هناك أيام تمر كأرقام، وأيام تترك أثرا في الروح، وشهر رمضان المبارك من تلك الأيام. ثمة إحساس غريب يسبق قدومه، كأنه ضيف طال انتظاره، حضوره يغير إيقاع الحياة دون إعلان. فجأة، يصبح صوت القرآن الكريم أكثر حضورًا في البيوت، تمتلئ الأحاديث بتخمينات حول أول يوم للصيام، وتتحول الأسواق إلى مشهد نابض يشبه الاستعداد لاحتفال عائلي كبير.
في البيت، تبدأ التحضيرات بلا ضجيج. الوالدة، رحمها الله، كانت تخرج الأواني الكبيرة، تلك التي لا تستخدمها إلا في شهر رمضان، وتبدأ في تحضير توابلها الخاصة. تصبح رائحة الهريس تملأ المكان، تنتشر حتى آخر الطريق، وكأنها تبشر الجميع أن شهر رمضان قد حل. كنت أراقبها وهي تحرك المزيج الثقيل بصبر، تفضله بالطريقة التقليدية التي ورثتها عن جدتي، لأنها تؤمن أن «النكهة تختلف». وكنت أصدقها، لأن طعمه في شهر رمضان لا يشبه أي شيء آخر.
لحظة الإفطار لها مهابة خاصة، صمت يسبق الأذان، وكأن الجميع يراقب عقارب الساعة بأنفاس محتبسة. صوت الأذان يرتفع، تمتد الأيدي إلى أكواب الماء، كأنها المرة الأولى التي نشعر فيها ببرودته الحقيقية. ثم تأتي أول لقمة، يليها الدعاء، ثم ذلك الشعور الجميل بالسكينة، وكأن الصبر الطويل كان يستحق كل هذا الانتظار.
بعد الإفطار، يكشف شهر الخير عن وجهه الآخر، الوجه الذي يجمع الناس. الزيارات تصبح أكثر تلقائية، بلا مواعيد مسبقة أو حواجز رسمية. فجأة، يتسع الوقت للجميع، والمجالس تفتح على مصراعيها، حيث لا أحد ضيف، والجميع أهل، بمختلف ألوانهم وثقافاتهم، وكأن شهر رمضان يوسع مساحات اللقاء لتشمل الجميع بلا استثناء. النساء يلتففن حول فناجين القهوة، يضحكن على قصص قديمة لا تفقد نكهتها، وكأن رمضان يبدد المسافات التي صنعتها الحياة دون أن نشعر.
وللسحور أيضا حكاية تسكن في الذاكرة، حين كان صوت أبو طبيلة يتهادى في الطرقات، يوقظ النائمين بندائه المألوف. كنت أسمعه من بعيد، يختلط بصوت أمي وهي تهمس باسمي برفق، تضع التمرة في فمي وأنا بين النوم واليقظة، يتبعها كوب الحليب الدافئ. لم يكن الأمر مجرد سحور، بل لحظة من الحنان الخالص، كأنها تقول دون كلام: أنا هنا. واليوم، بعدما صار صوت أبو طبيلة نادرًا، أدرك أن بعض الأصوات لا تختفي تماما، بل تبقى في القلب، توقظ الحنين كلما مر طيفها في الذاكرة.
في زمن يزداد فيه الانشغال وتتسع فيه العزلة، يأتينا الشهر الفضيل ليعيد ترتيب الأهميات. تلك العادات التي يراها البعض طقوسا موسمية، هي في حقيقتها مقاومة صامتة لعالم يحاول أن يجعل الحياة أكثر فردية، ويثبت كل عام أن الدفء الإنساني لا يمكن استبداله، وأن بعض التقاليد ليست تفاصيل في الذاكرة فحسب، بل ركائز تمنح الحياة معناها الحقيقي. حين تفتح الأبواب بلا تردد، وحين تلتقي العائلات من دون رسميات، ندرك أن الشهر الكريم يقدم لنا درسا في أن القرب أجمل من البعد، والتواصل أهم من الانعزال.
أما موائد الرحمن، فيا جمالها. هي مشهد من الألفة التي يبعثها الشهر المبارك، إذ تمتد الأيدي بالطعام ويمتد معها الشعور بالمحبة والتراحم. ومع كثرة التبرعات التي تملأ الموائد، يخطر لي أحيانا كيف أن العطاء في شهر رمضان يأخذ أشكالا كثيرة، ليس فقط في الطعام، ولكن أيضا في أمور أخرى قد لا نلتفت إليها كثيرا؛ يد تعين، أو كلمة طيبة، أو وقت يمنح لمن يحتاجه.
هناك من ينتظر وجبة، وهناك من ينتظر دعما يبقى أثره بعد انتهاء الشهر. ربما يكون العطاء في مستلزمات تدوم، أو في مساندة شخص يحتاج إلى أكثر من وجبة عابرة. في نهاية الأمر، شهر مضان يظهر لنا أن الخير له وجوه مختلفة، وأن القرب من الناس لا يكون فقط بالمائدة، بل بالاهتمام الصادق بما ينقصهم حقا.
فوسط زحام الأيام، يمنحنا شهر الإحسان فرصة نادرة لنرى الأشياء كما هي، بلا ضجيج، بلا انشغال. فجأة، تصبح الأولويات أكثر وضوحا، والمشاعر أكثر صفاءً. هو الوقت الذي تتجدد فيه النيات، حيث يعاد ترتيب الداخل قبل أن يعاد ترتيب الخارج. كل سجدة، كل دعاء خافت في آخر الليل، كل لحظة تأمل بيننا وبين أنفسنا، هي فرصة لنخفف عن أرواحنا ما أثقلتها به الأيام.
وحين تأتي العشر الأواخر، نشعر أن الشهر الفضيل يتسلل من بين أيدينا دون أن ننتبه، رغم رغبتنا في التمسك به أكثر. ندرك أن الأيام تمضي أسرع مما نريد، ويترك أثره في مكان لا تمحوه الأيام. ليس الأمر في الصيام وحده، ولا في الموائد العامرة، بل في الأثر الذي يتركه حين يمضي. شعور بأننا كنا أقرب، أنقى، وأكثر قدرة على رؤية الأشياء كما ينبغي أن ترى.
فهو لا يضيف شيئا إلى الحياة، بل يكشف ما غاب عنها وسط انشغالنا. يأتينا ليوقظنا إلى أن النور في داخلنا لم ينطفئ، بل كنا فقط نبتعد عنه.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك