كثر الحديث عن اليوم التالي في غزة، وواقع الأمر أن تداعيات الحرب في غزة لن تقتصر على حدودها وإنما سوف تطال منظومة الأمن الإقليمي برمتها، فكما أشرت في عدة مقالات سابقة أن قضايا الأمن الإقليمي مترابطة على نحو وثيق، ولم تكن حرب غزة منشئة لتلك القضايا بل كاشفة لها ولأبعادها المختلفة، ويعني ذلك أنه وبشكل مواز للحديث عن اليوم التالي في غزة لابد من مناقشة اليوم التالي لمنظومة الأمن الإقليمي ذاتها، فقبل غزة كانت المنطقة تواجه عدة تحديات في وقت متزامن وهي انهيار أو ضعف دول الجوار الإقليمي نتيجة الصراعات الداخلية المحتدمة وبروز الجماعات ما دون الدول كفاعل في تلك الصراعات وخاصة بعد نجاحها في توظيف التكنولوجيا الحديثة بما يعزز نفوذها وصولاً إلى الجدل بشأن البرامج النووية الإيرانية وكيفية تعامل الدول الغربية معها.
إن التساؤل المهم هو ما ملامح منظومة الأمن الإقليمي بعد غزة؟ أشرت من قبل لبعض التحديات، بل والتوقعات من الإدارة الأمريكية الجديدة، إلا أن عالم السياسة سريع التحول يجعل من الصعوبة بمكان وضع سيناريوهات محددة ولكن جل هذا المقال هو الحديث عن الفرص والتحديات، فعلى صعيد الفرص، ففي تقديري أنها لحظة مهمة للدول المحورية التي لعبت دوراً مهماً تجاه الصراعات الإقليمية والدولية وهي مصر ودول الخليج العربي سواء من خلال جهود الوساطة أو استضافة محادثات سلام حرب أوكرانيا وجميعها تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك أهمية ودور الأطراف الإقليمية للتكامل مع الجهود الدولية.
من ناحية ثانية تعد الرؤية التي أطلقها مجلس التعاون للأمن الإقليمي عام 2023 فرصة سانحة لدول الخليج العربي للعمل بشكل جماعي من خلال المجلس تجاه الملفات الإقليمية وكانت بداياتها موقف دول الخليج العربي تجاه سوريا، ومن ناحية ثالثة فإن إيجاد بديل إقليمي لمواجهة تهديدات الأمن البحري يبقى ضرورة استراتيجية في ظل وجود مصالح حيوية للدول المطلة على البحر الأحمر في تلك المنطقة ومنها المشروعات التنموية الحيوية حيث إن تدويل الملاحة البحرية في البحر الأحمر يعد تحدياً هائلاً للأمن الإقليمي، ومن ناحية رابعة الحاجة إلى مبادرات إقليمية لحل الصراعات الإقليمية، حيث لوحظ أن تشابك الدوائر المحلية مع الإقليمية ومن ثم الدولية كان معوقاً وسببا أساسياً لإطالة أمد تلك الصراعات وأخيراً فإن تفعيل دور منظمات الأمن الإقليمي يعد متطلباً مهماً بالنظر إلى تسييس قضايا الصراعات الإقليمية في المنظمات الدولية التي ترتبط قراراتها في نهاية المطاف بتوازن القوى داخل تلك التنظيمات.
وعلى الرغم مما سبق فإن ثمة تحديات تواجه تحقيق الأمن الإقليمي بعضها مزمن والآخر مستحدث، ومن ذلك مسألة توازن القوى الإقليمي، وتؤكد الخبرة التاريخية في تلك المنطقة أن تحقيق توازن القوى العسكري مع أهميته ولكنه ليس بالأمر الكافي لسبب بسيط مؤداه أن التحالفات تؤدي إلى تحالفات مضادة بما يعنيه ذلك من استمرار سيادة مفهوم الأمن العسكري على حساب الأمن التعاوني، صحيح أن الأخير أيضاً له متطلبات منها تجانس وقوة الوحدات المكون للأمن الإقليمي وهو ما لم تشهده المنطقة بعد ولكن توجد مؤشرات يمكن البناء عليها ومنها التقارب بين إيران وبعض دول الخليج العربي بما قد يمهد الطريق نحو إطار أكبر للتعاون في الأمن الإقليمي عموماً وأمن الملاحة البحرية على نحو خاص، ويتمثل التحدي الثاني في تنافس القوى الدولية في تلك المنطقة مجدداً ابتداءً بإعلان روسيا تأسيس قاعدة عسكرية بحرية في السودان ومروراً بإعلان دولة الكويت توقيع عقد لدراسة وتصميم وتقديم خدمات ما قبل التنفيذ لاستكمال مشروع ميناء مبارك الكبير مع شركة تابعة لوزارة النقل الصينية ضمن استراتيجية الصين تطوير الموانئ الحيوية في بعض دول المنطقة وانتهاءً بدور الهند تجاه تهديدات الأمن البحري في باب المندب والبحر والأحمر ضمن مساعي لتعزيز الشراكة الأمنية مع دول المنطقة وجميعها مؤشرات تعكس طبيعة ذلك التنافس ومجالاته وهو ما قد يفرض على دول المنطقة خيارات مختلفة، أما التحدي الثالث فيتمثل في تحدي التكنولوجيا العسكرية والتي كان لها تأثير على تغير مفهوم الأمن وكذلك قواعد اللعبة برمتها، والأمثلة على ذلك عديدة حيث طالت تلك التهديدات المنشآت الحيوية لدول الخليج العربي، ولتلك القضية أبعاد عديدة سواء فيما يتعلق بكيفية محاسبة مرتكبي تلك الاعتداءات أو مسار تطوير القدرات الذاتية الخليجية وفي جوهرها تلك التكنولوجيا، فالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال حققت حوالي 14% ضمن جهود توطين الصناعات العسكرية ضمن طموح بوصول تلك النسبة إلى 50% بحلول عام 2030 ولكن تبقى القيود التي تفرضها شركات التصنيع العسكري الغربية على تصدير تكنولوجيا متقدمة لدول المنطقة، بينما يتمثل التحدي الرابع في عدم إيجاد حل للقضية الفلسطينية وفق مبدأ حل الدولتين فلا شك أن استمرار ذلك الصراع يعني حالة مزمنة من توتر الأمن الإقليمي بما يتجاوز النطاق الإقليمي لغزة وجوارها، أما التحدي الأخير فهو رؤية الإدارة الأمريكية لقضايا الأمن الإقليمي، فالرئيس الأمريكي ترامب هو من ألغى الاتفاق النووي مع إيران عام 2018 والآن الحديث يدور حول إمكانية توقيع اتفاق جديد والذي لا ينبغي أن يكون خصما من المصالح الاستراتيجية لدول الخليج العربي.
وبشكل موجز فإنه إذا قارنا بين ما يشهده الأمن الإقليمي بما مرت به الدول الأوروبية في تاريخها نجد أن هناك تشابها كبيرا ولكن الفارق الأساسي هو أن تلك الدول حسمت تلك التحديات واحدة تلو الأخرى عبر سنوات متتالية ولكن دول المنطقة التي تشهد صراعات وحالات من عدم الاستقرار عليها أن تحسم تلك التحديات في وقت واحد ومنها الهوية والتنمية والتكامل ومن ثم فإن التساؤلات التي تثار ما الأولويات وخاصة أن الأمن والتنمية أمران متلازمان، والتساؤل الأصعب هل تلك الأولويات هي ذاتها للدول التي لديها تدخلات في تلك الصراعات؟، لا شك أن بناء الدول مجدداً بعيداً عن حالة الانقسام والصراع المسلح يعد متطلباً مهماً بالتوازي مع مشروعات لإعادة الإعمار في مناطق الصراعات، ودور فاعل للمنظمات الدولية والإقليمية لتنهض بالدور الذي تأسست من أجله وهو صيانة الأمن العالمي والأمن الإقليمي أمر مهم، بالإضافة إلى أهمية أدوار الدول الكبرى لوضع المبادرات موضع التنفيذ.
وخلاصة القول إنه من الخطأ النظر إلى قضايا الأمن الإقليمي بشكل منفصل، إذ تتشابك على نحو غير مسبوق بسبب ثورة التكنولوجيا ودور الجماعات ما دون الدول والخلل في توازن القوى وجميعها تحديات بالإمكان مواجهتها من خلال بناء القدرات وحوار إقليمي وشراكات تلتقي مصالحها مع الأطراف الإقليمية، فلا أمن عالمي من دون أمن إقليمي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك