في يناير 2025 نشرت مؤسسة «راند» البحثية الأمريكية، تقريرا بعنوان «مسارات السلام الإسرائيلي الفلسطيني الدائم»، أكد أن «هدف إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، سيكون «محوريا للمنطقة وشعوبها وللعالم»، مع فوائده التي لا تشمل فقط «النهضة الاقتصادية والاجتماعية» لسكانها؛ لكن أيضًا «استعادة الأمن، للفلسطينيين والإسرائيليين وبقية دول الشرق الأوسط على حد سواء».
وعلى الرغم من اعتراف معظم البلدان حول العالم (146) بالدولة الفلسطينية -بما في ذلك كل الدول العربية، ومعظم دول إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وعدد متزايد في أوروبا- إلا أن حقيقة رفض كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، القيام بذلك، وعوضًا عن ذلك، يؤيدون نيات إسرائيل في الاحتلال العسكري والضم غير القانوني للأراضي الفلسطينية؛ قد قوض على مدى عقود تقدم السلام الإقليمي. ورأى أحمد أبو دوح، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، أن تأييد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للتطهير العرقي للفلسطينيين في غزة؛ لإفساح المجال أمام امتلاك شركات العقارات الأمريكية للمنطقة، وتحويلها لاحقًا إلى ريفييرا على ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ قد ألحق بالفعل ضررًا لا يمكن إصلاحه لقضية السلام في الشرق الأوسط.
وفي حين رفض عديد من المعلقين الغربيين خطة ترامب، لإخراج أكثر من مليوني فلسطيني من غزة باعتبارها مستحيلة سياسيا، وغير قابلة للتنفيذ عمليا؛ لاحظ لاري جاربر، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أنه على الرغم من طرح العديد من الخطط الأخرى لمستقبل غزة من قبل الحكومات والمنظمات غير الحكومية ومراكز الفكر؛ فإن القضايا الجوهرية المتعلقة بمن سيتولى الحكم، ومن سيوفر الأمن والتمويل، لا تزال بلا إجابات واضحة. وفي مقالهما بمجلة ذي أتلانتيك، بعنوان كيف ننهي الحرب في غزة؛ أشار ستيوارت إيزنستات، ودينيس روس، إلى أن التركيز على دعم الدبلوماسية بالقوة العسكرية الحاسمة، والتوقيت الجيد، ووجود العلاقات الشخصية، باعتبارها عوامل ضرورية للدبلوماسية الناجحة مع إسرائيل، قد أدى إلى تجاهل مستقبل الشعب الفلسطيني، ليس فقط في غزة، بل أيضًا في سائر الأراضي المحتلة.
من جانبها، أشارت مها يحيى، في مجلة فورين أفيرز، إلى أنه من دون حل سياسي موثوق للصراع الإسرائيلي الفلسطيني عامة؛ فإن جهود إعادة الإعمار بغزة، لن تقدم الكثير على المدى الطويل من أجل السلام والاستقرار والأمن الإقليمي، مضيفة أنه على حكومات المنطقة والعالم تغيير نهجها، بما يلبي التطلعات المستقبلية للفلسطينيين، وإنشاء إطار سياسي يعترف فعليا بحقهم في تقرير المصير.
ومع الإقرار بأن جهود إعادة إعمار غزة، تشكل تحديًا هائلًا في حد ذاتها؛ قدرت الأمم المتحدة، والبنك الدولي، أن هذه التكلفة ستتجاوز 50 مليار دولار على مدى السنوات العشر المقبلة -مع ما يقرب من 30 مليار دولار لإصلاح المباني والبنية الأساسية الحيوية، و20 مليارا للتعويض عن الخسائر الاقتصادية والاجتماعية. وعلى المدى القريب، وثق جاربر، كيف أن تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة للسكان، ستظل تشكل تحدياً هائلاً في المستقبل المنظور.
وفي التقييمات بعيدة المدى، أشار أحمد الخطيب، من المجلس الأطلسي، إلى أن عملية إعادة الإعمار الطويلة والمكلفة في غزة محكوم عليها بالفشل، ما لم تُطرح حلول حقيقية للمشكلات المستعصية التي يواجهها القطاع. وأكدت هالة راريت، في مجلة فورين بوليسي، أن اقتراح ترامب بإبعاد أكثر من مليوني فلسطيني بالقوة من غزة، سيضمن فقط استمرار حلقة مفرغة من العنف. وفي مواجهة هذا، رأت أن الحل الوحيد كان وسيظل دائمًا الدبلوماسية، وإنهاء الاحتلال غير القانوني، وحق الفلسطينيين في تقرير المصير وفقًا للقانون الدولي. وأشار أليكس بليتساس، من المجلس الأطلسي، إلى أن خطط ترامب، بشأن غزة قد تُفضي إلى نهاية الدولة الفلسطينية، حتى لو كان نزوحًا مؤقتًا لأغراض إعادة الإعمار المزعومة؛ والذي سيؤدي في الواقع إلى نزوح دائم، وعدم القدرة على العودة.
بالإضافة إلى ذلك، أشار تقرير مؤسسة راند -المذكور أعلاه- إلى عقبات رئيسية تواجه القضية الفلسطينية، أبرزها المطالبات الإقليمية غير المتوافقة، والتدخلات الخارجية غير الداعمة للتسوية الفعلية، فضلا عن قلة القيادات الفاعلة في مسار السلام، مع تبني إسرائيل موقفًا متصلبًا بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعلى الجانب الآخر، غياب قيادة فلسطينية واضحة بين غزة والضفة الغربية ما يقوض بشدة موقف الدولة الفلسطينية على طاولة المفاوضات، وهي الأمور التي تمثل عائقًا جوهريًا أمام أي تقدم. وعلى المستوى الدولي، أكد التقرير ضرورة أن يجد شركاء كلا الجانبين طرقًا جديدة وفعالة لتشجيع ودعم القادة المستعدين للدفاع عن رؤية السلام الدائم، وقبول التسويات المطلوبة لتحقيقه. وفي حالة إسرائيل، فإن الدعم المتجدد الذي تلقته من إدارة ترامب -حتى في شكل تعزيز نية التطهير العرقي في غزة وفرض السيطرة الكاملة على الأراضي- يكشف بوضوح كيف تم إحباط أي أمل في تحرك خارجي ديناميكي لتحقيق السلام.
من جهة أخرى، أكد جاربر، ضرورة وضع حزم إعادة الإعمار، لكل من غزة والضفة الغربية، والعمل على إعادة توحيدهما سياسيًا، بالتوازي مع وضع رؤية تهدف إلى تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية بينهما، وهو ما سيوفر بيئة ملائمة لإقامة دولة فلسطينية، مشيرا إلى أن أي محاولة لتجميد السلطة الفلسطينية خارج جهود إعادة إعمار غزة، من شأنها أن تعزز التهميش السياسي للسلطة، مما سيؤدي إلى دفن آخر بقايا عملية أوسلو.
وفيما يتعلق بالمجتمع الدولي، والتقدم المحرز نحو إنشاء الدولة الفلسطينية لتحقيق السلام الدائم في الشرق الأوسط؛ كتب الخطيب، أنه يجب أن يكون هناك تعهد رسمي يحدد التوقعات بشأن الدعم المقدم للفلسطينيين؛ والذي من شأنه أن يساعدهم، ليس فقط في بناء دولتهم، لكن أيضا في جعل غزة أفضل مكان ممكن لسكانها.
وكما هو الحال مع جميع المقترحات السابقة المتعلقة بمستقبل غزة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة؛ تواجه المقترحات الحالية التي قدمها الخبراء عقبات عديدة، أبرزها التعنت المستمر من جانب إسرائيل، والدعم الأمريكي غير المشروط الذي يعيق تحقيق سلام دائم. وأشار ستيفن كوك، من مجلس العلاقات الخارجية، إلى أن التعاطف الدولي المتجدد مع القضية الفلسطينية، خلال العام ونصف العام الماضيين، لم يؤدِّ إلى نتائج ملموسة، تعزيز مستقبل مستقر وآمن للشعب الفلسطيني. وعلقت ليلى فرسخ، من جامعة ماساتشوستس، على أهمية استمرار القانون الدولي كـأداة فعالة لمحاسبة إسرائيل، على انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني، وتقرير المصير الوطني؛ لكنها أقرت بأن هذا وحده لا يكفي لتقديم استراتيجية سياسية شاملة، قادرة على توحيد المشهد السياسي الفلسطيني، مع بديل سياسي قابل للتطبيق لحل الدولتين المتعثر.
وفي الواقع، تجاهلت الاقتراحات التي قدمها المراقبون الغربيون لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، أهمية التوصل إلى تسوية سياسية تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، باعتبارها الركيزة الأساسية لتحقيق السلام والأمن الدائمين في المنطقة. وخلال وقف إطلاق النار المؤقت بين إسرائيل وحماس، انصب تركيز الأخبار والتحليلات الدولية على تبادل الأسرى وإيصال المساعدات الإنسانية، في حين واصل ترامب، الإدلاء بتصريحات مثيرة للجدل حول دور واشنطن في المرحلة المقبلة. وفي هذا السياق، اعتبرت فرسخ، أن حرب الإبادة الجماعية، التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في مختلف الأراضي المحتلة، لم تسفر إلا عن تعزيز القناعة بأن السعي إلى إقامة دولة فلسطينية بات بلا جدوى.
وتأكيدا لهذا التقييم، رأى كوك، أن الحرب في غزة، وضم إسرائيل الأوسع للضفة الغربية والقدس الشرقية؛ جعلت كلا من حل الدولة الواحدة، وحل الدولتين مستحيلًا، مضيفا أنه رغم الاعتراف القانوني الدولي بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم؛ فإن عدم التماثل في القوة بينهم وبين إسرائيل، يمنح ائتلاف نتنياهو، المتطرف، وحلفاءه القدرة على منع الفلسطينيين من ممارسة هذا الحق بمفردهم.
على العموم، يؤكد كل ما سبق أهمية إقامة دولة فلسطينية مستقبلية لضمان السلام والأمن على المدى الطويل في الشرق الأوسط. وبينما يعترف المراقبون الغربيون بنيات إسرائيل احتلال وضم الأراضي الفلسطينية، بدعم من إدارة ترامب، وما يترتب على ذلك من تأجيج لحالة عدم الاستقرار، وزيادة خطر اندلاع مزيد من العنف؛ فإن ذلك لا يؤدي سوى إلى إعادة إنتاج الصراعات السابقة، واستمرار معاناة الملايين من المدنيين الفلسطينيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك