في زمن كان السفر فيه صعبا جدا، كانت الرسائل هي السبيل الوحيد لمد جسور التواصل بين العقول والقلوب. في ذلك الزمن، حين لم يكن بين الناس سوى ورقة وقلم يختزلان الشوق والفكر، ولدت مراسلة مدهشة بين الإمام محمد عبده، ذلك المصلح الذي حمل هموم أمته على كتفيه، وبين الأديب الروسي ليو تولستوي، الذي أضاء برواياته زوايا النفس البشرية. يا لروعة الفكرة! رجلان من عالمين مختلفين، لم تجمعهما الأقدار في لقاء عابر، لكن كلماتهما، التي عبرت الحدود والأزمان، ما كانت حروفا عادية على ورق، بل كانت نبضات قلبين يبحثان عن الحقيقة، عن الخير للناس جميعا. كم كان ذلك اللقاء الروحي ملهما، حيث سقطت المسافات وانمحت الفوارق، وتحدثت الكلمات بلغة إنسانية خالدة، لا تعرف حدودًا ولا ثقافات.
الإمام محمد عبده (1849-1905) هو عالم دين مصري، كرس حياته لإحياء الفكر الإسلامي وتحريره من الجمود، كان يرى في الدين أداة للإصلاح والعدل والتقدم. كان يؤمن أن الدين، بعيدًا عن الطقوس الظاهرية، يحمل رسالة أخلاقية تسعى لبناء إنسان أكثر رحمة ومجتمع أكثر عدالة.
في الطرف الآخر، كان ليو تولستوي (1828-1910) في أواخر حياته، بعد أن تخلى عن حياة الإرستقراطية الروسية وصخبها، قد انشغل بأسئلة عميقة عن معنى الحياة، والعدل، والسلام، وسعى في فلسفته إلى الانتصار للقيم الإنسانية فوق كل شيء.
بدأت المراسلات عام 1904 عندما أرسل الشيخ محمد عبده رسالة إلى تولستوي، معبرا عن إعجابه بفلسفته الأخلاقية ودعوته للسلام. كتب الامام يقول: «وجدت في كتاباتك ما يذكر بتعاليم الإسلام في جوهرها؛ قيم العدل، الرحمة، نبذ العنف، والسعي إلى سلام حقيقي بين البشر». كانت الرسالة تحمل إشادة صادقة ودعوة ضمنية إلى الحوار، وهو أمر لم يكن شائعا في ذلك الزمن الذي كانت تغلب عليه الصور النمطية وسوء الفهم المتبادل بين الشرق والغرب.
تلقى تولستوي الرسالة ورد عليها بإيجاز، لكنه حمل فيها الكثير من الاحترام والإعجاب. كتب تولستوي: «أشكر لك كلماتك الطيبة. الإسلام دين عظيم يحمل في جوهره قيما تحتاجها الإنسانية، قيما تدعو إلى الخير والعدل». على الرغم من بساطة كلماته، فإن رد تولستوي كشف عن رؤيته العميقة للأديان، بعيدا عن الأحكام السطحية، وأكد أنه كان يرى في الإسلام قوة أخلاقية وإنسانية عظيمة.
هذه الرسائل لم تكن وليدة صدفة عابرة. حيث ان الإمام محمد عبده كان يعيش فترة صعبة في حياته؛ عاد من المنفى ليجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الجمود الفكري والاستبداد السياسي، وكان مشروعه الإصلاحي يواجه مقاومة شديدة. أما تولستوي، فقد كان في عزلة اختيارية، بعد أن قطع علاقته بالكنيسة الأرثوذكسية، ليبحث عن الأخلاق بمعناها الأوسع بعيدا عن المؤسسات الدينية المتشددة.
ناقشت الرسائل قضايا مهمة مثل العلاقة بين الدين والعقل، وسبل مواجهة الظلم، ودور الدين في إصلاح المجتمعات. الشيخ محمد عبده أوضح في رسالته أن الإسلام، كما يراه، لا يتناقض مع العقل، بل يدعمه ويعتمد عليه لإعمال النصوص في واقع الحياة. تولستوي، الذي كان يرى أن الأخلاق هي الغاية الأسمى، وجد في رؤية محمد عبده صدى لأفكاره عن أهمية أن تكون الأديان وسيلة لإصلاح الإنسان والمجتمع، لا أدوات للسيطرة عليهما.
ما يجعل هذه المراسلات استثنائية هو أنها تجاوزت الزمان والمكان، وعكست رغبة حقيقية في البحث عن نقاط متشابهة. لم يكن التواصل بين الامام محمد عبده وتولستوي محاولة لإثبات التفوق الثقافي أو الديني، بل كان لقاءً صادقا بين عقلين يبحثان عن حلول لمشكلات الإنسان الكبرى.
الشيخ محمد عبده رأى في تولستوي نموذجا لفيلسوف يبحث عن العدالة والرحمة، وتولستوي وجد في الإسلام دينا يحمل في جوهره قيما عالمية تتوافق مع رؤيته الأخلاقية.
ورغم أن الرسائل كانت قصيرة ومحدودة، إلا أنها حملت قوة خفية. كانت وثيقة حية على أن الحوار بين الشرق والغرب، حتى في أحلك الأوقات، ممكن ومثمر. لم يكن الأمر قاصرا على كلمات متبادلة، بل نموذجا للتآخي البشري الذي ينطلق من احترام الاختلاف، والبحث عن الجوامع المشتركة.
في ذلك الزمن الذي كانت فيه الإمبراطوريات تتصارع، والمجتمعات تعاني من الانقسامات، جاءت هذه الرسائل لتقول إن القيم العظيمة مثل العدل، والسلام، والرحمة ليست حكرًا على ثقافة أو دين بعينه، بل هي ملك للإنسانية جمعاء. الامام محمد عبده وتولستوي، دون أن يلتقيا، قدما للعالم مثالا على أن الجسور يمكن أن تُبنى حين يتحاور العقلاء من كل ثقافة، بعيدًا عن التعصب وسوء الفهم.
هذه الرسائل ليست أحداثا تاريخية مدونة في الكتب، بل هي دروس حية تبين كيف يمكن للكلمة الصادقة أن تتجاوز الحدود، وتكسر الحواجز، وتصنع عالما أكثر تفهما وتسامحا. إنها شهادة دائمة بأن الحوار، حين ينبع من قيم إنسانية صادقة وعميقة، يمتلك القدرة على إحداث تأثير يمتد أثره إلى الأجيال القادمة، ليبني جسورًا من التفاهم بدلا من جدران الصراع.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك