خلال الحرب التي استمرت 15 شهرًا في غزة، سجلت «لجنة الإنقاذ الدولية»، التأثير الكارثي جراء الحملة العسكرية المتواصلة التي شنتها إسرائيل، وما فرضته من قيود متعمدة على المساعدات الإنسانية المقدمة لملايين المدنيين الفلسطينيين، الذين يعتمدون بشكل كامل على المساعدات الإنسانية العاجلة. ووثقت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، معاناة سكان غزة من «نقص حاد في الغذاء، والمياه النظيفة، والإمدادات الطبية والمأوى»، في ظل حالة الدمار الشامل للبنية التحتية، مع فرض «قيود شديدة على إدخال الضروريات الإنسانية الأساسية».
وعلى الرغم من أن وقف إطلاق النار المؤقت بين «إسرائيل»، و«حماس»، سمح بتسليم المساعدات التي تشتد الحاجة إليها لدخول القطاع، مع عودة أكثر من 376.000 نازح إلى شمال غزة خلال الأسبوع الأخير من يناير 2025 وحده؛ حذرت «ديبمالا ماهلا»، من منظمة «كير» للإغاثة، من أن «الجوع والمرض لا يختفيان بمجرد إسكات البنادق».
وفي ظل هذا الوضع، فإن قرار الكنيست الإسرائيلي بحظر عمليات «وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، اعتبارًا من 30 يناير 2025، يقوض بشدة الجهود الدولية لتقديم المساعدة للمدنيين المحاصرين. ولم تقتصر مهمة الوكالة الدولية على تسليم ما يقرب من ثلثي إجمالي المساعدات الغذائية الموزعة داخل غزة أثناء الحرب، فضلاً عن توفير المأوى لأكثر من مليون مدني فلسطيني، بل إن «ديفيد ماكوفسكي»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، أقر بأنها تُعد «المزود الإنساني الرائد»، في الضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث تدير 19 مخيمًا للاجئين، وتوظف 3.700 عامل، وتشغل المستشفيات والعيادات الصحية، وتدير 96 مدرسة تضم حوالي 47.000 طفل، بالإضافة إلى توفير المساعدة الاجتماعية لأكثر من 150.000 شخص.
ورغم تسجيل «فرناز فاسيحي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إقرار «كبار مسؤولي الأمم المتحدة وكل عضو في مجلس الأمن -باستثناء الولايات المتحدة»- بأن تصرفات إسرائيل تشكل «انتهاكًا لالتزاماتها بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة»؛ فإن دعم «واشنطن»، المستمر لإسرائيل يعني تمتع حكومة «بنيامين نتنياهو»، بالقدرة على تقييد الخدمات الإنسانية المتاحة للفلسطينيين بشكل كبير، ليس فقط من حيث المساعدات المنقذة للحياة في غزة؛ لكن أيضًا في مجال التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية في الضفة الغربية، والأراضي المحتلة الأخرى.
وعليه، رأى «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان»، أن التشريع الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في أكتوبر 2024، والذي دخل حيز التنفيذ في 30 يناير 2025، سيحظر عمليات «الأونروا»، داخل الأراضي التي تحتلها إسرائيل عسكريًا، فضلاً عن حظر أي اتصال بين الحكومة الإسرائيلية والوكالة. وفي المستقبل القريب لن يتطلب هذا إغلاق مقرها في القدس الشرقية فحسب، بل سيترك أسطولها المكون من 7000 شاحنة إمدادات في حالة من عدم اليقين بشأن إمكانية دخولها غزة، وتوزيع الإمدادات الإنسانية العاجلة.
وأضاف «وينتور»، أنه حال نفذت إسرائيل تهديداتها ضدها، فإن هذا «سيكون بمثابة أول إبعاد قسري لوكالة أممية من دولة عضو بالأمم المتحدة». وخلال حديثه أمام «مجلس الأمن»، التابع للأمم المتحدة في 28 يناير، ندد «فيليب لازاريني»، المفوض العام للأونروا بـ«الاعتداء المستمر»، على الوكالة من قبل إسرائيل، والتي اتهمها بـ«تعريضها أي احتمال للسلام والأمن للخطر عمدًا»، فيما اعترض على قرارها المناهض للوكالة قائلاً: إنه «يسخر من القانون الدولي، ويفرض قيودًا هائلة» على تسليم المساعدات الإنسانية، ليس فقط إلى غزة، ولكن إلى الأراضي المحتلة الأخرى أيضًا في لحظة حرجة».
من جانبه، أيّد الأمين العام للأمم المتحدة، «أنطونيو غوتيريش»، تصريحات «لازاريني»، مؤكدًا أن الأونروا تمثل «الوسيلة الرئيسية لتقديم المساعدة الأساسية للاجئين الفلسطينيين»، وأنه لا يمكن أن يكون هناك «بدائل» لها أمام التعسف الإسرائيلي. كما حظيت الوكالة بدعم «جيمس كاريوكي»، نائب المندوب البريطاني لدى الأمم المتحدة، الذي أشاد بـ«العمل الحيوي» الذي تؤديه في توفير الرعاية الصحية والتعليم للفلسطينيين، باعتبارهما من «أهم حقوق الإنسان الأساسية». وشدد «نيكولاس دي ريفيير»، الممثل الدائم لفرنسا لدى الأمم المتحدة، على أنه «ما من بديل ذي مصداقية لها، مضيفًا «أنها تقدم خدمات للفلسطينيين بكلفة أدنى بثلاثة أضعاف من وكالات الأمم المتحدة الأخرى».
وكما حدث طوال فترة حرب إسرائيل واحتلالها لغزة، تم تجاهل اعتراضات كبار مسؤولي الأمم المتحدة وأعضاء آخرين في مجلس الأمن الدولي؛ بسبب تعنت «الولايات المتحدة» المستمر تجاه حماية القانون الدولي الإنساني. وكانت «واشنطن»، في السابق أكبر جهة مانحة للأونروا، إذ موّلت ثلث ميزانيتها السنوية في عام 2023، إلا أن «إدارة بايدن»، جمدت تمويلها في يناير 2024 استجابةً لاتهامات إسرائيل المزعومة ضدها.
ورغم أن العديد من المسؤولين الغربيين أكدوا لاحقًا، أهمية دور «الأونروا» وأعادوا تمويلها، ومن بينهم مفوض الاتحاد الأوروبي لإدارة الأزمات، «يانيز لينارتشيتش»، الذي أوضح في مارس 2024، أن إسرائيل لم تقدم أي دليل يدعم مزاعمها، وأن قيادة الوكالة «اتخذت إجراءات مناسبة وفورية وفعالة»؛ إلا أن واشنطن لم تحذُ حذوهم. ولا يُتوقع أن توافق إدارة ترامب على ذلك، خاصة في ظل الأمر التنفيذي الذي وقّعه الرئيس الأمريكي الجديد في أول يوم من توليه المنصب، والذي علّق فعليًا معظم المساعدات الأمريكية الخارجية -باستثناء إسرائيل- مدة لا تقل عن 90 يومًا، مما أجبر منظمات، مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) على تقليص عملياتها الإنسانية على مستوى العالم.
وفي «الأمم المتحدة»، أعربت «إدارة ترامب»، عن دعمها الكامل لحظر إسرائيل المفروض على الأونروا، معتبرة أن مصداقيتها محل شك؛ بسبب ما تزعم أنه روابط تربط بين موظفيها وحركة حماس. ووصفت القائمة بأعمال الممثل الدائم للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، «دوروثي شيا»، شهادة المفوض العام للأونروا، «فيليب لازاريني»، «مبالغ فيها»، بشأن تأثيرات الحظر الإسرائيلي على استمرار العمليات الإنسانية.
وبالنظر إلى تصريحات «إليز ستيفانيك»، التي اختارها الرئيس ترامب لمنصب سفيرة الولايات المتحدة، لدى الأمم المتحدة، حول أن الحكومة الأمريكية «لا ينبغي أن تخصص أي أموال من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين» لمنظمات تزعم أنها «على صلة بالإرهاب»، فلا عجب أن «شيا»، أكدت دعم إدارة ترامب الكامل لما وصفته بـ«القرار السيادي» لإسرائيل بقطع العلاقات مع وكالات الإغاثة التي تقدم المساعدات للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وفيما يتعلق بتداعيات حظر إسرائيل المفروض على «الأونروا»، في غزة والضفة الغربية وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فقد لاحظ «ماكوفسكي»، كيف أنها في غياب الحكم المدني، «تعمل أكثر كدولة فعلية من كونها وكالة تابعة للأمم المتحدة»، حيث كانت «المزود الرئيسي للخدمات التعليمية والصحية» قبل الحرب، و«كانت العمود الفقري لتوزيع الغذاء»، في ملاجئها خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية. ورغم إشارة «ماكوفسكي»، إلى أن توزيع الغذاء في غزة قد يتم «بإدارة برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة» بدلاً من ذلك؛ إلا أنه أوضح أن هذا البرنامج لا يمكن أن يكون بديلا لها. وحذر «سام روز»، نائب مدير شؤون الوكالة في غزة، من «فجوة ضخمة» في تسليم المساعدات؛ بسبب «عدم وجود أي منظمة أخرى تمتلك الحجم والقدرة للقيام بأعمالنا».
أما في الضفة الغربية، فقد أشار «ماكوفسكي»، إلى توقع إسرائيل أن تنتقل إدارة خدمات الأونروا «آليًا»، إلى «دائرة» اختصاصات السلطة الفلسطينية، لكن دون أي مساعدة أو دعم إضافي. وبالتالي، حذرت صحيفة «الجارديان»، من المخاطر الكبيرة المترتبة على ذلك، حيث سيترك هذا الأمر جميع الأشخاص الذين يعتمدون عليها «دون خدمات تمامًا».
علاوة على ذلك، لا ينبغي تجاهل ما صرح به ممثل إسرائيل لدى الأمم المتحدة من أن حكومته ستقوم «بإنهاء» اتصالاتها مع «الأونروا»، وكذلك مع «أي شخص يعمل نيابة عنها». وعلق «ماكوفسكي»، بأن هذا سيمنعها من العمل تمامًا؛ نظرًا لأن تجديد تأشيرات موظفيها، وتقييد حركة مركباتها، واتفاقياتها الجمركية والمتعلقة باستيراد الأدوية والسلع الغذائية؛ تعتمد على الاتصال مع الهيئات الحكومية الإسرائيلية. وبالتالي، ففي حين أكد «لازاريني»، أمام مجلس الأمن الدولي، أن منظمته «مصممة» على «البقاء وتقديم المساعدات حتى يصبح ذلك مستحيلًا»؛ فإن واقع قطع إسرائيل، الاتصال مع موظفيها وشركائها، يعني أن قدرتها على توفير المساعدات العاجلة، والخدمات الاجتماعية طويلة الأمد للفلسطينيين، ستكون محدودة بشكل كبير.
واختتم «ماكوفسكي» تعليقاته، بالإقرار بأن قوانين الحظر الإسرائيلية المفروضة على الأونروا، وجميع الوكالات التابعة لها؛ «ستكون لها عواقب بعيدة المدى» على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ورغم دعوته إلى «التعاون بين الولايات المتحدة والأمم المتحدة والفاعلين الإقليميين» لسد «الفراغ»، الذي سيخلفه قرار الحظر، فإن سياسات إدارة ترامب -لا سيما داخل الأمم المتحدة - تعكس عدم اكتراثها بالاحتياجات الإنسانية العاجلة للفلسطينيين. وبدلاً من تقديم دعم مستدام للخدمات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، تبدو ولايته الثانية مصحوبة بحملة متسارعة من قبل ائتلاف نتنياهو المتطرف لضم جميع الأراضي المحتلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك