تُشكّل المفاوضات المستمرة بين إسرائيل وحماس بشأن تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في يناير 2025 خطوة أولية في عملية طويلة ومكلفة لإصلاح وإعادة بناء غزة، والتي تقدر «الأمم المتحدة» استغراقها قرابة 80 عامًا، بكلفة تصل إلى 50 مليار دولار.
وأدت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى تدمير 90% من المنازل، إلى جانب المدارس، والمستشفيات، وأماكن العبادة، والبنية التحتية الحيوية؛ ما خلّف ملايين الأطنان من الأنقاض التي تستوجب تطهيرها من المتفجرات قبل إزالتها. ولم يقتصر الأمر على نزوح ما لا يقل عن 90% من السكان المدنيين؛ بل أدى أيضًا إلى ما وصفه «فولكر تورك»، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، أمام مجلس الأمن، بأنه «كارثة إنسانية تتكشف أمام أعين العالم».
ومنذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في أواخر يناير2025، تلقى أكثر من مليون مدني فلسطيني مساعدات إنسانية ضرورية في شكل طعام، ومياه، وإمدادات طبية بالمقام الأول. وأكد «شون كارول»، من «المؤسسة الأمريكية لإغاثة اللاجئين في الشرق الأدنى»، «أنيرا»، حاجة غزة إلى «زيادة أخرى في المساعدات»، إلى جانب إعادة بناء «ليس فقط البنية التحتية، لكن أيضًا سيادتها الغذائية، وهياكل الحكم المحلي الجديدة». وأوضح «ماركو كيراك»، من «كلية لندن للصحة والطب الاستوائي»، أن المراقبين في مثل هذه السياقات المروعة التي تشهدها غزة، يركزون على التعامل مع المعاناة الفورية من خلال استراتيجيات قصيرة الأجل؛ لكن لا ينبغي تجاهل أن الآثار السلبية الناجمة عن الصراعات المدمرة، لن تتوقف فجأة بانتهاء حالة الطوارئ».
وفي هذا السياق، أصدر طبيبان بريطانيان عملا في مستشفيات غزة أثناء الحرب – البروفيسور «غسان أبو ستة»، الذي عمل مع منظمة «أطباء بلا حدود» في مستشفى الشفاء، والبروفيسور «نظام محمود»، المتطوع مع جمعية العون الطبي للفلسطينيين – تحذيرات بشأن العواقب الصحية؛ الجسدية والنفسية طويلة الأمد، التي ستؤثر على ملايين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، والتي ستخلفها هذه الحرب.
وخلال الحرب على غزة، استندت وكالات الأنباء الغربية إلى الحصيلة الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة في غزة عند الإبلاغ عن أعداد الشهداء، إلا أن وتيرة هذه التقارير تراجعت مع مرور الوقت. وأثار هذا التراجع انتقاد المرشح الرئاسي الأمريكي السابق «رالف نادر»، الذي أدان «لامبالاة» الإعلام الغربي، تجاه معاناة المدنيين الفلسطينيين، مشيرًا إلى أنهم «لا يُحرمون فقط من حقهم في الحياة، بل يُحرمون أيضًا من الاحترام المتمثل في توثيق وفياتهم بدقة».
وتُشير تقديرات الأكاديميين والأطباء لمعدل الوفيات الحقيقي في حرب إسرائيل على القطاع، إلى رقم أعلى بكثير من تلك التي تم الإفصاح عنها. وأشارت «رشا الخطيب»، و«سليم يوسف»، و«مارتن ماكي»، في دراسة نشرتها مجلة «لانسيت»، إلى أنه «من المنطقي أن نقدر أن ما يصل إلى 186 ألف حالة وفاة أو حتى أكثر»، قد حدثت في الفترة من أكتوبر 2023 إلى يونيو 2024، وهو أعلى كثيرا من الرقم 37.396 الذي أصدرته وزارة الصحة بغزة. وكما أوضح «يوسف»، في صحيفة «الجارديان»، فإن هذا التقدير «المتحفظ»، استند إلى «نسبة أربعة إلى واحد»، من الوفيات المبلغ عنها إلى الوفيات غير المباشرة المحتملة التي لوحظت في بؤر صراع أخرى بجميع أنحاء العالم، والتي شهدت استخدام النزوح الجماعي، والتجويع كأسلحة ضد المدنيين، كما فعلت إسرائيل في غزة. وفي شهر2024، بعث 45 طبيبًا وممرضًا أمريكيًا عالجوا الجرحى في غزة برسالة مشتركة إلى الرئيس الأمريكي – آنذاك – جو بايدن قدروا فيها أن العدد الحقيقي للشهداء حينها تجاوز 92.000؛ أي ما يعادل 4.2% من إجمالي سكان القطاع.
ومع أنه، لم يصدر تحديث رسمي لعدد الشهداء المحتمل في غزة حتى الآن، فإنه وفقًا لـ«نسبة أربعة إلى واحد» – المذكورة سابقًا – يُقدَّر عددهم بأكثر من 190 ألفا، مع ما يقرب من 450.000 جريح، لكن عند الأخذ في الاعتبار الأعداد المتزايدة لمن يعانون من سوء التغذية، والأمراض الناجمة عن التدمير المتعمد للبنية التحتية الحيوية – بما في ذلك أنظمة الصرف الصحي، وشبكات المياه النظيفة – والحصار المفروض على تدفقات المساعدات الإنسانية لعدة أشهر؛ وثّقت «الدراسة»، أن «جميع سكان غزة، باستثناء فئة قليلة، يعانون من المرض أو الإصابات أو كليهما»، مشيرة إلى تفشي الأوبئة وسط ظروف معيشية «مروعة للغاية»، للمدنيين النازحين الذين يعانون من سوء التغذية.
وحذرت «الخطيب»، و«مكي»، و«يوسف»، من «استمرار وقوع العديد من الوفيات غير المباشرة خلال الأشهر والسنوات القادمة»؛ نظراً «للبنية التحتية المدمرة للرعاية الصحية، والنقص الشديد في الغذاء والمياه والمأوى»، فضلاً عن «عدم قدرة السكان عن اللوذ إلى أماكن آمنة»، و«خسارة التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)». وبالفعل، صدرت مثل هذه التحذيرات منذ الأسابيع الأولى من الحرب. وفي ديسمبر 2023، حذرت «منظمة الصحة العالمية»، من أن سكان غزة، يواجهون «مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي»، مع خطر المجاعة، «الذي يتزايد كل يوم»، حيث تقطع إسرائيل عمدا تدفقات المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
وفي ظل تجاهل الدول الغربية للتحذيرات الصادرة عن المنظمات الإنسانية والدولية، واصل رئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو»، تنفيذ سياسات تسببت في معاناة هائلة لملايين المدنيين الفلسطينيين؛ من نزوح، وسوء تغذية، وانتشار الأمراض، وهي الممارسات التي تتوافق مع تعريف «الإبادة الجماعية»، الوارد في المادة الثانية من «اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية»، التي تنص على أن فرض «ظروف معيشية محسوبة لإحداث التدمير المادي كليًا أو جزئيًا» لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية؛ يُعد من أعمال الإبادة الجماعية، إلى جانب «قتل أعضاء الجماعة»، و«إلحاق أذى جسدي، أو روحي خطير»، وهي ممارسات وثّقت تقارير عديدة ارتكاب إسرائيل لها.
وفي وقت سابق، أُشير إلى أن تدمير النظام الصحي في غزة بفعل القصف الإسرائيلي؛ يشكل العقبة الأكثر إلحاحًا أمام تقديم المساعدات الطبية العاجلة. وأشار «أبو ستة»، إلى حاجة 13.000 من سكان القطاع إلى تدخل جراحي فوري بسبب الإصابات، فضلًا عن أن «العدد الهائل من الإصابات المعقدة التي تحتاج إلى علاج؛ سوف يستهلك النظام الصحي لجيل كامل». وفي يناير 2025، أكد «ريك بيبركورن»، ممثل «منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية»، أن «المستشفيات تحولت إلى ساحات معارك»، مشيرًا إلى أن إسرائيل «عمدت بشكل منهجي»، إلى تفكيك القطاع الصحي، ودفعه إلى «حافة الانهيار»، موضحا أن 16 مستشفى فقط من أصل 36 لا تزال تعمل جزئيًا، مما يحدّ بشدة من قدرتها على علاج الإصابات المعقدة والأمراض المزمنة.
وبالإضافة إلى تدمير المستشفيات والمراكز الصحية، تمت الإشارة إلى العدد المتزايد من الوفيات والإصابات بين العاملين في القطاع الطبي؛ باعتبارها ذات تأثير كبير على الرعاية الصحية مستقبلا. وقدر «محمود»، أن عدد «الوفيات غير الناجمة عن الصدمات» في غزة، قد يتجاوز 186 ألف حالة وفاة، وهو الرقم الذي حددته «الخطيب»، و«مكي»، و«يوسف»، على أساس بقاء جراح أوعية دموية واحد في شمال القطاع، ومقتل جميع اختصاصيي أمراض السرطان. واتفق «أبو ستة»، على «إبادة» بعض التخصصات الطبية جراء حملة القصف الإسرائيلية، وأن التدريب اللازم المطلوب للأطباء الجدد، قد يستغرق ما يصل إلى 10 سنوات، وبالتالي ترك السكان معتمدين على المتطوعين الأجانب، أو المتدربين المجبرين على اكتساب الخبرة بسرعة.
علاوة على ذلك، تسبب النزوح الجماعي للسكان في مختلف أنحاء غزة في استحالة تقديم المساعدة الطبية الضرورية على المدى الطويل. وأشارت «شلبي»، إلى أن «معظم سكان القطاع كانوا لاجئين» قبل بدء الحرب، وأنه بحلول ديسمبر 2023، كان ما يقرب من 80% منهم قد فروا من منازلهم بسبب الهجمات الإسرائيلية، وهو ما يتضح من خلال نمو عدد سكان رفح من حوالي 250 ألف نسمة، إلى أكثر من مليون نسمة؛ وبالتالي تركيز نصف السكان الفلسطينيين داخل 17% فقط من مساحة غزة. ووثق «يان إيجلاند»، من «المجلس النرويجي للاجئين»، كيف أن القصف الإسرائيلي «جعل تلك المنطقة المكتظة بالسكان غير صالحة للسكن»، ولكن الفلسطينيين «يكابدون معاناة لا مثيل لها في ظل افتقادهم مكان آخر يذهبون إليه».
وكدليل على تأثير معدل النزوح المرتفع على معدل الوفيات على المدى الطويل في منطقة الصراع؛ استشهدت «شلبي»، ببلوغ نسبة الوفيات غير المباشرة إلى الوفيات المباشرة خلال الحرب الأهلية في «سيراليون»، بين عامي 1991 و2002 -والتي نزح خلالها ما يقرب من نصف سكان البلاد – إلى «ستة عشر إلى واحد».
ونتيجة لذلك، أعرب «يوسف»، عن مخاوفه «من احتمالية تسجيل الحرب في غزة أعلى معدل وفيات غير مباشرة في أي صراع بالتاريخ الحديث»، ويزيد من تفاقم هذه الأزمة، تدمير نظام الصرف الصحي، وانعدام توفر مياه الشرب النظيفة. وحذّر «أبو ستة»، من أن «التهاب الكبد، وأمراض الإسهال، وأمراض الجهاز التنفسي، وشلل الأطفال، التي عاودت الظهور خلال الحرب؛ ستظل مستمرة». وفي ظل الظروف الحالية، أكد أن «منع انتشار الأمراض المعدية أو حتى احتوائها سيكون شبه مستحيل».
وتُقدر «المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان»، أن حوالي 70% من الشهداء في غزة على يد الجيش الإسرائيلي هم من النساء والأطفال، وسط توقعات بمعاناة الأطفال أيضًا من أشد التداعيات الصحية طويلة الأمد للحرب. وبُالرغم من تزايد المساعدات الإنسانية منذ الاتفاق على وقف إطلاق النار المؤقت؛ فقد قدرت «الأمم المتحدة»، في يناير 2025، حاجة أكثر من 60.000 طفل فلسطيني إلى علاج عاجل لسوء التغذية الحاد خلال عام 2026.
من جانب آخر، تطرق «أبو ستة»، إلى مدى فداحة سوء مستوى التغذية، الذي يعاني منه أطفال غزة، لدرجة أن العديد منهم «لن يتعافوا أبدًا»، مما تحملوه من آثار. وعلى وجه الخصوص، استشهد بدراسات أجريت على الناجين من سوء التغذية في الحرب العالمية الثانية، كدليل على أن أولئك الذين عانوا من هذا الوضع، هم أكثر عرضة للإصابة بأمراض مزمنة في وقت لاحق من حياتهم؛ وبالتالي، فإن أطفال غزة «أكثر عُرضة للإصابة بمرض السكري، وارتفاع ضغط الدم»، في وقت لاحق من حياتهم.
ومع عدم إمكانية تحديد الخسائر الدقيقة في الأرواح، سواء المباشرة أو غير المباشرة، الناجمة عن الحرب الإسرائيلية ضد غزة، أوضحت «الخطيب»، أن «انهيار أنظمة الرعاية الصحية»، في القطاع يؤدي إلى «انهيار أنظمة المعلومات» تباعًا. ومع اعتبار إحصاءات الوفيات المباشرة «الرقم الأكثر أهمية» للتنبؤ بالخسائر البشرية على المدى الطويل؛ فإن تراجع موثوقية هذه الأرقام بمرور الوقت، يجعل تقدير الخسائر غير المباشرة أكثر صعوبة. ومع ذلك، فإن ما لا يمكن إنكاره هو «القسوة البالغة»، التي فرضتها إسرائيل على ملايين المدنيين الفلسطينيين، والتي ترقى إلى ممارسة الإبادة الجماعية بحقهم.
وعلى المدى القريب، تركز «وكالات الإغاثة»، و«المنظمات الإنسانية»، على توفير الغذاء، والمياه، والدعم الطبي العاجل للمتضررين داخل غزة، باعتبار ذلك أولوية قصوى. ومع ذلك، لا يمكن إغفال تحليلات الأطباء الذين شهدوا مباشرة التأثير الكارثي للحرب، وما يترتب عليها من عواقب طويلة الأمد. وأشار «إيجلاند»، إلى أن «أصحاب السلطة يمضون دون محاسبة»، فيما يواصل ملايين الأشخاص في غزة، والشرق الأوسط دفع «ثمن باهظ». ورغم تأكيده أن «إنهاء هذا الكابوس بيد أصحاب القرار»، فإن ذلك يبدو غير مرجح أن يجد آذانًا صاغية، سواء في إسرائيل، أو أوروبا، أو الولايات المتحدة.
ويتجلى مدى ما قد يصل إليه مؤيدو الحكومة الإسرائيلية؛ في قضية «أبو ستة»، الذي قدم أدلة إلى «الشرطة البريطانية»، و«المحكمة الجنائية الدولية»، حول استخدام الجيش الإسرائيلي للفوسفور الأبيض المميت في غزة، إلا أن الحكومة الألمانية فرضت حظرًا على دخوله إلى أوروبا لمدة عام. وكما أشار هو، فإن «السبب الوحيد الذي قد يدفع الألمان إلى منعي من السفر إلى أوروبا هو الحيلولة دون وصولي إلى لاهاي»، لتقديم الأدلة على جرائم الحرب في غزة، ما يكشف اشتراكهم الكامل في حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك