يُعد الاستثمار في الثروة المعدنية أحد المحاور الاقتصادية الاستراتيجية ضمن جهود تنويع وتوسيع قاعدة الاقتصاد الخليجي، فهو لا يقتصر على كونه نشاطًا اقتصاديًا مستقلًا يشمل استخراج وتجهيز وتصدير المعادن، بل يُشكّل أيضًا ركيزة أساسية لدعم قطاع الصناعة التحويلية التي تعتمد عليه. وبشكل كبير، يسهم التعدين في تعزيز الاقتصادات الوطنية، وتحقيق الاستقرار المالي، وتحفيز التنمية المستدامة.
وتشهد دول «مجلس التعاون الخليجي»، اهتمامًا متزايدًا بالاستثمار في قطاع التعدين داخليًا وخارجيًا، لما يحفل به من فرص استثمارية واسعة، حيث بادرت إلى تبني استراتيجيات وخطط تنفيذية تهدف إلى تعزيز هذا القطاع، واستغلال الموارد الطبيعية بكفاءة. وأكدت دراسة نشرتها صحيفة «الفايننشيال تايمز»، العام الماضي، أن دول الخليج تعيد توجيه عائدات النفط لتأمين احتياجاتها المعدنية، خاصة من المعادن اللازمة لتحقيق تحولات الطاقة، وعلى رأس هذه الدول تأتي الإمارات والسعودية، حيث تسعى الأخيرة إلى رفع مساهمة قطاع التعدين إلى 75 مليار دولار بحلول عام 2035، مقارنة بـ 17 مليار دولار حاليًا.
علاوة على ذلك، شرعت سلطنة عُمان في تنفيذ مشروع بناء أكبر مصنع للصلب الأخضر في العالم، مع خطط لاستخدام خام الحديد المستورد من الكاميرون. في الوقت ذاته، تُعد هيئة الاستثمار القطرية (الصندوق السيادي لدولة قطر)، ثاني أكبر مساهم في شركة جلينكور، (الشركة البريطانية السويسرية متعددة الجنسيات المتخصصة في التجارة والتعدين)، والتي تتخذ من سويسرا مقرًا لها. ووفقًا لشركة «دراجو مان» الاستشارية في مجال التعدين، تمتلك المنطقة إمكانات هائلة لتأسيس صناعة تعدين كبرى.
من جانبها، ترحب الدول الغنية بالموارد المعدنية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالاستثمارات الخليجية في مجال التعدين، وتجد فيها بديلاً أفضل. ويفسر الاستثمار في الثروات المعدنية الإفريقية ارتفاع حجم الاستثمارات الخليجية في إفريقيا، والتي بلغت نحو 30% من إجمالي الاستثمارات الخليجية الخارجية بقيمة تتجاوز 100 مليار دولار. وتشير «وحدة أبحاث الإيكونومست»، إلى أن إجمالي الاستثمارات التي تم إعلانها من دول مجلس التعاون الخليجي في إفريقيا بلغ 60 مليار دولار في 2022، و53 مليار دولار في 2023، وهو ما يفوق بكثير استثماراتها في آسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا.
ولتحقيق الاستغلال الأمثل للثروة المعدنية، وتحقيق أعلى قيمة مضافة ممكنة منها -بما يسهم في التنمية المستدامة، ويعزز التعاون والتكامل بين دول مجلس التعاون، وتشجيع الاستثمار في قطاع التعدين وحماية البيئة والسلامة العامة والتراث الجيولوجي – فإن «لجنة التعاون البترولي للدول الأعضاء في المجلس»، خلصت في 2022 إلى «منظومة المبادئ العامة الاسترشادية في مجال التعدين».
وتأتي «المملكة العربية السعودية»، ثالثة عالميًا، بعد روسيا والولايات المتحدة من حيث القيمة التقديرية لثروتها المعدنية، بقيمة سوقية تتجاوز 34 تريليون دولار، فيما تسعى دول الخليج إلى تطوير القطاع التعديني لديها، مع التذبذب المستمر في أسعار النفط، وتداعيات ذلك على الموازنة العامة والإنفاق العام، وفي هذا المسعى فإنها تحفز الشركات المحلية والعالمية للمشاركة مع القطاع الحكومي في مجالات التنقيب والاستخراج والتجهيز والتطوير.
وإلى هذا كانت فعاليات النسخة الرابعة لمؤتمر التعدين الدولي بالرياض في يناير2025، بمشاركة عالمية واسعة، شملت حكومات، ومستثمرين، وممولين من 90 دولة و50 منظمة دولية، وشهد هذا المؤتمر إعلان مجموعة من الشراكات الجديدة في قطاع التعدين السعودي، بمشاركة «أرامكو»، و«معادن»، وعدد من مذكرات التفاهم والاتفاقيات، تعمل كلها في تطوير قطاع التعدين والمعادن في المملكة، فيما بلغت الاستثمارات التعدينية للهيئة الملكية للجبيل 185 مليار ريال، ويعزز هذه الاستثمارات الاستكشافات الضخمة في مناطق الهيئة.
بالإضافة إلى ذلك، شهد هذا المؤتمر الكشف عن أربعة إعلانات استراتيجية تعزز مكانة المملكة، كوجهة عالمية رائدة في قطاع التعدين، حيث أعلنت شركتا «أرامكو» و«معادن»، إطلاق مشروع مشترك لاستكشاف المعادن الحرجة اللازمة لانتقال الطاقة، يستهدف تسريع استغلال هذه المعادن، وتعزيز قدرة المملكة على دعم سلاسل الإمداد العالمية بها، وأعلنت شركة «معادن» اكتشافات جديدة تبرز الإمكانات الهائلة التي يزخر بها قطاع التعدين السعودي، شملت توسعة منجم «منصورة»، بعد تأكيد وجود ذهب عالي التركيز على عمق 220 مترا، وأعلنت أيضا اكتشافين جديدين في مواقع «وادي الجو»، ورواسب «شيبان».
وفي إطار تعزيز صناعة الحديد والصلب؛ أعلنت شركة «حديد» استحواذها الكامل على شركة الراجحي للصناعات الحديدية، وإطلاق خطة طموحة تشمل استثمارات بقيمة 25 مليار دولار لزيادة الإنتاج إلى 10 ملايين طن؛ لتوفير احتياجات المشاريع العملاقة في المملكة، فيما أعلنت شركة «باد ستيل»، الصينية بناء أول مصنع متكامل للصلب خارج الصين، بالتعاون مع «أرامكو»، وصندوق الاستثمارات العامة، ينتج 1.5 مليون طن سنويًا من الألواح الفولاذية.
وفيما بلغ عدد المواقع المستكشفة في السعودية 5300 موقع، تقدر قيمتها بنحو 5 تريليونات ريال، ومن هذه المعادن الفضة، والذهب، والنحاس، والزنك، والفوسفات، والجرافيت؛ وبلغت الصادرات السعودية من المعادن، نحو 26 مليار ريال (7 مليارات دولار) في 2021، ومساهمة قطاع التعدين في الناتج المحلي الإجمالي بـ64 مليار ريال (17 مليار دولار)؛ فإنه ينتظر قطاع التعدين السعودي استثمارات هائلة، لما تحفل به من موارد معدنية غير مطروقة، فيما غدت المملكة «مركزًا عالميًا»، لمعالجة المعادن.
وفي «رؤية السعودية 2030»، يعد التعدين ومعالجة المعادن الركيزة الثالثة فيها، حيث تسعى إلى استغلال ما تقدر قيمته بـ 2.5 تريليون دولار من الأصول المعدنية المحلية، بمساعدة كل من «أرامكو» و«معادن»، وأصبح لديها أكبر برنامج للتنقيب في العالم، ومن خلال شركة «منارة» للمعادن، تتم المعالجة المحلية لواردات المملكة المعدنية.
وفي هذه الرؤية أطلقت «المملكة»، «استراتيجية المعادن»، ومن خلالها قامت بتيسير عمليات الاستكشاف، وحققت سجلاً قياسيًا في معالجة الفوسفات، والألمونيوم، والصلب، والفولاذ، والتيتانيوم، فيما رفعت المشاريع العملاقة والاستراتيجية الصناعية الوطنية، الطلب بشكل غير مسبوق على المعادن، وغدت المملكة ثاني أكبر المصدرين للفوسفات، والأسمدة الفوسفاتية، ومن أكبر سبع منتجين للألومنيوم، وتقود المنطقة في إنتاج الفولاذ منخفض الكربون، ومن أكبر مصدري التيتانيوم، كما أنها قائدة في إنتاج الليثيوم وغيره من المعادن النادرة ومعادن البطاريات، وتبلغ قيمة الفرص الاستثمارية الجديدة في المعادن نحو 100 مليار دولار.
وتنظر «الإمارات»، إلى الثروة المعدنية على أنها كنز استراتيجي، وركيزة أساسية في تطوير اقتصادها وتنويعه، ويمكن أن يقوم عليها عدد من الصناعات الأساسية، وتتوجه استراتيجيًا لتعظيم استغلال ثروتها المعدنية، فيما تضمنت «الخطة التشغيلية»، لوزارة «الطاقة والبنية التحتية»، تنظيم وتنمية قطاع التعدين، الذي تندرج تحته عدة مبادرات وأنشطة، وتوفير البيانات اللازمة كأطلس الثروة المعدنية، الذي يعد دليلاً استرشاديًا للمستثمرين في هذا المجال، كما تمتلك ثروة من المعادن الحرجة. وتؤكد «الاستراتيجية الإماراتية للتعدين»، تأمين احتياجات البلاد من هذه المعادن من خلال تعزيز عمليات البحث والاستكشاف والاستخراج وجذب المستثمرين، وتعزيز استثماراتها الخارجية في هذه المعادن مع سعيها لتوطين صناعة الطاقة المتجددة وتسريع عمليات انتقال الطاقة.
وفي «سلطنة عُمان»، بلغ إجمالي الإنتاج من المعادن ما يزيد على 60 مليون طن، بقيمة اقتصادية قدرها 230 مليون ريال عُماني (600 مليون دولار)، ما يعزز اهتمام السلطنة بقطاع التعدين الذي يعمل فيه نحو 4248 عاملا، وامتد هذا الاهتمام إلى باقي دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تتجه الحكومات إلى وضع استراتيجيات عامة، ومبادرات لتطوير هذا القطاع، وتشجيع الشركات الخاصة على الاستثمارات في أنشطته.
على العموم، أصبح الاستثمار في الثروة المعدنية، أحد أهم توجهات دول مجلس التعاون الخليجي الاستثمارية، وتعتبره محورا أساسيا في تنويع مصادر الدخل، وخدمة التحول الطاقي، خاصة في مجال المعادن الحرجة المرتبطة بالطاقة المتجددة، وفيما تحفل دول الخليج -ذات المساحة الأكبر – بإمكانات هائلة في هذه الثروة؛ فإن الدول الصغيرة تعوض ذلك بالاستثمارات الخارجية في هذه الثروة، خاصة في إفريقيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك