هل ينوي الرئيس الأمريكي الجديد أن يكون ضمانة استمرار التهدئة في قطاع غزة ومنع عدم العودة للتصعيد مرة أخرى؟ الكثيرون يراهنون على أن ترامب سيبذل جهده من أجل الحفاظ على ما بدا إنجازاً له في اليوم الأول لعودته إلى البيت الأبيض، وسيواصل ضغطه على نتنياهو تحديداً من أجل مواصلة الحوار من أجل التهدئة وتمديدها حتى لو تعثرت.
ويبدو مثل هذا الرهان محتملا في ظل سعي ترامب لفرض وجهة نظره بصرف النظر عن حقيقة مواقفه من الصراع ورؤيته لطريقة تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين. بالنسبة إليه الأمر لا يعدو أكثر من موقف تبناه ووعد بتحقيقه خلال دعايته الانتخابية ضمن مناكفاته لخصومه الديمقراطيين الذين نجح في تعريتهم وإظهارهم بأنهم يؤيدون الحرب ولم يفعلوا ولن يفعلوا شيئا من أجل إيقافها في المستقبل، فيما هو المؤيد للحرب ويتبنى مواقف متطرفة ضد الفلسطينيين نجح في فرض وقف للحرب وإنهاء للقتل في المنطقة.
تذكروا منافسته كامالا هاريس التي دخلت السباق الانتخابي قوية واثقة وانتهى بها الأمر مهانة وضعيفة، بعد مواصلتها لبس عباءة جو بايدن التي لم تعد تقنع أو تسر أحداً. فشلت كامالا في تقديم نفسها كمنافس حقيقي لشخص بقوة وحضور وشعبوية ترامب، وفشلت في أن تكون المرأة التي يتوقعها الناس حين تحكم أقوى دولة في العالم. ترامب نجح في محاصرة خصومه الديمقراطيين منطلقاً من غزة التي لا تعني له شيئاً حقيقياً.
خلال مؤتمر صحفي مؤخرا، تغزل ترامب بمناخ غزة والبحر فيها، وقال، إنه يمكن عمل أشياء كثيرة هناك، وهو بذلك يعيد نفس الأسطوانات التي مل الناس في غزة سماعها، لأنها تعزف على نوتة خاطئة تكمن في الادعاء الاقتصادي والمعيشي للأزمة في القطاع الصغير، فيما الأزمة تكمن في الحقوق السياسية التي يرفض الاحتلال الاعتراف بها ويواصل العالم الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة التعامي عنها، وربط الإقرار بها بالتوصل إلى اتفاق بشأنها مع إسرائيل. بالنسبة إلى نتنياهو فإن مناخ غزة الجميل وبحرها الرائع فرص يجب استثمارها من أجل تحسين الحياة في غزة، وهو لا يستطيع أن يقول الكلمة البسيطة، إن على الاحتلال أن يرحل.
عبارة بسيطة تعكس فهماً سليماً للصراع لكن ترامب لا يريد أن يقر بها. بذلك يمكن فهم توجهات ترامب في مرحلته المقبلة التي لن تختلف كثيراً عن توجهاته في فترة ولايته الأولى. الفلسطينيون يستطيعون أن يعيشوا حياة أفضل من جهة اقتصادية، وأي فعل سياسي يجب أن يسعى لتحقيق ذلك ولا يمكن أن تكون غاياته سياسية بحتة. وهو سيواصل العمل على توسيع رؤيته لتحقيق تقارب بين إسرائيل والدول العربية وسيضغط من أجل ذلك. وفيما لا يمكن توقع إلى أين يمكن أن تصل التقاربات المقترحة فإن المؤكد أنها لن تكون بمعزل عن تحريك لو طفيف في الملف الفلسطيني، أو ربما الملفات الفلسطينية، حيث سيتم التعامل مع غزة كملف منفصل بشكل كامل.
ماذا يعني هذا تحديداً؟
يعني أشياء كثيرة. ففيما في السابق كان يتم اقتراح الاعتراف بالدولة الفلسطينية ثمناً للتقارب ولدمج تل أبيب في المنطقة، من اجل حفظ ماء الوجه، سيكون المقترح القادم إعمار غزة. وبذلك يتم الترويج أيضاً للبعد الاقتصادي من أجل تحقيق اختراق سياسي في غير الملف الفلسطيني. فبدلاً من أن يعيش أهل غزة حياة بائسة وبدلا من أن تأخذ عملية إعادة الإعمار سنوات طويلة يمكن تسريعها وبالتالي إسعاف الناس في غزة المنكوبة مقابل أن يتم تسريع التقارب العربي مع إسرائيل وتوسيع تفاهمات واتفاقيات التطبيع لكن لن تكون هناك دولة فلسطينية ولا مبادرة السلام العربية هي المطلب الذي يتم تحصيله مقابل التقارب المقترح، بل هو غزة المستقبل، إسعاف غزة والتخفيف من جراحها. وعلى ما في هذا من تقليل من المطالب والحقوق الفلسطينية فإنه سيعني الكثير لجمهور بعض الدول التي ترى في إنقاذ غزة أيضاً ثمنا مهما من أجل مساعدة غزة المنكوبة.
وترامب الآن في موضع مختلف، فهو بات طرفاً في صراع غزة لأنه ضامن الاتفاق ولأنه الوحيد الذي استطاع أن يفرضه على إسرائيل. صحيح أن تل أبيب بحاجة إلى الاتفاق حتى تعيد كل أسراها أحياء وأمواتا إلا أنها أيضاً ما كانت لتقبل ببعض التفاصيل لولا ضغط ترامب، وعليه فإن الرئيس الأمريكي الجديد هو من سيبلور المواقف والتصورات حول مستقبل غزة.
ثمة مصائر فلسطينية مختلفة الآن. مصير خاص لغزة نتمنى ألا يكون منفصلاً عن مصير الضفة حتى لا يضيع الحلم الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية، ولكن حقيقة الأمر أن العالم لم يعد ينظر للأمور من هذه الزاوية. العالم يتعامل مع قضايا ملحة.
القضية الملحة الآن هي غزة، فبعد توقف الحرب أو التخفيف من حدتها يفكر العالم في تغيير الصور التي تصدر من غزة فبدل الركام لا بد أن نرى البنايات والشوارع والمتنزهات وما إلى ذلك، لذلك فإن أولويات العالم حتى بعض الدول التي تقول بوجوب وجود دولة ووحدة جغرافية وكل هذه الأمور ستجد نفسها تنساق للتيار الجارف الذي توجهه واشنطن. وهذا أيضاً يتوافق مع نظرة نتنياهو ونظرة ترامب من أن الاقتصاد أساس كل شيء. فالسلام الاقتصادي يتحقق إذا تم توفير الطعام مقابل الأمن.
كل هذا مرة أخرى يتوقف على مواقف ترامب ومدى إصراره على مواصلة التدخل في ملف غزة وليس الملف الفلسطيني، ولكن الكارثة الاخطر في كل ذلك هي إعادة طرح مشروع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة الى دول الجوار وخاصة مصر والأردن.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك