يعتبر الدكتور البحريني الراحل محمد جابر الأنصاري وأحدا من أهم المفكرين العرب المعاصرين الذين أثروا الساحة الفكرية والأدبية بالعديد من الأعمال التي أحدثت نقلة في الفكر البحريني والعربي المعاصر، وهو أديب ومفكر وأكاديمي، ويُعد من أبرز العقول التي حاولت فهم «العقل العربي» وتحليل تناقضاته بأسلوب واقعي توفيقي، وعُرف بكتاباته حول الفكر السياسي العربي والأزمة الثقافية العربية ونقده للموروث الثقافي والسياسي بطريقة عقلانية ومتزنة، هذا النهج الذي انتهجه الأنصاري في جميع أعماله الأدبية والفكرية وحتى السياسية كان هدفه جمع التوافقات ونبذ المتفرقات بما يسمى النزعة التوفيقية، هي توجه فكري وسياسي يؤمن بضرورة التوفيق بين المتناقضات داخل الواقع العربي.
تتمحور الفكرة الأساسية للنزعة التوفيقية عند الأنصاري بإن العالم العربي يعيش صراعا بين التراث والحداثة وبين الدين والعلم وبين الأصالة والمعاصرة، فمن ينحاز للتراث يصطدم مع الحداثة ومن يختار الاصالة يحارب المعاصرة وهكذا، من هذا المنطلق رأى الانصاري أنه يمكننا أن نخلق طريقا وسطيا ثالثا، بمعنى آخر نأخذ من تراثنا قيمه العميقة وننفتح على الغرب من دون انبهار أو تبعية.
طبق الانصاري نهج النزعة التوفيقية في أعماله ومؤلفاته مثل كتاب تحولات الفكر والسياسة في الوطن العربي وكتاب الصراع بين الأصولية والتحديث وكذلك في كتاب الفكر العربي وصراعاته الأيديولوجية، ويُلاحظ جلياً أن الأنصاري دائماً ما كان يحاول أن يحلل لماذا العقل العربي لم يستطع أن يحسم كثيرا من القضايا المعاصرة، وكان كثيراً ما يرى أن الانقسام بين التيارات المختلفة هو أكبر عائق للتقدم، ويقترح وضع حلول وسط بين الجمود والفوضى الفكرية، وكان يؤمن بأن الحل ليس بالصراع بل إن المطلوب هو بناء توافقات عقلانية وعملية تحافظ على الاستقرار وتفتح الباب للتحديث، الأنصاري لم يخترع النزعة التوفيقية من فراغ بل استمدها من الواقع العربي المعقد، حيث لاحظ أن مجتمعاتنا العربية مليئة بالتنوع (ديني، مذهبي، عرقي، ثقافي، طبقي)، وإنه إذا لم يحدث توافق فسوف ندخل في صراعات لا نهاية لها، فقام بتحليل التجارب الأوروبية التي مرت بحروب دينية وصراعات ثقافية وعرقية ثم توصلت إلى «عقد اجتماعي» و«دولة مدنية» عبر التوافق وليس الانقلاب أو القطيعة، كما استفاد الانصاري من أفكار المفكرين الإسلاميين العقلانيين مثل ابن خلدون والماوردي الذين تكلموا عن الدولة والحكم والتوازن بدون إقصاء للآخر، كذلك حاول الأنصاري أن يحلل تجارب القومية العربية والشيوعية والإسلام السياسي وحتى التجربة الليبرالية ووجد أن غياب التوافق كان سبب الفشل في معظمها.
أهم ملامح النزعة التوفيقية عند الأنصاري هي الواقعية فهو كان واعيا بحجم التعقيدات ولم يكن حالماً او مثالياً، وكان ينتقد الجميع حتى الذين يتفق معهم أحياناً، كما أنه لا يؤمن بثنائية القطبية «إما أبيض وإما أسود»، وكان دائماً ما يسعى للتجديد والنهضة، ولكن من داخل الثقافة العربية وليس من خارجها، واعتمد على التحليل التاريخي والسياسي العميق وبنى مشروعه الفكري على أساس الواقع وليس على الأيديولوجيا.
ان عالمنا العربي اليوم مازال يعاني من نفس الأسئلة التي كان يطرحها الأنصاري منذ عدة عقود: كيف نكون حداثيين من دون أن نكون مقلدين؟ كيف نتمسك بقيمنا وأصالتنا وموروثنا الفكري والثقافي من دون أن نعيش في الماضي؟ كيف يُمكننا أن نتفق ونتجاوز خلافاتنا وننمو رغم اختلافاتنا السياسية والدينية والفكرية والعرقية وحتى الطبقية؟
الدكتور محمد جابر الأنصاري كان يقول للعرب: أنتم لستم بحاجة إلى حرب بين الماضي والمستقبل بل أنتم بحاجة إلى حوار عقلاني متزن، ان فكر جابر الأنصاري التوافقي هو دعوة إلى العقلانية والاعتدال في ظل واقع عربي حافل بالتناقضات وكان يرى أن التوافق هو مفتاح النجاة وليس الصدام، ولعل هذا النهج بدأ يُطبق لدى بعض الأنظمة العربية التي عانت من تبعات هذا الصراع.
يبقى الفكر النهضوي توفيقياً بالتعريف كونه يبتغي النهوض بأمة لديها تراث عريق تتجذر فيه، وحاضر مأزوم يضغط عليها وترغب في الإفلات منه، فيما تواجه عالماً زاخراً بالوعود ترغب في اللحاق به ما يفرض عليها الجمع بين مكونات ثقافية تنتمي الى أزمنة مختلفة وبيئات مختلفة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك