تعرضت الدولة الإسلامية منذ بزوغ فجرها لتجربتين، الأولى: عندما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة المنورة، وبدأ في تأسيس الدولة، وتنظيم العلاقات بين المواطنين، ووضع لذلك صحيفة المدينة، التي هي بمثابة الدستور، وهو أول دستور ينظم السلطات ويفصل بينها، وحمى صلى الله عليه وسلم حقوق الأقليات من أهل الكتاب الذين نزلت عليهم كتب سماوية، وحتى الأقليات التي لم ينزل عليها كتب سماوية أمر رسول الًله (صلى الله عليه وسلم) أن نسير فيهم سيرة أهل الكتاب.
لقد أقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الدولة الإسلامية على أسس مكينة من العدل والشورى، ومن أجل حماية الدولة نظم الجيوش لحماية حدودها، وأرسل الولاة إلى البلاد المختلفة ليتولوا تنظيم شؤونها، والدفاع عن أمنها واستقرارها. ولقد سبق الإسلام الدول المتحضرة في هذا العصر، فشكل الدولة الإسلامية، فدولة الخلافة الراشدة قريبة الشبه بالدول المدنية الحديثة. لقد قسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدون الدولة الإسلامية إلى ولايات: فمصر ولاية يرأسها ويقوم بشؤونها عمرو بن العاص، والشام ولاية يتولى شؤونها معاوية بن أبي سفيان، والعراق ولاية يحكمها معاذ بن جبل وهو مسؤول عن إدارة شؤونها.. والخليفة في المدينة المنورة مقر الخلافة يسوس كل هؤلاء الولاة، ويحاسبهم ويعد عليهم أنفاسهم، وترفع إليه ظلامات الرعية، فيفصل فيها، وأجهزة المراقبة في الدولة الإسلامية أدق وأشمل من أجهزة الرقابة في الدول الحديثة في هذا العصر!
والرسول صلى الله عليه سلم جمع بين الرسول والقائد السياسي، وليس هذا بعجيب فنبي الله سليمان (عليه السلام) كان ملكًا حاكما وقائدا، وكان نبي الله داود ملكًا حاكما وقائدا، ولقد سأل بنو إسرائيل الله تعالى أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون في سبيل الله، قال تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلًا منهم والله عليم بالظالمين) البقرة / 246.
حتى مع وجود النبي الذي يتلقى الدعم اللوجستي من الله تعالى لا بد من وجود قائد سياسي يمارس سلطاته المدنية، وهذا يعني أهمية وضرورة وجود الدولة في الإسلام، وأن تكون دولة مدنية بشروط الإسلام، وها هنا تتساقط الدعوة العَلْمانية بفصل الدين عن الحكم والسياسة.
ولقد جمعت دولة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فًي المدينة السلطات الدينية والمدنية في يد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فلما لحق الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالرفيق الأعلى تحولت الدولة إلى خلافة راشدة يقودها الخلفاء الراشدون بنفس شروط دولة الرسول، وللأمة الحرية في إثراء هذه التجربة بما يستجد من شؤون لها علاقة بالحكم وإدارة أمور الرعية، فصار الإجماع من أهل الشورى مصدرًا من مصادر التشريع في غياب نص محكم من القرآن الكريم، وحديث صحيح قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وعندما أطلق الرسول صلى الله وسلم عليه مبدأ الإجماع انطلق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يجتهد في الأمور التي لا يوجد لها حكم في القرآن والسنة الصحيحة، ونعم العبقري الذي لم ير الرسول (صلى الله عليه وسلم) عبقريا يفري فريه!
ومن رحمة الإسلام ورفقه بالأمة أنه فتح لهم أبواب الاستفادة من تجارب الأمم الذين عاصروا الدولة الإسلامية في عصرها الزاهر، فأثروا بذلك فقههم السياسي في الأمور التي يغيب فيها النص الديني.
ونقف مشدوهين ونحن نستمع إلى العقد الاجتماعي الذي عقده خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبوبكر الصديق (رضي الله عنه) حين وقف خطيبًا يبلغهم نهجه في الحكم، قال لهم: (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.. الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه).
وكان الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أكثر الخلفاء اجتهادًا فيما لا نص فيه من كتاب وسَنَة صحيحة، فاجتهد في عام الرمادة عندما اشتد بالناس الحاجة الى الطعام، فعلق عقوبة السرقة لوجود شبهة أن من يسرق، يسرق ليأكل، كما علق نصيب المؤلفة قلوبهم وهو حق أمر به الإسلام، ولكن بسبب أن الإسلام أصبح قويًا وليس في حاجة إلى تأليف قلوب هذه الفئة من المسلمين ضعيفي الإسلام، وإذا ما تطلب الأمر تأليفهم فالحكم موجود من الممكن تطبيقه.
ولعمر بن الخطاب الخليفة الراشد الثاني موقف سياسي يدل على نضجٍ سياسي، فقد كان يسأل الناس، فيقول: ماذا لو ملت برأسي هكذا يقول له سلمان الفارسي: نقومك بسيوفنا هكذا، فقال له عمر: إياي تعني؟ قال: إياك أعني! قال: الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد السيف!
لم يكتف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بأن يكون ديمقراطيًا، بل هو كان يشجع المسلمين على أن يتوجهوا إليه بالنصح والمراجعة، وهو القائل: لو بغلة عثرت بأرض العراق لخشيت أن يسألني الله لِمَ لَمْ تعبد لها الطريق، وهو القائل أيضًا: لو ظلم والٍ من الولاة واحدًا من الرعية كنت أنا الظالم لأني أنا الذي وليت عليه هذا الوالي. نعم، هذا هو الفاروق الذي قال عنه رسول ملك الفرس رستم: حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت.. يا عمر! كلمات قليلة في حروفها لكنها تحمل مضامين عميقة يعجز البيان عن إدراك حقيقتها، قالها رسول رستم عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لما جاء يتفقد أحواله.
هذا هو إسلامنا العظيم.. وهذه هي دولة الخلافة الراشدة التي لم يدخر خلفاء الإسلام وسعًا في إثراء تجربتها، ومحاولة تقديم المثال الذي يقترب من الكمال أو يحاول الاقتراب منه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك