في أولى خطواته الرئاسية وقع الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، سلسلة من الأوامر التنفيذية، شملت الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 للمرة الثانية (الأولى في ولايته السابقة)، وفيما يفتح هذا الباب لانسحاب دول صناعية أخرى، برغم أنها الملوث الأكبر للبيئة، فإنه يُصادر الجهود الدولية المبذولة في عقود للحد من الاحترار المناخي، وإنقاذ العالم من مخاطره، التي أخذت تتجلى مظاهرها في شتى الأنحاء.
ويعكس هذا الانسحاب اعتقاد الرئيس الأمريكي أن الحديث عن المخاطر المناخية مغالى فيه وأنه «خدعة كبرى». وفيما تعد شركات النفط الأمريكية من الأعمدة الرئيسية للاقتصاد الأمريكي، وحققت خلال سنوات قليلة صعودا في إنتاج النفط والغاز، حتى صارت الولايات المتحدة أكبر منتج عالمي لهما، وكانت قد أخذت تتحوط في استثماراتها بسبب الضغوط المناخية؛ فإن هذا الانسحاب يفتح الطريق أمامها لزيادة استثماراتها داخليا وخارجيا في مجال الوقود الأحفوري، خاصة النفط والغاز، فيما انتقدت الصين، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة سياسات «ترامب».
واقترن إعلانه، الانسحاب من اتفاقية باريس بإعلانه حالة الطوارئ في مجال الطاقة على الصعيد الوطني، والعدول عن تدابير مناخية اتخذها سلفه، من بينها التمويل الممنوح لمصادر الطاقة المتجددة، واقتناء مركبات كهربائية، وخلال خطاب القسم قال: «سوف أعلن عن حالة طوارئ وطنية، وسوف نحفر ونحفر يا أحبائي»؛ ما يعني التوسع في مجال الاستكشاف ومن ثمّ، الإنتاج والتصدير. وعليه، قد ينعكس هذا التوجه في سياسة العقوبات الأمريكية تجاه إيران، وروسيا، وفنزويلا، كما أن إعلان حالة الطوارئ في الطاقة، يُظهر نيته في تعزيز الطاقة الأحفورية، ومعاقبة المبادرات المتعلقة بالطاقة المتجددة.
وفي حين أوقف الرئيس السابق «جو بايدن» إصدار تصاريح جديدة لتصدير الغاز المسال؛ ما أدى إلى تضرر سمعة الولايات المتحدة كمورد موثوق للطاقة، وتأثر إمدادات الغاز لحلفاء واشنطن؛ يسعى «ترامب»، إلى تحقيق هيمنة أمريكية على سوق الطاقة، حيث ألغى قرار التجميد الذي فرضه سلفه، إلا أن هذا الإجراء وحده لا يكفي لاستعادة ثقة المشترين الدوليين للغاز الأمريكي. وعليه، يتجه أيضًا إلى إلغاء الضرائب المفروضة على الميثان، وتخفيف القيود البيروقراطية على إنتاج الغاز الطبيعي، ما يعزز الاستثمارات في هذا القطاع. وتأتي هذه الخطوات ضمن خطته لخفض التضخم، إذ يسهم تعزيز الإنتاج في خفض أسعار الكهرباء، وبالتالي تقليل تكاليف السلع المختلفة، ولذلك وجه برفع جميع القيود التي تعيق الاستثمار والإنتاج.
وتخالف سياسة ترامب هذه اتجاه استثمار الطاقة الذي ساد من 2015 حتى 2024، حيث كان العالم قد أخذ يستثمر في الطاقة النظيفة ما يقرب من ضعف ما يستثمره في الوقود الأحفوري (في 2015 كانت استثمارات الوقود الأحفوري نحو 1,3 تريليون دولار، مقابل تريليون دولار للطاقة النظيفة، وفي 2024 بلغت استثمارات الوقود الأحفوري نحو تريليون دولار، مقابل نحو 1,9 تريليون دولار للطاقة النظيفة طبقًا لوكالة الطاقة الدولية)، وكان الاستثمار في الطاقة الشمسية الكهروضوئية قد تجاوز جميع مصادر توليد الطاقة النظيفة الأخرى مجتمعة، وأدى دمج مصادر الطاقة المتجددة، وتطوير البنية التحتية القائمة إلى تعافي الإنفاق على الشبكات والتخزين.
من جانبها، قدرت «وكالة الطاقة الدولية»، تجاوز الاستثمار العالمي في الطاقة 3 تريليونات دولار لأول مرة في عام 2024، استأثرت فيها الطاقة النظيفة بـ2 تريليون دولار، وقد تسارعت وتيرة الاستثمار في الطاقة النظيفة منذ عام 2020، واستأثرت «الصين»، بأكبر حصة من هذه الاستثمارات في 2024، بما يقدر بنحو 675 مليار دولار، في مقابل نحو 370 مليار دولار لأوروبا، و315 مليار دولار للولايات المتحدة، فيما توقع تقرير «الوكالة»، زيادة الاستثمارات العالمية في مجال التنقيب عن النفط والغاز بنسبة 7% في 2024، إلى 570 مليار دولار بعد ارتفاع مماثل في 2023، وقادت شركات النفط الوطنية في الشرق الأوسط وآسيا معظم الاستثمارات.
وفيما يأتي توجه ترامب في مجال الطاقة ضمن سياسته «أمريكا أولاً»، في مسعاه لهيمنة الولايات المتحدة على سوق الطاقة العالمي، كأكبر منتج ومصدر للنفط والغاز الطبيعي؛ فإنه حفز شركات النفط على ولوج فرص الاستثمار في التنقيب والاستكشاف والإنتاج في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالاحتمالات الواعدة. وفي عام 2024، بلغت استثمارات الطاقة في هذه المنطقة 173 مليار دولار، وهيمن الوقود الأحفوري على غالبية الإنفاق، حتى ان كل دولار ينفق فيه قابله 20 سنتا فقط للطاقة المتجددة، وتتزايد فرص هذا الاستثمار مع زيادة الطلب والنمو السكاني والتوسع الصناعي في المنطقة.
وقد قدرت «وحدة أبحاث الطاقة»، بواشنطن، ارتفاع الإنفاق الاستثماري في الطاقة في الشرق الأوسطـ إلى متوسط 200 مليار دولار سنويًا خلال الفترة من 2026 – 2030، وكان متوسطها السنوي 143 مليار دولار بين 2021 – 2023، ويسيطر الإنفاق على الوقود الأحفوري على غالبية استثمارات الطاقة في الشرق الأوسط، الذي يضم 6 من كبار منتجي النفط والغاز في العالم: السعودية والعراق والإمارات وإيران وقطر والكويت.
وتتسع فرص الاستثمار العالمية في الغاز بصورة متسارعة خلال العقود المقبلة برغم الضغوط المناخية، ويبلغ حجم الاستثمار المقدر نحو 9 تريليونات بحلول 2050، ويستحوذ فيه قطاع المنبع (الاستكشاف والإنتاج)، على النسبة الكبرى من استثمارات الغاز العالمية المتوقعة حتى منتصف القرن، بما يعادل 8,2 تريليونات دولار، فيما حفزت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على إعادة التقييم العالمي لأمن الطاقة، في اتجاه أولوية التوسع في مشروعات النفط والغاز، وبعد نقص مزمن ارتفعت استثمارات النفط والغاز العالمية في قطاع المنبع بنسبة 22% إلى 520 مليار دولار في عام 2022، مدفوعة بارتفاع أرباح الشركات النفطية بصورة قياسية.
وكان توسع الاستثمارات أيضًا نتيجة تزايد الطلب العالمي، الذي يصل إلى 5,4 تريليونات متر مكعب بحلول 2050، مقارنة بـ4 تريليونات متر مكعب في 2022، في مقابله يرتفع الإنتاج العالمي بنسبة 33% ليصل إلى 5,3 تريليونات متر مكعب بحلول 2050، مقارنة بـ4 تريليونات متر مكعب في 2022، فيما تبلغ استثمارات الغاز العالمية في استخراج الأصول التقليدية، (أي غير الصخرية) 5,3 تريليونات دولار بحلول 2050، وغير التقليدية 2,8 تريليون دولار.
وبحلول 2050 يحتاج الشرق الأوسط إلى استثمارات في قطاع استكشاف وإنتاج الغاز تصل إلى 1,1 تريليون دولار، لزيادة إنتاجه إلى 1,2 تريليون متر مكعب، وتستحوذ إيران، وقطر، والسعودية، والإمارات على 87% من استثمارات المنبع المطلوبة في قطاع الغاز حتى 2050، فيما تبرز مصر والجزائر في خريطة الاستثمارات المرتقبة في قطاع الغاز حتى 2050.
وفيما تعد الولايات المتحدة أهم دولة مستثمرة في المنطقة العربية في قطاع النفط والغاز، من حيث عدد المشاريع بعدد 85 مشروعا، مثلت نحو 14% من الإجمالي، فإن سياسة ترامب تحفز الشركات الأمريكية على توسيع استثماراتها في المنطقة العربية في هذا المجال. وكشف تقرير «المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات»، أن الدول العربية شرعت في 610 مشروعات بكلفة استثمارية إجمالية بلغت نحو 406 مليارات دولار، نفذتها 356 شركة أجنبية وعربية خلال الفترة من 2003 – 2024، وتركزت مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع النفط والغاز جغرافيًا في الإمارات، ومصر، والعراق، والسعودية، وقطر، واستحوذت هذه الدول الخمس على نحو 64% من عدد المشاريع، و71% من الكلفة الاستثمارية، و68,2% من الوظائف الجديدة، وتتسع هذه الفرص مع استحواذ المنطقة العربية على نحو 41,3 من إجمالي الاحتياطي العالمي النفطي المؤكد، بكمية تصل إلى 704 مليارات برميل، واستحواذها على نسبة 26,8% من إجمالي الاحتياطي العالمي المؤكد في الغاز بـ 58 تريليون متر مكعب.
ويتيح فائض موازنات دول مجلس التعاون الخليجي فرصًا للحكومات لضخ مزيد من الاستثمارات لقطاع النفط والغاز، فيما تتجه شركات النفط الوطنية الخليجية إلى التوسع في استثماراتها الخارجية، حيث أعلنت قطر للطاقة مثلاً انضمامها إلى تحالف التنقيب عن النفط والغاز في لبنان، وتستثمر السعودية بكثافة في زيادة طاقتها الإنتاجية النفطية، بمقدار مليون برميل يوميًا ليصل الإنتاج إلى 13 مليون برميل يوميًا بحلول 2027، وقدرت «أوبك»، احتياجات صناعة النفط العالمية إلى استثمارات بقيمة 14 تريليون دولار بحلول 2045، لتأمين إمدادات كافية تلبي الاحتياجات العالمية، مع توقعاتها بأن الطلب على النفط سيستمر في الارتفاع عالميًا ليصل إلى 116 مليون برميل يوميًا.
على العموم، مع حرص «ترامب»، أن تظل الولايات المتحدة في المكانة التي بلغتها، كأكبر منتج عالمي للنفط والغاز؛ فإنه يسعى في الوقت نفسه إلى هيمنة أمريكية على سوق النفط والغاز العالمي، كأكبر مصدر موثوق، ولهذا فهو يدفع بقوة الاستثمارات في الحفر والتنقيب والإنتاج والتصدير، مع عودة الاستثمارات الأمريكية في مشاريع في أجزاء أخرى من العالم.
وفيما يعزز هذا التوجه مكانة دول الخليج في إنتاج الطاقة التقليدية، فإنه يعزز أيضًا تنافسيتها، حيث يظل الإنتاج فيها هو الأقل كلفة، ما يشكل دافعًا لزيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليها في هذا القطاع، فضلاً عن استثمارات الطاقة المتجددة، التي لها خليجيًا بُعد آخر، هو زيادة نصيبها في مزيج الطاقة، حتى تحول كميات أكبر من النفط والغاز من الاستهلاك المحلي إلى التصدير.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك