تولت إدارة «دونالد ترامب» الثانية السلطة في 20 يناير 2025، في وقت تصاعدت فيه الحرب الإسرائيلية على غزة. ورغم الاتهامات المتكررة لواشنطن بدعم سياسات تستهدف الفلسطينيين، فإن مواقف الرئيس الأمريكي وكبار مسؤولي إدارته، وفقًا لما أشار إليه «برايان كاتوليس»، من «معهد الشرق الأوسط»؛ «عكست نهجًا متباينًا لمستقبل غزة والمنطقة»، يجمع بين «التصريحات المتناقضة والتحركات السياسية غير الواضحة».
ومع الرفض القاطع من دول المنطقة لاقتراحه في الخامس من فبراير بشأن دور أمريكي في إدارة قطاع غزة، أشار «مايكل شير»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن موقف «ترامب»، شهد تحولًا لاحقًا، حيث «بدا وكأنه يتراجع عن مطلبه»، مؤكدًا أنه لم يكن «يفرض مخططًا على المنطقة»، لكنه ظل مقتنعًا بأن الفكرة ستلقى قبولًا في النهاية. ومع ذلك، ففي 25 فبراير، برز اهتمامه بإعادة إعمار غزة من خلال إمبراطوريته العقارية، حيث نشر مقطع فيديو على الإنترنت بعنوان «غزة 2025.. ما التالي؟»، تضمن صورًا مولدة بالذكاء الاصطناعي تُظهر تحول المنطقة من أنقاض الحرب إلى ما وصفته صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه «منتجع فخم يحمل اسمه».
ووفقا لـ«ريتشارد هول»، في صحيفة «الإندبندنت»، فقد أثار هذا الفيديو «الغضب، والسخرية، والارتباك»، بين المحللين الغربيين حول ما يعتزم «البيت الأبيض»، تنفيذه مستقبلًا في غزة. وبينما أشار «كاتوليس»، إلى أن بعضهم حاول تفسير تصريحاته على أنها محاولة لإحداث تحول في النهج التقليدي المتبع لعقود في عملية السلام بالشرق الأوسط؛ فقد اعتبر «جون سباركس»، من شبكة «سكاي نيوز»، أن مقطع الفيديو يؤكد فقط كيف أنه «لم يتخل عن رؤيته» لقطاع غزة، والذي تم إبعاد مليوني مدني فلسطيني منه قسرًا.
وفي حين تصدّر هذا الحدث عناوين الأخبار العالمية، واستحوذ على اهتمام الرأي العام؛ تظل الجهود المتسارعة التي تبذلها «واشنطن»، خلف الكواليس للسيطرة على غزة، وإعادة بنائها وفقًا لتصورها «محط اهتمام». وفي هذا السياق، يسعى «ستيف ويتكوف»، المبعوث الخاص لترامب إلى الشرق الأوسط – الذي ادعى مؤخرًا أن «الناس غير قادرين على العيش في غزة لمدة 15 عامًا على الأقل» – إلى وضع الأسس لإنشاء «ريفيرا» في القطاع، حيث أعلن عن نيته استضافة قمة قريبا لمطوري العقارات والمخططين لتقرير مستقبل غزة، وسكانها الذين نزحوا من ديارهم.
من جانبه، رأى «جوناثان ساكردوتي»، في مجلة «ذا سبيكتاتور»، أن الفيديو يعكس «رؤية للهيمنة، وليس مجرد اقتراح سياسي». ووثّق «أوليفر هولمز»، و«بول أوين»، في صحيفة «الجارديان»، كيف أظهرت لقطات الفيديو – الذي تبلغ مدته 35 ثانية ونشره الرئيس الأمريكي دون أي تعليق إضافي – مشاهد لقطاع غزة، وقد تحول إلى منتجع فاخر على طراز دبي، يزدان بناطحات السحاب، واليخوت الفاخرة، بينما يلهو الأطفال في أرجائه، ويظهر الملياردير المؤيد لترامب، «إيلون ماسك»، وهو يتناول طعامًا فلسطينيًا تقليديًا قبل أن يرقص وسط أوراق الدولار المتساقطة من السماء.
وإلى جانب ظهور رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، وهو يستجم تحت أشعة الشمس بجوار الرئيس الأمريكي أمام لافتة كُتب عليها «ترامب غزة»؛ ركّز الباحثان بشكل أعمق على العناصر المصاحبة للفيديو، حيث إن الكلمات والموسيقى التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي تتضمن عبارات، مثل: «دونالد قادم لتحريركم، وجلب الضوء للجميع لرؤيته، لا مزيد من الأنفاق، لا مزيد من الخوف، ترامب غزة هنا أخيرًا».
ونتيجة لذلك، وصف «كونور موراي»، في مجلة «فوربس»، الفيديو بأنه «غريب»، بينما اعتبره «علي ووكر» في مجلة «بوليتيكو»، «غير منطقي»، فيما رأى «هول»، أنه «نظرة كابوسية» تجسد نوايا القائد الأعلى الأمريكي لمستقبل غزة، مشيرًا إلى تضخيمه لذاته من خلال «ظهور اسمه وصورته على الفنادق، والهدايا التذكارية، وفي شكل تمثال ذهبي عملاق»، كما هي عادته. وبذلك، رأى أن الرؤية التي قدمها الفيديو، جاءت «أسوأ من محاولاته السابقة لترويج الفكرة». وفي تحليله، أشار إلى أن تقنية الذكاء الاصطناعي المستخدمة في صنع الفيديو تشبه رؤية الرئيس الأمريكي المفترضة، من حيث إنها «ليست متطورة بما يكفي لإضفاء أي معنى»، بل إنها «أشبه بحلم غريب حيث لا يبدو أي شيء حقيقيًا، مع الافتقاد للمنطق».
وتكشف خطابات «إدارة ترامب الثانية»، أن هذه الرؤية ليست مجرد خيال، بل تسعى إلى تحويلها إلى واقع. وعلى الرغم من توضيح «سباركس»، أن نشر الفيديو كان «مجرد محاولة لإرضاء ترامب نفسه»؛ فإن الإجراءات الأخيرة التي اتخذها مطور العقارات “ستيف ويتكوف”، تؤكد أن إعادة بناء غزة، وتحويلها إلى وجهة فاخرة خالية من الفلسطينيين، هو هدف أساسي للسياسة الخارجية للبيت الأبيض في الوقت الحالي.
وقبل أيام من نشر المقطع على منصة التواصل «تروث سوشيال»، التي أنشأها ترامب في 20 فبراير؛ ذكرت «ديبوره أكوستا»، و«جوش داوسي»، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن «ويتكوف يعمل على خطة محتملة لعقد قمة في البيت الأبيض»، حيث سيتم جمع «مطوري العقارات وغيرهم من قادة الأعمال»، وستوضح الشركات «كيف ستتعامل مع القضايا اللوجستية والفنية المتأزمة»، والتي أوضحوا أنها ستشمل «كيف سيكتشفون القنابل، ويتعاملون مع الأنفاق»، وكذلك «التعامل مع الأشخاص ممن يأبون مغادرة المنطقة» – أي الفلسطينيين الذين يرفضون الإبعاد القسري كما هو محدد باعتباره تطهيرا عرقيا بموجب القانون الدولي. وفي فعالية أقيمت بواشنطن في 25 فبراير، أكد «ويتكوف»، أنه سيعقد مثل هذه «القمة» مع «أكبر المطورين» و«الكثير من المخططين الرئيسيين» في الوقت المناسب، وتفاخر بأن «الناس سينبهرون عندما يرون بعض الأفكار التي ستتمخض عنها».
ويُعد «جاريد كوشنر»، صهر «ترامب» ومستشاره السابق في البيت الأبيض؛ الشخصية المحورية في هذه الخطة العقارية، إذ كشف «ويتكوف»، أنه هو الذي أقنعه بترك شركته العقارية لتولي دور بارز في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، رغم افتقاره لأي خبرة حكومية أو دبلوماسية سابقة. وفي أوائل عام 2024، كان «كوشنر» من أوائل الشخصيات التي طرحت فكرة أن القصف الإسرائيلي المستمر لغزة قد يمهد الطريق لإعادة إعمار المنطقة، باعتبارها «تمتلك واجهة بحرية قيّمة» على البحر الأبيض المتوسط، وذلك بعد أن «يُطهِر» الجيش الإسرائيلي المنطقة من الفلسطينيين. وبهذا، أحاط «كوشنر»، الرئيس الأمريكي بشخصيات تنظر إلى القضية الفلسطينية من زاوية الأرباح المالية التي يمكن أن يحققوها لأنفسهم، وهو ما خلص إليه الصحفي البريطاني «أليكس هانافورد»، الذي اتهم «ترامب» بالتعامل مع السياسة العالمية، وكأنها «لعبة تجارية احتكرها لخدمة مصالحه»، حيث يبقى تركيزه الأساسي «منصبًا على المال».
وفي ظل هذا الواقع، سيكون المدنيون الفلسطينيون داخل غزة هم الأكثر تضررًا، إذ يجدون أنفسهم محاصرين بفعل الحرب المستمرة، والقصف الجوي الإسرائيلي المكثف، والهجمات البرية المتواصلة. ووفقًا لمخططات إدارة «ترامب»، سيُجبر هؤلاء السكان على النزوح قسرًا إلى مصر أو الأردن أو حتى إلى مناطق أبعد، في إطار رؤية تهدف إلى إعادة تشكيل غزة وفق مصالح القوى الفاعلة، دون اعتبار لمصير أهلها أو حقوقهم.
ورغم محاولة «ويتكوف»، التأكيد على أن واشنطن «لا تتحدث عن إخلاء الفلسطينيين»، فإن إصراره في الوقت ذاته على أنه من «المستحيل»، أن يظل أكثر من مليوني شخص داخل ما وصفه بـ«حي عشوائي عملاق»، لا يدع مجالًا للشك في أن قمة المطورين العقاريين التي يخطط لها تهدف فعليًا إلى إخلاء السكان بالقوة، وهو ما يرقى إلى التطهير العرقي في غزة، ويمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي. وفي مقابلة مع شبكة «سي بي إس نيوز»، في 23 من فبراير الماضي، تحدث عن كيف أن «المفهوم الجديد»، الذي قدمه ترامب يُعتبر أحد «الفرص الأفضل» لأهل غزة «للحصول على حياة أفضل لأنفسهم، وفرص أفضل، وتطلعات أفضل لما يمكن أن يحدث لأطفالهم وما إلى ذلك».
من جهة أخرى، أشار «هول»، إلى أن الفيديو –المشار إليه– يُظهر شخصيات يُفترض أنها أطفال فلسطينيون في بدايته ثم «لا يتم رؤيتها مرة أخرى من وراء ناطحات السحاب التي تصطف على ساحل غزة»، ليتم استبدالها بصور «ماسك»، و«ترامب»، وهم يستمتعان بوقتهما في الفنادق، والمطاعم الفاخرة. كما لفت إلى أن المقطع يوحي بأن الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في غزة قد اختفوا، وكأن الأنقاض قد جرفتهم إلى مكان مجهول، مشيرًا أيضًا إلى أن «قبور عشرات الآلاف الذين استشهدوا بسبب القصف الإسرائيلي المكثف»، تم استبدالها بمشاريع ترفيهية ومطاعم فاخرة.
وردًا على نوايا «ترامب»، المعلنة «بالسيطرة» على غزة، وإعادة بنائها لصالح أي طرف باستثناء الشعب الفلسطيني؛ وصف «توماس فريدمان»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، هذه المبادرة بأنها «الأكثر خطورة في الشرق الأوسط التي طرحها رئيس أمريكي على الإطلاق». كما حذر من أن هذه النوايا أظهرت أيضًا كيف أن إدارته الثانية مليئة بأفكار «غير منطقية»، مثل هذا النوع من «الأفكار الغريبة». كما أشار إلى محاولات عقد قمة لمطوري العقارات ومخططي البناء لوضع خطة للاستيلاء على غزة، وإعادة بناء المنطقة على شكل فنادق ومنتجعات ومطاعم فاخرة؛ بأنها ترمي إلى تعزيز مكانة «ويتكوف»، كأحد المتبنين لنوايا ترامب غير الواقعية والخطيرة.
وفي مؤتمر عُقد مؤخرًا في ميامي، تساءل «ويتكوف» مستنكرًا: «لا أعرف لماذا يريد الفلسطينيون العيش» في غزة؟، واصفًا رغبتهم في البقاء بأنها «غير منطقية»، خاصة في ظل ما اعتبره «ظروفًا مروعة» محاطة بـ«30 ألف قذيفة غير منفجرة في كل مكان هناك». وتجاهل هذا التصريح حقيقة أن هذه الظروف فُرضت على الفلسطينيين بفعل الحرب المستمرة، وحملة القصف والغزو البري الإسرائيلي بلا هوادة، التي تهدف إلى إجبار السكان على مغادرة غزة، ما يمهد الطريق أمام حكومة «نتنياهو»، المتطرفة للاستيلاء عليها بشكل دائم، وإحلال مستوطنين غير شرعيين محلهم، بدعم مباشر من الإدارة الأمريكية.
وخلص «هول»، إلى أن الفيديو الذي أنشأه الذكاء الاصطناعي، ونشره ترامب يجب أن يُعتبر «تطهيرًا عرقيًا مُغلفًا لغزة في شكل فيديو ترويجي للعقارات المطورة»، كما أشار إلى أن محاولات رئيس الولايات المتحدة لتحويل هذه الفكرة إلى واقع، يجب أن تُفهم على أنها محاولة لتنفيذ أخطر جرائم الحرب ضد المدنيين الفلسطينيين، في وقت لا يزالون يعانون من أقسى الانتهاكات الإسرائيلية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك