في الوقت الذي يتذكر فيه العالم الذكرى «الثمانين»، لمحرقة الهولوكوست، التي ارتكبها النازيون، اقترح الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، حملة تهجير قسرية وتطهير عرقي ضد السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة، كجزء من خطة لإجبارهم على الرحيل؛ إما إلى الأردن أو إلى مصر، مما يمهد الطريق للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، والاستيطان غير القانوني على كافة أراضيهم. وبعد مرور أقل من أسبوع على عودته، أكد نواياه في دعم طموحات التحالف المتطرف، بقيادة «نتنياهو»، لضم الضفة الغربية، وإنكار وجود دولة فلسطينية مستقلة، ومواصلة حرب وتدمير واحتلال غزة.
وعلى مدار الـ15 شهرًا الماضية من تدمير غزة على يد إسرائيل، حيث قُتل أكثر من 47 ألف فلسطيني وشرد أكثر من 90% من السكان المدنيين؛ واصل الخبراء الغربيون والمنظمات الإنسانية والدولية، بما في ذلك «الأمم المتحدة»، البحث في سبل إعادة إعمارها بعد الحرب، وهي العملية التي قد تستغرق عقودًا وتحتاج إلى مليارات الدولارات، وفي هذا السياق، برز سؤال حول كيفية التوصل إلى تسوية سياسية تضمن نشوء حكم مدني طويل الأمد على الأراضي الفلسطينية.
ومع ذلك، فإن هذه الاعتبارات لا تعني شيئًا لدونالد ترامب، الذي بعد تقويضه للهدنة الهشة بين إسرائيل وحماس، أعلن صراحة دعمه لتهجير الفلسطينيين من غزة، كوسيلة لـ«الاستيلاء» على الأراضي، في خطوة تهدف إلى تمكين إسرائيل من فرض سيطرتها الدائمة عليها.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية حاولت التقليل من جدية اقتراحه، حيث أكد «أليس كودي»، و«جون دونيسون»، من شبكة «بي بي سي»، أن «ترامب»، «لديه تاريخ طويل من التحدث بشكل عفوي وطرح أفكار لا تنتهي إلى نتائج»، كما أدان العديد من الأكاديميين والخبراء فكرة تهجير ملايين المدنيين قسرًا من أراضيهم إلى دول الجوار. وأشار «ها هيلير»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، إلى أن مثل هذا الإجراء يعتبر «تطهيرا عرقيا»، وبالتالي، سيجعل الولايات المتحدة متواطئة مباشرة في جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية.
وفي 26 يناير، وعلى متن طائرة الرئاسة الأمريكية «إير فورس وان»، وصف «ترامب»، حالة قطاع غزة بعد 15 شهرًا من الحرب والتدمير والاعتداءات الإسرائيلية، بأنها باتت «موقعا ضخما لأعمال الهدم»، مضيفا، اقترح أن «نقوم بإخلاء هذا المكان»، من «ربما مليون ونصف المليون فلسطيني»، الذين لا يزالون محاصرين، مؤكدا أنه «تحدث بالفعل مع ملك الأردن، وأخبره أنه «يحب» أن تستقبل بلاده، وكذلك مصر «مزيدًا» من اللاجئين الفلسطينيين من غزة، وتحدث عن إمكانية القيام بهذا الترحيل القسري للفلسطينيين؛ إما «مؤقتًا»، أو «طويل الأجل»، من دون أن يقدم أي تفاصيل بشأن معايير هذا الأمر.
وقد قوبلت تصريحات «ترامب»، بإدانة فورية من قبل خبراء حقوق الإنسان، والأكاديميين، والمتخصصين في شؤون المنطقة، الذين شبّهوا هذه التصريحات، بنوايا ارتكاب جريمة التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، وهي جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية وفقًا للاتفاقيات الدولية، بما في ذلك النظام الأساسي لمحكمة روما، وميثاق الأمم المتحدة، واتفاقية جنيف.
من جانبه، أثار «عمر شاكر»، من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، مسألة كيف يمكن أن يصل الأمر إلى حد الإبعاد القسري للفلسطينيين من أراضيهم «على نطاق أوسع مما رأيناه حتى الآن»، كما وصف «عمر شاتز»، من «معهد باريس للعلوم السياسية»، تعليقات «ترامب»، بأنها «دعوة إلى التطهير العرقي» في غزة، مضيفًا، «نحن نشهد استمرارًا طبيعيا وخطيرًا للغاية لدعوات التهجير غير الإنسانية، والإبادة الجماعية التي رأيناها من أكثر الأصوات تطرفًا داخل إسرائيل».
أما بالنسبة للدعم الذي أعلنه وزير المالية الإسرائيلي المتطرف «بتسلئيل سموتريتش» لاقتراح ترامب؛ فقد اعتبر أن «التفكير خارج الصندوق وفرض حلول جديدة» هو ما سيحقق «السلام والأمن» لإسرائيل. وفي المقابل، ردّت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، «فرانشيسكا ألبانيزي»، مؤكدة أن «التطهير العرقي ليس تفكيرًا خارج الصندوق، مهما كانت الطريقة التي يتم تغليفه بها»، مشددة على أنه «غير قانوني، وغير أخلاقي، وغير مسؤول» في النهاية.
وفي «الكونجرس الأمريكي»، وصف أحد الأعضاء البارزين في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، «غريغوري ميكس»، فكرة «الطرد الجماعي»، من غزة، بأنها «غير إنسانية»، و«سخيفة»، مؤكدا ضرورة أن يركز «البيت الأبيض»، بدلاً من ذلك على «التنفيذ الكامل لاتفاق الهدنة الحالي، وعودة الرهائن، وإعادة إعمار غزة». كما أصدر «مجلس العلاقات الأمريكية-الإسلامية»، بيانًا وصف فيه «فكرة» ترامب بالتطهير العرقي لغزة بأنها «أوهام خطيرة ومجنونة»، مشيرا إلى أن «الطريقة الوحيدة لتحقيق السلام العادل والدائم، هي إجبار الحكومة الإسرائيلية على إنهاء احتلالها وقمعها للشعب الفلسطيني».
وعلق «هيلير»، أيضًا أنه «إذا تم إجبار الفلسطينيين على مغادرة جزء من فلسطين»، من قبل إسرائيل «فلن تسمح لهم بالعودة»، ومع الاقتراح الأخير من مبعوث ترامب للشرق الأوسط، «ستيف ويتكوف»، بأن المدنيين الفلسطينيين يمكن نقلهم قسرًا من أراضيهم إلى إندونيسيا –على مسافة تزيد على 8600 كيلومتر– يجب النظر إليه من حيث مدى إصرار «واشنطن»، المتعمد على نقل هؤلاء المدنيين الفلسطينيين، بعيدًا عن فلسطين قدر الإمكان.
وفي حين أن وسائل الإعلام الغربية ترددت في إدانة تصريحاته بشيء من القوة، ولم تحكم عليها على أنها نية واضحة، قابلة للتنفيذ من البيت الأبيض؛ فقد أشارت «فيفيان يي»، و«زولان كانو-يونغز»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أنه «من غير الواضح ما إذا كانت تعليقات ترامب تشير إلى تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين»، بينما تساءلت «فاينانشيال تايمز»، عن كيفية تأثيرها على «تقويض عقود من سياسة واشنطن التي تدعم حل الدولتين»، دون أن تعتبرها اقتراحًا جادًا.
ويُظهر تقييم تصريحاته وأفعاله -سواء قبل وصوله إلى البيت الأبيض أو بعده - أن خطابه الأخير ليس غريبا عن حكومة تبنّت نهجًا واضحًا في دعم ضم الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل بالكامل، في تجاهل صارخ للقانون الدولي، وحقوق الإنسان. وأعلنت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، «إليز ستيفانيك»، تأييدها لضم إسرائيل للضفة الغربية، مستندة إلى معتقدات دينية، معتبرة أن هذه الأرض منحها له الله عز وجل. في حين رفض السفير الأمريكي الجديد لدى إسرائيل، «مايك هاكابي»، وجود دولة فلسطينية مستقلة، مؤكدًا أن الفلسطينيين «كانت لديهم فرصتهم في غزة».
أما ترامب نفسه، الذي برر طرد الفلسطينيين من غزة، استنادًا إلى أن «كل شيء تقريبًا قد دُمّر والناس يموتون هناك»، فلا يمكن تجاهل أيضا أنه قد اقترح مؤخرًا أن الموقع «الرائع» لغزة على الواجهة البحرية للبحر الأبيض المتوسط سيكون موقعًا مثاليًا لمشروعات تطوير عقارية، وهو ما ذكره مرارا صهره «جاريد كوشنر»، في مارس 2024 عن «القيمة الهائلة» لأراضي غزة، بعد تطويرها عقاريا، وعندما «تستولي» إسرائيل على الأراضي من المدنيين الفلسطينيين النازحين.
وكدليل إضافي على نية «إدارة ترامب»، دعم أهداف إسرائيل الإقليمية، وجّه «البنتاجون»، باستئناف شحنات القنابل التي تزن ألفي رطل إلى إسرائيل، كما منح حكومة «نتنياهو»، إعفاءً من قرار تجميد المساعدات الخارجية الأمريكية لمدة 90 يومًا. وعندما سُئل لماذا بدأت الولايات المتحدة في نقل هذه الأسلحة القاتلة إلى إسرائيل، مع العلم أنها ستستخدم ضد المدنيين والبنية التحتية المدنية، أجاب ببساطة: «لأنهم اشتروا هذه الأسلحة».
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية، قد قللت من احتمال أن يجبر «ترامب»، دولًا في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الأردن ومصر، على قبول التهجير القسري للفلسطينيين إلى أراضيهما، فقد أشار المحللون إلى أن هذا السيناريو، سيكون له تأثير مدمر على الاستقرار الإقليمي. وفي ظل وجود حوالي 9 ملايين مهاجر في مصر، وتسجيل «الأمم المتحدة»، وجود 2.4 مليون لاجئ فلسطيني في الأردن؛ حذر «هيلير»، من أن التهجير القسري للفلسطينيين من غزة، إلى هذين البلدين، ستكون «مزعزعة للاستقرار»، ليس على المستوى الداخلي فحسب، بل على المستوى الإقليمي أيضًا.
وفي حين أكدت «سنام فاكيل»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أن تهجير المدنيين الفلسطينيين من أراضيهم، يمثل «خطًا أحمر أساسيًا» للدول العربية. وأشار «جوزيف كراوس»، من وكالة «أسوشييتد برس»، إلى أنه إذا كانت إدارة ترامب مصممة حقًا على تهجير الفلسطينيين من غزة، وإرسالهم إلى الدول العربية المجاورة، فقد تبدأ «واشنطن»، في استخدام «الأدوات الاقتصادية»، مثل الرسوم الجمركية المرتفعة لفرض ضغط مالي، مما قد يكون «مدمرًا اقتصاديًا» للأردن ومصر.
ويثير الاقتراح الذي طرحه «ترامب»، لإعادة توطين ملايين الفلسطينيين في دول أخرى، جدلا واضحا حول كيفية معاملة المدنيين في الضفة الغربية، وغيرها من الأراضي المحتلة بنفس الطريقة في الفترة المقبلة، مما يشكل انتهاكًا واضحًا للقانون الإنساني الدولي. وفي هذا السياق، تساءلت «فاكيل»، عما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة أن تكون وسيطًا وداعمًا لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم».
على العموم، فإن نوايا الإدارة الأمريكية التي يسيطر عليها الجمهوريون، لا يمكن إنكارها، وهي دعم طموحات إسرائيل في السيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية، وتهجير السكان المدنيين الذين يعيشون فيها بالقوة. وكما أشار الخبراء الغربيون، فإن هذه التصريحات لا تشير فقط إلى كونها خطابًا للتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، بل أيضًا إلى نية محددة لإسرائيل للسيطرة الكاملة على غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وجميع الأراضي الأخرى التي يحددها القانون الدولي بأنها أراضي فلسطينية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك