العدد : ١٧٢١٣ - الجمعة ٠٩ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢١٣ - الجمعة ٠٩ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

في حضرة شهر رمضان .. المسـافـات تـذوب والقلـوب تلتقي

بقلم: نبيلة رجب

الأحد ٠٢ مارس ٢٠٢٥ - 02:00

هناك‭ ‬أيام‭ ‬تمر‭ ‬كأرقام،‭ ‬وأيام‭ ‬تترك‭ ‬أثرا‭ ‬في‭ ‬الروح،‭ ‬وشهر‭ ‬رمضان‭ ‬المبارك‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭. ‬ثمة‭ ‬إحساس‭ ‬غريب‭ ‬يسبق‭ ‬قدومه،‭ ‬كأنه‭ ‬ضيف‭ ‬طال‭ ‬انتظاره،‭ ‬حضوره‭ ‬يغير‭ ‬إيقاع‭ ‬الحياة‭ ‬دون‭ ‬إعلان‭. ‬فجأة،‭ ‬يصبح‭ ‬صوت‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬أكثر‭ ‬حضورًا‭ ‬في‭ ‬البيوت،‭ ‬تمتلئ‭ ‬الأحاديث‭ ‬بتخمينات‭ ‬حول‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬للصيام،‭ ‬وتتحول‭ ‬الأسواق‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬نابض‭ ‬يشبه‭ ‬الاستعداد‭ ‬لاحتفال‭ ‬عائلي‭ ‬كبير‭.‬

في‭ ‬البيت،‭ ‬تبدأ‭ ‬التحضيرات‭ ‬بلا‭ ‬ضجيج‭. ‬الوالدة،‭ ‬رحمها‭ ‬الله،‭ ‬كانت‭ ‬تخرج‭ ‬الأواني‭ ‬الكبيرة،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستخدمها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬وتبدأ‭ ‬في‭ ‬تحضير‭ ‬توابلها‭ ‬الخاصة‭. ‬تصبح‭ ‬رائحة‭ ‬الهريس‭ ‬تملأ‭ ‬المكان،‭ ‬تنتشر‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬الطريق،‭ ‬وكأنها‭ ‬تبشر‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬قد‭ ‬حل‭. ‬كنت‭ ‬أراقبها‭ ‬وهي‭ ‬تحرك‭ ‬المزيج‭ ‬الثقيل‭ ‬بصبر،‭ ‬تفضله‭ ‬بالطريقة‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬ورثتها‭ ‬عن‭ ‬جدتي،‭ ‬لأنها‭ ‬تؤمن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬النكهة‭ ‬تختلف‮»‬‭. ‬وكنت‭ ‬أصدقها،‭ ‬لأن‭ ‬طعمه‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

لحظة‭ ‬الإفطار‭ ‬لها‭ ‬مهابة‭ ‬خاصة،‭ ‬صمت‭ ‬يسبق‭ ‬الأذان،‭ ‬وكأن‭ ‬الجميع‭ ‬يراقب‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة‭ ‬بأنفاس‭ ‬محتبسة‭. ‬صوت‭ ‬الأذان‭ ‬يرتفع،‭ ‬تمتد‭ ‬الأيدي‭ ‬إلى‭ ‬أكواب‭ ‬الماء،‭ ‬كأنها‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬نشعر‭ ‬فيها‭ ‬ببرودته‭ ‬الحقيقية‭. ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬أول‭ ‬لقمة،‭ ‬يليها‭ ‬الدعاء،‭ ‬ثم‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬الجميل‭ ‬بالسكينة،‭ ‬وكأن‭ ‬الصبر‭ ‬الطويل‭ ‬كان‭ ‬يستحق‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الانتظار‭.‬

بعد‭ ‬الإفطار،‭ ‬يكشف‭ ‬شهر‭ ‬الخير‭ ‬عن‭ ‬وجهه‭ ‬الآخر،‭ ‬الوجه‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬الناس‭. ‬الزيارات‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬تلقائية،‭ ‬بلا‭ ‬مواعيد‭ ‬مسبقة‭ ‬أو‭ ‬حواجز‭ ‬رسمية‭. ‬فجأة،‭ ‬يتسع‭ ‬الوقت‭ ‬للجميع،‭ ‬والمجالس‭ ‬تفتح‭ ‬على‭ ‬مصراعيها،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬ضيف،‭ ‬والجميع‭ ‬أهل،‭ ‬بمختلف‭ ‬ألوانهم‭ ‬وثقافاتهم،‭ ‬وكأن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬يوسع‭ ‬مساحات‭ ‬اللقاء‭ ‬لتشمل‭ ‬الجميع‭ ‬بلا‭ ‬استثناء‭. ‬النساء‭ ‬يلتففن‭ ‬حول‭ ‬فناجين‭ ‬القهوة،‭ ‬يضحكن‭ ‬على‭ ‬قصص‭ ‬قديمة‭ ‬لا‭ ‬تفقد‭ ‬نكهتها،‭ ‬وكأن‭ ‬رمضان‭ ‬يبدد‭ ‬المسافات‭ ‬التي‭ ‬صنعتها‭ ‬الحياة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نشعر‭.‬

وللسحور‭ ‬أيضا‭ ‬حكاية‭ ‬تسكن‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬أبو‭ ‬طبيلة‭ ‬يتهادى‭ ‬في‭ ‬الطرقات،‭ ‬يوقظ‭ ‬النائمين‭ ‬بندائه‭ ‬المألوف‭. ‬كنت‭ ‬أسمعه‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬يختلط‭ ‬بصوت‭ ‬أمي‭ ‬وهي‭ ‬تهمس‭ ‬باسمي‭ ‬برفق،‭ ‬تضع‭ ‬التمرة‭ ‬في‭ ‬فمي‭ ‬وأنا‭ ‬بين‭ ‬النوم‭ ‬واليقظة،‭ ‬يتبعها‭ ‬كوب‭ ‬الحليب‭ ‬الدافئ‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬سحور،‭ ‬بل‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬الحنان‭ ‬الخالص،‭ ‬كأنها‭ ‬تقول‭ ‬دون‭ ‬كلام‭: ‬أنا‭ ‬هنا‭. ‬واليوم،‭ ‬بعدما‭ ‬صار‭ ‬صوت‭ ‬أبو‭ ‬طبيلة‭ ‬نادرًا،‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأصوات‭ ‬لا‭ ‬تختفي‭ ‬تماما،‭ ‬بل‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬القلب،‭ ‬توقظ‭ ‬الحنين‭ ‬كلما‭ ‬مر‭ ‬طيفها‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭.‬

في‭ ‬زمن‭ ‬يزداد‭ ‬فيه‭ ‬الانشغال‭ ‬وتتسع‭ ‬فيه‭ ‬العزلة،‭ ‬يأتينا‭ ‬الشهر‭ ‬الفضيل‭ ‬ليعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬الأهميات‭. ‬تلك‭ ‬العادات‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬البعض‭ ‬طقوسا‭ ‬موسمية،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬مقاومة‭ ‬صامتة‭ ‬لعالم‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الحياة‭ ‬أكثر‭ ‬فردية،‭ ‬ويثبت‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬أن‭ ‬الدفء‭ ‬الإنساني‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استبداله،‭ ‬وأن‭ ‬بعض‭ ‬التقاليد‭ ‬ليست‭ ‬تفاصيل‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ركائز‭ ‬تمنح‭ ‬الحياة‭ ‬معناها‭ ‬الحقيقي‭. ‬حين‭ ‬تفتح‭ ‬الأبواب‭ ‬بلا‭ ‬تردد،‭ ‬وحين‭ ‬تلتقي‭ ‬العائلات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رسميات،‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬الشهر‭ ‬الكريم‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬درسا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬القرب‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬البعد،‭ ‬والتواصل‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬الانعزال‭.‬

أما‭ ‬موائد‭ ‬الرحمن،‭ ‬فيا‭ ‬جمالها‭. ‬هي‭ ‬مشهد‭ ‬من‭ ‬الألفة‭ ‬التي‭ ‬يبعثها‭ ‬الشهر‭ ‬المبارك،‭ ‬إذ‭ ‬تمتد‭ ‬الأيدي‭ ‬بالطعام‭ ‬ويمتد‭ ‬معها‭ ‬الشعور‭ ‬بالمحبة‭ ‬والتراحم‭. ‬ومع‭ ‬كثرة‭ ‬التبرعات‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬الموائد،‭ ‬يخطر‭ ‬لي‭ ‬أحيانا‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬العطاء‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬يأخذ‭ ‬أشكالا‭ ‬كثيرة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الطعام،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نلتفت‭ ‬إليها‭ ‬كثيرا؛‭ ‬يد‭ ‬تعين،‭ ‬أو‭ ‬كلمة‭ ‬طيبة،‭ ‬أو‭ ‬وقت‭ ‬يمنح‭ ‬لمن‭ ‬يحتاجه‭.‬

‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ينتظر‭ ‬وجبة،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬ينتظر‭ ‬دعما‭ ‬يبقى‭ ‬أثره‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الشهر‭. ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬العطاء‭ ‬في‭ ‬مستلزمات‭ ‬تدوم،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مساندة‭ ‬شخص‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وجبة‭ ‬عابرة‭. ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر،‭ ‬شهر‭ ‬مضان‭ ‬يظهر‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬الخير‭ ‬له‭ ‬وجوه‭ ‬مختلفة،‭ ‬وأن‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬فقط‭ ‬بالمائدة،‭ ‬بل‭ ‬بالاهتمام‭ ‬الصادق‭ ‬بما‭ ‬ينقصهم‭ ‬حقا‭.‬

فوسط‭ ‬زحام‭ ‬الأيام،‭ ‬يمنحنا‭ ‬شهر‭ ‬الإحسان‭ ‬فرصة‭ ‬نادرة‭ ‬لنرى‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬هي،‭ ‬بلا‭ ‬ضجيج،‭ ‬بلا‭ ‬انشغال‭. ‬فجأة،‭ ‬تصبح‭ ‬الأولويات‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحا،‭ ‬والمشاعر‭ ‬أكثر‭ ‬صفاءً‭. ‬هو‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تتجدد‭ ‬فيه‭ ‬النيات،‭ ‬حيث‭ ‬يعاد‭ ‬ترتيب‭ ‬الداخل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعاد‭ ‬ترتيب‭ ‬الخارج‭. ‬كل‭ ‬سجدة،‭ ‬كل‭ ‬دعاء‭ ‬خافت‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الليل،‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬تأمل‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬أنفسنا،‭ ‬هي‭ ‬فرصة‭ ‬لنخفف‭ ‬عن‭ ‬أرواحنا‭ ‬ما‭ ‬أثقلتها‭ ‬به‭ ‬الأيام‭.‬

وحين‭ ‬تأتي‭ ‬العشر‭ ‬الأواخر،‭ ‬نشعر‭ ‬أن‭ ‬الشهر‭ ‬الفضيل‭ ‬يتسلل‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننتبه،‭ ‬رغم‭ ‬رغبتنا‭ ‬في‭ ‬التمسك‭ ‬به‭ ‬أكثر‭. ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬الأيام‭ ‬تمضي‭ ‬أسرع‭ ‬مما‭ ‬نريد،‭ ‬ويترك‭ ‬أثره‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬تمحوه‭ ‬الأيام‭. ‬ليس‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬الصيام‭ ‬وحده،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الموائد‭ ‬العامرة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬يتركه‭ ‬حين‭ ‬يمضي‭. ‬شعور‭ ‬بأننا‭ ‬كنا‭ ‬أقرب،‭ ‬أنقى،‭ ‬وأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬ترى‭.‬

فهو‭ ‬لا‭ ‬يضيف‭ ‬شيئا‭ ‬إلى‭ ‬الحياة،‭ ‬بل‭ ‬يكشف‭ ‬ما‭ ‬غاب‭ ‬عنها‭ ‬وسط‭ ‬انشغالنا‭. ‬يأتينا‭ ‬ليوقظنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬داخلنا‭ ‬لم‭ ‬ينطفئ،‭ ‬بل‭ ‬كنا‭ ‬فقط‭ ‬نبتعد‭ ‬عنه‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا