العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٤٩ - الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رمضان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الإمام محمد عبده وتولستوي.. والحوار بين الشرق والغرب

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٠٦ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬السفر‭ ‬فيه‭ ‬صعبا‭ ‬جدا،‭ ‬كانت‭ ‬الرسائل‭ ‬هي‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لمد‭ ‬جسور‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬العقول‭ ‬والقلوب‭. ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن،‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬سوى‭ ‬ورقة‭ ‬وقلم‭ ‬يختزلان‭ ‬الشوق‭ ‬والفكر،‭ ‬ولدت‭ ‬مراسلة‭ ‬مدهشة‭ ‬بين‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده،‭ ‬ذلك‭ ‬المصلح‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬هموم‭ ‬أمته‭ ‬على‭ ‬كتفيه،‭ ‬وبين‭ ‬الأديب‭ ‬الروسي‭ ‬ليو‭ ‬تولستوي،‭ ‬الذي‭ ‬أضاء‭ ‬برواياته‭ ‬زوايا‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭. ‬يا‭ ‬لروعة‭ ‬الفكرة‭! ‬رجلان‭ ‬من‭ ‬عالمين‭ ‬مختلفين،‭ ‬لم‭ ‬تجمعهما‭ ‬الأقدار‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬عابر،‭ ‬لكن‭ ‬كلماتهما،‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬الحدود‭ ‬والأزمان،‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬حروفا‭ ‬عادية‭ ‬على‭ ‬ورق،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬نبضات‭ ‬قلبين‭ ‬يبحثان‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬عن‭ ‬الخير‭ ‬للناس‭ ‬جميعا‭. ‬كم‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬اللقاء‭ ‬الروحي‭ ‬ملهما،‭ ‬حيث‭ ‬سقطت‭ ‬المسافات‭ ‬وانمحت‭ ‬الفوارق،‭ ‬وتحدثت‭ ‬الكلمات‭ ‬بلغة‭ ‬إنسانية‭ ‬خالدة،‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬حدودًا‭ ‬ولا‭ ‬ثقافات‭.‬

‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ (‬1849-1905‭) ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬دين‭ ‬مصري،‭ ‬كرس‭ ‬حياته‭ ‬لإحياء‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬وتحريره‭ ‬من‭ ‬الجمود،‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬أداة‭ ‬للإصلاح‭ ‬والعدل‭ ‬والتقدم‭. ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬الدين،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الطقوس‭ ‬الظاهرية،‭ ‬يحمل‭ ‬رسالة‭ ‬أخلاقية‭ ‬تسعى‭ ‬لبناء‭ ‬إنسان‭ ‬أكثر‭ ‬رحمة‭ ‬ومجتمع‭ ‬أكثر‭ ‬عدالة‭.‬

في‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر،‭ ‬كان‭ ‬ليو‭ ‬تولستوي‭ (‬1828-1910‭) ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬حياته،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الإرستقراطية‭ ‬الروسية‭ ‬وصخبها،‭ ‬قد‭ ‬انشغل‭ ‬بأسئلة‭ ‬عميقة‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬الحياة،‭ ‬والعدل،‭ ‬والسلام،‭ ‬وسعى‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬إلى‭ ‬الانتصار‭ ‬للقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

بدأت‭ ‬المراسلات‭ ‬عام‭ ‬1904‭ ‬عندما‭ ‬أرسل‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬تولستوي،‭ ‬معبرا‭ ‬عن‭ ‬إعجابه‭ ‬بفلسفته‭ ‬الأخلاقية‭ ‬ودعوته‭ ‬للسلام‭. ‬كتب‭ ‬الامام‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وجدت‭ ‬في‭ ‬كتاباتك‭ ‬ما‭ ‬يذكر‭ ‬بتعاليم‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬جوهرها؛‭ ‬قيم‭ ‬العدل،‭ ‬الرحمة،‭ ‬نبذ‭ ‬العنف،‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬سلام‭ ‬حقيقي‭ ‬بين‭ ‬البشر‮»‬‭. ‬كانت‭ ‬الرسالة‭ ‬تحمل‭ ‬إشادة‭ ‬صادقة‭ ‬ودعوة‭ ‬ضمنية‭ ‬إلى‭ ‬الحوار،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شائعا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تغلب‭ ‬عليه‭ ‬الصور‭ ‬النمطية‭ ‬وسوء‭ ‬الفهم‭ ‬المتبادل‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭.‬

تلقى‭ ‬تولستوي‭ ‬الرسالة‭ ‬ورد‭ ‬عليها‭ ‬بإيجاز،‭ ‬لكنه‭ ‬حمل‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬والإعجاب‭. ‬كتب‭ ‬تولستوي‭: ‬‮«‬أشكر‭ ‬لك‭ ‬كلماتك‭ ‬الطيبة‭. ‬الإسلام‭ ‬دين‭ ‬عظيم‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬قيما‭ ‬تحتاجها‭ ‬الإنسانية،‭ ‬قيما‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الخير‭ ‬والعدل‮»‬‭. ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بساطة‭ ‬كلماته،‭ ‬فإن‭ ‬رد‭ ‬تولستوي‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬رؤيته‭ ‬العميقة‭ ‬للأديان،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الأحكام‭ ‬السطحية،‭ ‬وأكد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬قوة‭ ‬أخلاقية‭ ‬وإنسانية‭ ‬عظيمة‭.‬

هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬وليدة‭ ‬صدفة‭ ‬عابرة‭. ‬حيث‭ ‬ان‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬فترة‭ ‬صعبة‭ ‬في‭ ‬حياته؛‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬المنفى‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مباشرة‭ ‬مع‭ ‬الجمود‭ ‬الفكري‭ ‬والاستبداد‭ ‬السياسي،‭ ‬وكان‭ ‬مشروعه‭ ‬الإصلاحي‭ ‬يواجه‭ ‬مقاومة‭ ‬شديدة‭. ‬أما‭ ‬تولستوي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬اختيارية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قطع‭ ‬علاقته‭ ‬بالكنيسة‭ ‬الأرثوذكسية،‭ ‬ليبحث‭ ‬عن‭ ‬الأخلاق‭ ‬بمعناها‭ ‬الأوسع‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية‭ ‬المتشددة‭.‬

ناقشت‭ ‬الرسائل‭ ‬قضايا‭ ‬مهمة‭ ‬مثل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والعقل،‭ ‬وسبل‭ ‬مواجهة‭ ‬الظلم،‭ ‬ودور‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬المجتمعات‭. ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬أوضح‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬أن‭ ‬الإسلام،‭ ‬كما‭ ‬يراه،‭ ‬لا‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬العقل،‭ ‬بل‭ ‬يدعمه‭ ‬ويعتمد‭ ‬عليه‭ ‬لإعمال‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحياة‭. ‬تولستوي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الأخلاق‭ ‬هي‭ ‬الغاية‭ ‬الأسمى،‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬صدى‭ ‬لأفكاره‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الأديان‭ ‬وسيلة‭ ‬لإصلاح‭ ‬الإنسان‭ ‬والمجتمع،‭ ‬لا‭ ‬أدوات‭ ‬للسيطرة‭ ‬عليهما‭.‬

ما‭ ‬يجعل‭ ‬هذه‭ ‬المراسلات‭ ‬استثنائية‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬تجاوزت‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬وعكست‭ ‬رغبة‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬نقاط‭ ‬متشابهة‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الامام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬وتولستوي‭ ‬محاولة‭ ‬لإثبات‭ ‬التفوق‭ ‬الثقافي‭ ‬أو‭ ‬الديني،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬لقاءً‭ ‬صادقا‭ ‬بين‭ ‬عقلين‭ ‬يبحثان‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬لمشكلات‭ ‬الإنسان‭ ‬الكبرى‭.‬

الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬تولستوي‭ ‬نموذجا‭ ‬لفيلسوف‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬والرحمة،‭ ‬وتولستوي‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬دينا‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬قيما‭ ‬عالمية‭ ‬تتوافق‭ ‬مع‭ ‬رؤيته‭ ‬الأخلاقية‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬الرسائل‭ ‬كانت‭ ‬قصيرة‭ ‬ومحدودة،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬حملت‭ ‬قوة‭ ‬خفية‭. ‬كانت‭ ‬وثيقة‭ ‬حية‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أحلك‭ ‬الأوقات،‭ ‬ممكن‭ ‬ومثمر‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬قاصرا‭ ‬على‭ ‬كلمات‭ ‬متبادلة،‭ ‬بل‭ ‬نموذجا‭ ‬للتآخي‭ ‬البشري‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬احترام‭ ‬الاختلاف،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الجوامع‭ ‬المشتركة‭.‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬الإمبراطوريات‭ ‬تتصارع،‭ ‬والمجتمعات‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الانقسامات،‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬لتقول‭ ‬إن‭ ‬القيم‭ ‬العظيمة‭ ‬مثل‭ ‬العدل،‭ ‬والسلام،‭ ‬والرحمة‭ ‬ليست‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬ثقافة‭ ‬أو‭ ‬دين‭ ‬بعينه،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬ملك‭ ‬للإنسانية‭ ‬جمعاء‭. ‬الامام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬وتولستوي،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلتقيا،‭ ‬قدما‭ ‬للعالم‭ ‬مثالا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الجسور‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُبنى‭ ‬حين‭ ‬يتحاور‭ ‬العقلاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ثقافة،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التعصب‭ ‬وسوء‭ ‬الفهم‭.‬

هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬ليست‭ ‬أحداثا‭ ‬تاريخية‭ ‬مدونة‭ ‬في‭ ‬الكتب،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬دروس‭ ‬حية‭ ‬تبين‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للكلمة‭ ‬الصادقة‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬الحدود،‭ ‬وتكسر‭ ‬الحواجز،‭ ‬وتصنع‭ ‬عالما‭ ‬أكثر‭ ‬تفهما‭ ‬وتسامحا‭. ‬إنها‭ ‬شهادة‭ ‬دائمة‭ ‬بأن‭ ‬الحوار،‭ ‬حين‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬إنسانية‭ ‬صادقة‭ ‬وعميقة،‭ ‬يمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬تأثير‭ ‬يمتد‭ ‬أثره‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة،‭ ‬ليبني‭ ‬جسورًا‭ ‬من‭ ‬التفاهم‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬جدران‭ ‬الصراع‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا