العدد : ١٧٢٦١ - الخميس ٢٦ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦١ - الخميس ٢٦ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

النزعة التوفيقية في فكر الدكتور محمد جابر الأنصاري

بقلم: عبدالهادي الخلاقي

الأربعاء ٢٥ يونيو ٢٠٢٥ - 02:00

يعتبر‭ ‬الدكتور‭ ‬البحريني‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬وأحدا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬المعاصرين‭ ‬الذين‭ ‬أثروا‭ ‬الساحة‭ ‬الفكرية‭ ‬والأدبية‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬أحدثت‭ ‬نقلة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬البحريني‭ ‬والعربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬وهو‭ ‬أديب‭ ‬ومفكر‭ ‬وأكاديمي،‭ ‬ويُعد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬العقول‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬فهم‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬وتحليل‭ ‬تناقضاته‭ ‬بأسلوب‭ ‬واقعي‭ ‬توفيقي،‭ ‬وعُرف‭ ‬بكتاباته‭ ‬حول‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬والأزمة‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬ونقده‭ ‬للموروث‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬بطريقة‭ ‬عقلانية‭ ‬ومتزنة،‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬الذي‭ ‬انتهجه‭ ‬الأنصاري‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية‭ ‬والفكرية‭ ‬وحتى‭ ‬السياسية‭ ‬كان‭ ‬هدفه‭ ‬جمع‭ ‬التوافقات‭ ‬ونبذ‭ ‬المتفرقات‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬النزعة‭ ‬التوفيقية،‭ ‬هي‭ ‬توجه‭ ‬فكري‭ ‬وسياسي‭ ‬يؤمن‭ ‬بضرورة‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬المتناقضات‭ ‬داخل‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭.‬

تتمحور‭ ‬الفكرة‭ ‬الأساسية‭ ‬للنزعة‭ ‬التوفيقية‭ ‬عند‭ ‬الأنصاري‭ ‬بإن‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬يعيش‭ ‬صراعا‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬والحداثة‭ ‬وبين‭ ‬الدين‭ ‬والعلم‭ ‬وبين‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬فمن‭ ‬ينحاز‭ ‬للتراث‭ ‬يصطدم‭ ‬مع‭ ‬الحداثة‭ ‬ومن‭ ‬يختار‭ ‬الاصالة‭ ‬يحارب‭ ‬المعاصرة‭ ‬وهكذا،‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬رأى‭ ‬الانصاري‭ ‬أنه‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نخلق‭ ‬طريقا‭ ‬وسطيا‭ ‬ثالثا،‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬نأخذ‭ ‬من‭ ‬تراثنا‭ ‬قيمه‭ ‬العميقة‭ ‬وننفتح‭ ‬على‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬انبهار‭ ‬أو‭ ‬تبعية‭.‬

طبق‭ ‬الانصاري‭ ‬نهج‭ ‬النزعة‭ ‬التوفيقية‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬ومؤلفاته‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬تحولات‭ ‬الفكر‭ ‬والسياسة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬وكتاب‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الأصولية‭ ‬والتحديث‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬وصراعاته‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬ويُلاحظ‭ ‬جلياً‭ ‬أن‭ ‬الأنصاري‭ ‬دائماً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يحلل‭ ‬لماذا‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يحسم‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وكان‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الانقسام‭ ‬بين‭ ‬التيارات‭ ‬المختلفة‭ ‬هو‭ ‬أكبر‭ ‬عائق‭ ‬للتقدم،‭ ‬ويقترح‭ ‬وضع‭ ‬حلول‭ ‬وسط‭ ‬بين‭ ‬الجمود‭ ‬والفوضى‭ ‬الفكرية،‭ ‬وكان‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬الحل‭ ‬ليس‭ ‬بالصراع‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المطلوب‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬توافقات‭ ‬عقلانية‭ ‬وعملية‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬الاستقرار‭ ‬وتفتح‭ ‬الباب‭ ‬للتحديث،‭ ‬الأنصاري‭ ‬لم‭ ‬يخترع‭ ‬النزعة‭ ‬التوفيقية‭ ‬من‭ ‬فراغ‭ ‬بل‭ ‬استمدها‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬المعقد،‭ ‬حيث‭ ‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬مليئة‭ ‬بالتنوع‭ (‬ديني،‭ ‬مذهبي،‭ ‬عرقي،‭ ‬ثقافي،‭ ‬طبقي‭)‬،‭ ‬وإنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬توافق‭ ‬فسوف‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬صراعات‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها،‭ ‬فقام‭ ‬بتحليل‭ ‬التجارب‭ ‬الأوروبية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بحروب‭ ‬دينية‭ ‬وصراعات‭ ‬ثقافية‭ ‬وعرقية‭ ‬ثم‭ ‬توصلت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عقد‭ ‬اجتماعي‮»‬‭ ‬و«دولة‭ ‬مدنية‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬التوافق‭ ‬وليس‭ ‬الانقلاب‭ ‬أو‭ ‬القطيعة،‭ ‬كما‭ ‬استفاد‭ ‬الانصاري‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬المفكرين‭ ‬الإسلاميين‭ ‬العقلانيين‭ ‬مثل‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬والماوردي‭ ‬الذين‭ ‬تكلموا‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬والحكم‭ ‬والتوازن‭ ‬بدون‭ ‬إقصاء‭ ‬للآخر،‭ ‬كذلك‭ ‬حاول‭ ‬الأنصاري‭ ‬أن‭ ‬يحلل‭ ‬تجارب‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬والشيوعية‭ ‬والإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬وحتى‭ ‬التجربة‭ ‬الليبرالية‭ ‬ووجد‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬التوافق‭ ‬كان‭ ‬سبب‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬معظمها‭.‬

أهم‭ ‬ملامح‭ ‬النزعة‭ ‬التوفيقية‭ ‬عند‭ ‬الأنصاري‭ ‬هي‭ ‬الواقعية‭ ‬فهو‭ ‬كان‭ ‬واعيا‭ ‬بحجم‭ ‬التعقيدات‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬حالماً‭ ‬او‭ ‬مثالياً،‭ ‬وكان‭ ‬ينتقد‭ ‬الجميع‭ ‬حتى‭ ‬الذين‭ ‬يتفق‭ ‬معهم‭ ‬أحياناً،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بثنائية‭ ‬القطبية‭ ‬‮«‬إما‭ ‬أبيض‭ ‬وإما‭ ‬أسود‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬دائماً‭ ‬ما‭ ‬يسعى‭ ‬للتجديد‭ ‬والنهضة،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬خارجها،‭ ‬واعتمد‭ ‬على‭ ‬التحليل‭ ‬التاريخي‭ ‬والسياسي‭ ‬العميق‭ ‬وبنى‭ ‬مشروعه‭ ‬الفكري‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الواقع‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬الأيديولوجيا‭.‬

ان‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭ ‬مازال‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يطرحها‭ ‬الأنصاري‭ ‬منذ‭ ‬عدة‭ ‬عقود‭: ‬كيف‭ ‬نكون‭ ‬حداثيين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مقلدين؟‭ ‬كيف‭ ‬نتمسك‭ ‬بقيمنا‭ ‬وأصالتنا‭ ‬وموروثنا‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬الماضي؟‭ ‬كيف‭ ‬يُمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتفق‭ ‬ونتجاوز‭ ‬خلافاتنا‭ ‬وننمو‭ ‬رغم‭ ‬اختلافاتنا‭ ‬السياسية‭ ‬والدينية‭ ‬والفكرية‭ ‬والعرقية‭ ‬وحتى‭ ‬الطبقية؟‭ ‬

الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬للعرب‭: ‬أنتم‭ ‬لستم‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والمستقبل‭ ‬بل‭ ‬أنتم‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬حوار‭ ‬عقلاني‭ ‬متزن،‭ ‬ان‭ ‬فكر‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬التوافقي‭ ‬هو‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬العقلانية‭ ‬والاعتدال‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬واقع‭ ‬عربي‭ ‬حافل‭ ‬بالتناقضات‭ ‬وكان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬التوافق‭ ‬هو‭ ‬مفتاح‭ ‬النجاة‭ ‬وليس‭ ‬الصدام،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬بدأ‭ ‬يُطبق‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬عانت‭ ‬من‭ ‬تبعات‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭.‬

يبقى‭ ‬الفكر‭ ‬النهضوي‭ ‬توفيقياً‭ ‬بالتعريف‭ ‬كونه‭ ‬يبتغي‭ ‬النهوض‭ ‬بأمة‭ ‬لديها‭ ‬تراث‭ ‬عريق‭ ‬تتجذر‭ ‬فيه،‭ ‬وحاضر‭ ‬مأزوم‭ ‬يضغط‭ ‬عليها‭ ‬وترغب‭ ‬في‭ ‬الإفلات‭ ‬منه،‭ ‬فيما‭ ‬تواجه‭ ‬عالماً‭ ‬زاخراً‭ ‬بالوعود‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬اللحاق‭ ‬به‭ ‬ما‭ ‬يفرض‭ ‬عليها‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬ثقافية‭ ‬تنتمي‭ ‬الى‭ ‬أزمنة‭ ‬مختلفة‭ ‬وبيئات‭ ‬مختلفة‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا