إذا ما تطرقنا إلى الحديث عن «اليوم التالي في غزة»، فإننا سنجد أنفسنا أمام واقعين اثنين؛ فمن الناحية الأولى سيكون من السذاجة والمخاطرة أن نثق أكثر من اللازم في وقف إطلاق النار الحالي.
أما من الناحية الثانية، فإن الفشل في إدراك حجم الخسائر البشرية الحقيقية لهذه الحرب ينطوي على كثير من اللامبالاة والخطورة - فهو أكبر بكثير من عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا و/أو أصيبوا بجروح خطيرة على يد القوات الإسرائيلية.
ومما لا شك فيه أن توقف القصف الإسرائيلي على غزة يشكل تطوراً وموضع ترحيب. لقد وفر توقف القصف الإسرائيلي للفلسطينيين الراحة، وفرصة للحزن، وبالنسبة إلى البعض، فرصة لمحاولة التوجه شمالًا، وتقييم الأضرار التي لحقت بأحيائهم التي تعرضت للقصف، والحفر بين الأنقاض للعثور على جثث أفراد الأسرة المفقودين.
كما سمح توقف القصف الإسرائيلي بتدفق كميات كبيرة من المواد الغذائية وإمدادات المساعدات إلى قطاع غزة وبمرور الفلسطينيين المصابين بجروح خطيرة إلى مصر لتلقي العلاج الطبي اللازم.
كانت هذه هي الأخبار الجيدة عن التوقف المؤقت للقصف الإسرائيلي. أما الخبر السيئ فهو أن الاتفاق ضعيف، مع عدم وجود آلية لتنفيذه. فقد تضمنت الخطة الأصلية التي قدمها الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن قبل أكثر من ستة أشهر ثلاث مراحل مع موافقة الأطراف على المراحل الثلاث منذ البداية.
وقد ذكرت تقارير الصحافة الإسرائيلية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يؤكد لمؤيديه أنه سيحترم المرحلة الأولى فقط وسيستأنف القصف عندما تنتهي.
وبحسب ما ورد في تلك التقارير الصحفية الإسرائيلية، قد لا يسحب نتنياهو القوات الإسرائيلية من غزة، ولا يسمح بقيام أي حكم فلسطيني في غزة يربط القطاع سياسيا بالضفة الغربية.
لقد اختارت إدارتا كلٍّ من الرئيس السابق جو بايدن وخلفه الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب تجاهل نوايا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إظهار «نجاحهما».
وكان بايدن يقدم الدعم والغطاء لبنيامين نتنياهو منذ بداية الصراع. منذ شهر أكتوبر 2023 وحتى مغادرته البيت الأبيض، دعم بايدن وفريقه أهداف نتنياهو وأطلقوا له العنان.
وعلى الرغم من إصرار بايدن على أنه كان يسعى جاهداً لوقف إطلاق النار مدة نصف عام، هناك دليل واضح على أن إدارته كانت تعلم أن نتنياهو لن يوافق على وقف إطلاق النار، ومع ذلك استمرت في الادعاء علناً بأن إسرائيل تدعم وقف إطلاق النار وأن حماس هي الطرف الذي يمثل عقبة رئيسية.
تستمر التمثيلية مع هذا الاتفاق لأنه على الرغم من أن بايدن كان يعلم أن وقف إطلاق النار ربما يكون محدود المدة، إلا أنه حقق «انتصار العلاقات العامة» قبل انتهاء فترة ولايته.
وقد قدم هذا التوقف الشيء نفسه تقريبا بالنسبة لترامب - وهو عرض مبكر لقدرته على حل المشكلة التي كانت تطارد سلفه. يبدو أن وقف إطلاق النار الذي قد لا يستمر أكثر من بضعة أشهر يهم الإدارة الأمريكية الجديدة.
ما يبدو أنه مهم بالنسبة إلى ترامب هو العرض في الوقت الحالي: صورة فوتوغرافية جيدة وتعزيز في التقييمات. ولا يبدو أنه يهمه إذا لم يستمر وقف إطلاق النار في المستقبل؛ ربما يكون معظم الأمريكيين قد نسوا ذلك بحلول ذلك الوقت.
من المحتمل جدًا ألا يكون لدى هذه الحكومة الإسرائيلية أو أي من خلفائها المحتملين، ولا إدارة ترامب أو أي من خلفائها المحتملين أي مصلحة في التوصل إلى حل عادل للصراع.
وعلى هذا، فحتى لو وضعنا مسألة وقف إطلاق النار جانباً، على الرغم من الخطط الجارية على قدم وساق لتمهيد الطريق نحو السلام، بدءاً بحكومة مؤقتة في غزة، فلا يبدو أن هناك أي قبول حقيقي من جانب الحكومة الإسرائيلية.
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تضغط بدورها على إسرائيل أو رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بهدف حملهما على اتخاذ الخطوات اللازمة لدفع عملية السلام إلى الأمام.
هناك حقيقة أخرى مثيرة للقلق بنفس القدر، وهي أن الحروب لها عواقب تستمر فترة طويلة بعد توقف القنابل عن السقوط. غالبًا ما تكون العواقب غير متوقعة، ويمكن أن تبقى كامنة سنوات مثل الفيروس قبل أن تظهر مجددا وتطفو على السطح.
ولأن القادة الإسرائيليين وداعميهم الأمريكيين لم يفهموا على الإطلاق إنسانية الفلسطينيين، فإنهم لا يستطيعون فهم التأثير طويل المدى الذي أحدثته هذه الحرب الكارثية وستستمر في إحداثه على الناجين الفلسطينيين.
لا شك أن الأرقام التي خلفتها هذه الحرب مذهلة: أكثر من 47.000 شهيد، و116.000 جريح، وما يصل إلى 33.000 من ذوي الإعاقات الدائمة، وما يقدر بنحو 50.000 مفقود ومجهول المصير، و90 في المائة من السكان (حوالي 1.9 مليون) أُجبروا على الانتقال إلى أماكن أخرى وأصبح معظمهم الآن بلا مأوى بسبب تدمير مساكنهم السابقة، وتيتم 34000 طفل من دون أن يبقى أي عضو من أسرهم على قيد الحياة.
وقد قيل لنا إن إزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة في غزة قد يستغرق عقدين من الزمن، ثم سنوات أخرى لإعادة البناء، لكن التئام جراح الحرب التي ستستمر في إصابة الناجين سوف يستغرق وقتًا أطول بكثير.
قد يكون من الممكن وقف إطلاق النار وإنهاء سقوط القنابل، لكن تأثير هذه الحرب المدمرة سيستمر في إحداث خسائر فادحة لأكثر من جيل آخر. سيكون هناك أنواع متعددة من الاضطرابات النفسية مثل الصدمة والقلق والاكتئاب الشديد والعنف الداخلي الذي يؤدي إلى إيذاء النفس أو مهاجمة الآخرين.
ومما يزيد من حدة هذا الألم الصدمة الناتجة عن رؤية الفلسطينيين أنقاض منازلهم وأنقاض ما كانت عليه مجتمعاتهم في السابق. وخلال العقود التي ستستغرقها إزالة الدمار وإعادة بناء منازلهم وحياتهم، إلى أين سيذهب الفلسطينيون؟
ليس الأمر كما لو أن الحكومة الإسرائيلية من المرجح أن تنظر بتعاطف إلى الناجين من حربها. يخشى الفلسطينيون لسبب وجيه أنهم إذا تركوا ما تبقى لهم في فلسطين، فإن القوات الإسرائيلية قد لا تسمح لهم بالعودة.
خلاصة الأمر، لا الولايات المتحدة ولا المسؤولون الإسرائيليون مستعدون لضمان تقديم المشورة والرعاية اللازمة لتضميد جراح هذه الحرب للضحايا، وبالتالي فإن المستقبل غير مؤكد، ولكنه يميل نحو الكآبة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك