نوبيون،‭ ‬وبها‭ ‬أول‭ ‬مسجد‭ ‬عرفه‭ ‬السودان،‭ ‬ولبست‭ ‬فيهم‭ ‬تهمة‭ ‬التحول‭ ‬الى‭ ‬كائنات‭ ‬شرسة‭ ‬كما‭ ‬لبست‭ ‬السودانيين‭ ‬تهمة‭ ‬‮«‬الكسل‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬ففي‭ ‬مصر‭ ‬آلاف‭ ‬النكات‭ ‬عن‭ ‬‮«‬قصور‭ ‬فهم‮»‬‭ ‬الصعايدة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أهل‭ ‬حلب‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والخليل‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬مروجي‭ ‬تلك‭ ‬النكات‭ ‬أصلا‭ ‬أهالي‭ ‬تلك‭ ‬المناطق‭/ ‬المدن‭ ‬ذات‭ ‬العراقة‭ ‬والأصالة‭.‬

وكان‭ ‬هناك‭ ‬كائن‭ ‬آخر‭ ‬اسمه‭ ‬دُقُر‭ ‬وكان‭ ‬أيضا‭ ‬يعتدي‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬ويقتلهم‭ ‬او‭ ‬يلحق‭ ‬بهم‭ ‬إصابات‭ ‬جسيمة،‭ ‬وأتينا‭ ‬مدرسة‭ ‬البرقيق‭ ‬المتوسطةـ‭ ‬وثقافة‭ ‬الرعب‭ ‬متمكنة‭ ‬منا،‭ ‬فإذا‭ ‬بنا‭ ‬أمام‭ ‬خطر‭ ‬حقيقي‭ ‬شاهده‭ ‬المئات‭ ‬وشاهدته‭ ‬نفسيا‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭: ‬الضباع‭!! ‬فلأن‭ ‬منطقتنا‭ ‬محاصرة‭ ‬بما‭ ‬يعرف‭ ‬بالصحراء‭ ‬النوبية،‭ ‬وبما‭ ‬ان‭ ‬مزارع‭ ‬المشروع‭ ‬الزراعي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬المدرسة‭ ‬تتوسطها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مأهولة‭ ‬ليلا،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الضباع‭ ‬تتسلل‭ ‬الى‭ ‬المدرسة‭ ‬كل‭ ‬مساء‭. ‬خذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أننا‭ ‬كسائر‭ ‬السودانيين‭ ‬كنا‭ ‬ننام‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬المفتوح‭ (‬الحوش‭) ‬وليس‭ ‬داخل‭ ‬الغرف‭ ‬صيفا،‭ ‬وأن‭ ‬المدرسة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بها‭ ‬سوى‭ ‬سور‭ ‬من‭ ‬نبات‭ ‬يسمى‭ ‬الأهبل‭ (‬الأبله‭)‬،‭ ‬عن‭ ‬استحقاق‭ ‬وجدارة‭ ‬ولم‭ ‬أر‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬نبتة‭ ‬في‭ ‬بلاهتها‭ ‬وعباطتها،‭ ‬فلو‭ ‬كسرت‭ ‬اي‭ ‬جزء‭ ‬منها‭ ‬وغرسته‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬يباب،‭ ‬نبت‭ ‬وأزهر‭ ‬بعد‭ ‬أيام،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬ينمو‭ ‬بـ«التيمم‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬حاجة‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬ماء‭ ‬أو‭ ‬أوكسجين‭ ‬أو‭ ‬أشعة‭ ‬شمس،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬السياج‭ ‬النباتي‭ ‬يمثل‭ ‬عقبة‭ ‬أمام‭ ‬الضباع‭ ‬التي‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬استيقظنا‭ ‬ليلا‭ ‬لنجدها‭ ‬تتجول‭ ‬بين‭ ‬الأسرة‭ ‬الموزعة‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬المدرسة،‭ ‬وبسبب‭ ‬الضباع‭ ‬كنا‭ ‬نمتنع‭ ‬عن‭ ‬شرب‭ ‬السوائل‭ ‬بعد‭ ‬غروب‭ ‬الشمس،‭ ‬فأي‭ ‬شيء‭ ‬يستوجب‭ ‬زيارة‭ ‬دورة‭ ‬المياه‭ ‬ليلا‭. ‬بلاش‭ ‬منه،‭ ‬ومن‭ ‬يتعرض‭ ‬لزنقة‭ ‬تضطره‭ ‬الى‭ ‬الذهاب‭ ‬الى‭ ‬الحمامات‭ ‬ليلا،‭ ‬كان‭ ‬يستنجد‭ ‬بنحو‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬النائمين‭ ‬حوله‭ ‬كي‭ ‬يصاحبوه‭ ‬في‭ ‬المشوار،‭ ‬لأن‭ ‬الضباع‭ ‬لا‭ ‬تهاجم‭ ‬عادة‭ ‬إلا‭ ‬الشخص‭ ‬الغافل‭.‬

نعم‭ ‬أحنُّ‭ ‬الى‭ ‬تلك‭ ‬العوالم‭: ‬شياطين‭ ‬وكائنات‭ ‬ذوات‭ ‬ذيول‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬حولهم‭ ‬بشر‭ ‬طيبون‭ ‬اتسربل‭ ‬بعواطفهم‭ ‬وتمنحني‭ ‬الدفء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشتاء‭ ‬القارس‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا