لايزال القادة الأوروبيون في حيرة يتساءلون: «كيف انتهي بنا المطاف إلى هذه المصيبة؟ كيف تتخلى عنا فجأة الولايات المتحدة وهي حليفنا التاريخي منذ 80 عامًا؟ ماذا نحن فاعلون بدونها؟»، تفجرت هذه الأسئلة عقب المكالمة التاريخية التي أجراها ترامب مع بوتين ووضعت حدًا لأكثر من 75 عامًا من العلاقات الوطيدة بين أمريكا وأوروبا.
حدث ذلك رغم أن نزعة ترامب نحو التخلي عن القارة العجوز لاحت بوادرها إبان فترة رئاسته الأولى، ورغم أن ما فعله كان متوقعًا لم تكن أوروبا مستعدة له على الإطلاق.
ولئن كان رؤساء فرنسا السابقون قد حذروا شعبهم منذ فترة طويلة بأن مصالح فرنسا ليست متقاربة بشكل منهجي مع المصالح الأمريكية، وأن الاختلاف بينهما يمكن أن يؤدي في المستقبل إلى نتائج خطيرة، فإن ما حدث لم يحل دون دهشتهم إزاء الطلاق البائن الذي أعلنه ترامب في وجوههم من دون مواربة. ومما زاد من إيلامهم قيامه بالتفاوض مع بوتين على إحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا في أوروبا من دون دعوة الاتحاد الأوروبي والمسؤولين الأوروبيين إلى طاولة المفاوضات وكأن وجودهم لن يغني ولن يسمن من جوع، في الوقت الذي بدا الأمن الأوروبي فيه مضطربًا.
هكذا أدرك الأوروبيون بوضوح ما يحيق بهم من خطر. لأن ما تم بين ترامب وبوتين هو اتفاق ثنائي لمصلحتيهما فقط من دون التفات للأمن الأوروبي. وهذا الاتفاق من شأنه أن يُضعف من أوكرانيا ويجعلها فريسة سهلة المنال لموسكو كما سيؤدي إلى إضعاف الدول الأوروبية وحلف الأطلسي بعد أن تخلى عنه ترامب. رغم أن ماكرون نفسه قد صرح عام 2019 بمناسبة النزاع الناجم عن التحرك التركي في سوريا بأن حلف الأطلسي دخل في حالة موت سريري.
إزاء هذا الوضع الشائك أيقنت أوروبا أن عليها أن تتحمل وحدها مسؤولية أمنها، وهذا ما صرح به وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث للأوروبيين في افتتاح الاجتماع الوزاري لحلف شمال الأطلسي الذي عُقد في بروكسل يومي 12 و13 فبراير 2025.
لكن هذا الوضع المأزوم سيضع أوروبيين أمام معضلة رهيبة. فهم إما سيُحجمون عن تقديم أي ضمان لتوفير الأمن لأوكرانيا بسبب عدم قدرتهم على تحمل الأعباء المالية اللازمة للدفاع عن القارة رغم ما يتهددهم من خطر على المدى الطويل، ومن ثم تتشوه مصداقيتهم أمام روسيا والصين، وإما أن يقدموا ضمانات أمنية لأوكرانيا ويتجشموا أعباء الدفاع عنها، وهذا ما سيثقل ميزانيتهم إلى حد كبير، ويضعف من قدرة قارتهم التنافسية في الأمد البعيد. أمام هذه المعضلة دعا بعض قادتهم إلى تأسيس ركيزة أوروبية لحلف الأطلسي بعدما شاهدوا ترامب يتفاوض مع بوتين حول السلام في أوروبا بدونهم بل ضدهم.
أمام هذا التغير الكبير في العلاقات بين واشنطن وأوروبا يثور تساؤل مهم:
إذا كان ترامب قد وضع حدًا للحماية العسكرية لأوروبا بل وشن معركة تجارية تضر بها، فهل يشي موقفه هذا بحدوث تمزق إيديولوجي ونزاع عميق حول القيم التي كانت تربط أوروبا بالولايات المتحدة؟ لا أحد بإمكانه الإدلاء بإجابة قاطعة حول هذه المسألة.
فرغم قرارات ترامب القاسية التي تضر كثيرًا بالمصالح الأمنية والاقتصادية للأوروبيين، فإن الأمل لا يزال يحدو ببعضهم أن يغير ترامب موقفه بعد أن اعتادوا أن يروا فيه عبر مراوغاته ورجوعه عن قراراته لاعبًا محترفًا للبوكر في السياسة. والواقع أن تصرفات ترامب لو قارناها بتصرفات سلفه بايدن تكشف عن فارق كبير في الموقف الإيديولوجي لكل منهما إن صح التعبير.
فبينما كان بايدن ورفاقه يتصورون العالم وكأنه رقعة شطرنج كبيرة تسعى فيها الكتل الصديقة والمعادية إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية في المناطق المتنازع عليها، يرى ترامب كوكب الأرض وربما الفضاء بأكمله ساحة كبرى للعبة احتكار شرسة تتنافس فيها أطراف كثيرة من أجل السيطرة على الأصول القيمة الثمينة عقارات كانت أو أسواقًا أو موارد.
الأولوية في رأس بايدن كانت لإيديولوجيا مكونة من قيم يرددها مع الكورال الأوروبي في نفس واحد، وهي «الديمقراطية» و«احترام سيادة القانون»، والالتزام بـ«مبادئ الناتو وأنظمة التحالف الأخرى بقيادة الولايات المتحدة». أما بالنسبة إلى ترامب فإن السياسة الوحيدة الناجحة محكومة بالسعي الجامح لتحقيق المزايا الاقتصادية والاستراتيجية.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب - جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك