تعدُّ دول الخليج العربي من الدول التي تعتمد بشكل كبير على النفط كمصدر رئيسي للدخل، غير أن الوضع فرض عليها تقليل الاعتماد على النفط والتوجه نحو التنويع الاقتصادي، وزيادة الاهتمام بالتصنيع والاقتصاد المعرفي كأهداف استراتيجية لتحقيق الاستدامة الاقتصادية والازدهار المجتمعي والمنعة الأمنية. وقد نجحت في هذا المسار بتفاوت.
في هذا السياق، تعد منظومة قياس الأداء أداة حيوية لتقييم مدى هذا النجاح وتأثيره الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والأمني.
منظومة قياس الأداء ليست أرقام منفصلة وانما هي مؤشرات تعبر عن علاقات مترابطة بين عمليات وأفعال وأنشطة وسياسات ورؤى تحكم عملية الإنتاج والتوزيع وتتفاعل معها من جهة، وتعبر عن تأثيرها في الاقتصاد والمجتمع من جهة ثانية. من هنا تأتي أهمية تصميم منظومة قياس الأداء ومؤشراتها بحيث تعبر عن مستويات مختلفة من الأنشطة والنتائج الاقتصادية وتأثيرها النهائي في المجتمع وفي الفكر الناظم لها.
من هذا المنطلق يتطلب تصميم منظومة قياس الأداء استخدام مجموعة من المؤشرات تعبر عن جوانب التنويع الاقتصادي، وعن العوامل المؤثرة في نجاحه ومدى استفادة المجتمع من نتائجه، ويمكن تصنيف هذه المؤشرات في ترتيب هرمي يشمل:
1- المؤشرات الرئيسية: تعبر عن النتائج النهائية للتنويع الاقتصادي مثل مؤشر جيني، ونسبة إسهام القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل النمو الاقتصادي، ومستوى خلق فرص عمل، ومستويات الأجور ومدى تقليص الطبقات المتدنية والمحدودة الدخل، وتقليل معدلات الفقر بأنواعه.
2- المؤشرات الفرعية: تعبر عن المدخلات والعمليات التي تدعم التنويع وتحرك الإنتاج مثل حجم الاستثمارات في القطاعات غير النفطية، وعدد المشاريع الصناعية الجديدة، ومستوى الابتكار والتكنولوجيا، ومدى الانفتاح الفكري الذي تحقق ليدعم نشر القدرات الابتكارية في المجتمع.
المؤشرات الداعمة: تعبر عن الرؤى والسياسات والإجراءات التي تحفز التنويع مثل السياسات الضريبية، والتشريعات الداعمة للاستثمار، وبرامج التدريب والتأهيل، وقوانين سوق العمل ودور غرف التجارة ومنظمات المجتمع المدني في المناقشة والحوار الداعم للتنويع.
بالنسبة إلى دول الخليج، ومن منطلق بناء القدرات الإنتاجية والمعرفية، ينبغي أن يركز التنويع الاقتصادي على تعزيز قطاع التصنيع من خلال تشجيع الاستثمارات في الصناعات التحويلية والتكنولوجية وبدائل الواردات مستفيدين من الإمكانات الكبيرة في هذه الدول والعمق العربي والآسيوي. لكي يكون التنويع مؤثرا في المجتمع، يجب أن يسهم في خلق فرص عمل جديدة لتقليل معدلات البطالة وتحسين مستوى المعيشة على مختلف المستويات. بالإضافة إلى ذلك، يعزز التنويع الاقتصادي من قدرة الدول على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية وتحقيق الاستدامة المالية ومعالجة الدين العام من خلال تحسين الميزان التجاري. كما أن بناء القدرات الإنتاجية والبحثية يدعم أمن المنطقة وسلامتها.
من ضمن الإجراءات والمشاريع التي يمكن تبنيها من قبل دول الخليج نذكر:
1- تكثيف الاستثمارات في القطاعات غير النفطية من خلال تقديم حوافز مالية وضريبية للمستثمرين في هذه القطاعات.
2- تطوير البنية التحتية ورفع قدرتها الاستيعابية لتوفير البيئة المناسبة لنمو الصناعات التحويلية والمعرفية والتكنولوجية.
3- تتمتع دول الخليج بكفاءات بشرية وقوى عاملة محلية عالية المستوى قد تحتاج إلى إعادة تأهيل لتزويدها بالمهارات اللازمة للعمل في القطاعات والصناعات الجديدة، كما حدث في حقب سابقة.
4- ترشيد التشريعات وتبسيط الإجراءات البيروقراطية لتشجيع الاستثمار، يدخل ضمن ذلك إعادة هندسة العمليات واعادة النظر في السياسات التنموية والاستثمارية لإزالة أي معوقات محتملة.
5- استخدام منهجية شاملة لقياس الأداء تتعامل مع قياس النتائج والمخرجات وجودة العمليات والمدخلات بما في ذلك تأثير السياسات الأخرى على إعادة توزيع الثروة الناتجة، كذلك استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي لتحليل المؤشرات وتقديم تقارير دقيقة وشاملة.
النجاح في التنويع يواجه تحديات عدة منها أولا: التحديات المالية، قد تتطلب الاستثمارات في القطاعات غير النفطية موارد مالية كبيرة، مما قد يشكل عبئًا على الميزانيات الحكومية والشركات الخاصة، وخاصة في ظل تقلبات أسعار النفط.
ثانيا: تحديات ثقافية واجتماعية تتعلق بإعادة تأهيل القوى العاملة وتقبل العمل في الصناعات. بعض مواطني دول الخليج لم يعتادوا العمل المهني في الصناعة وبالتالي تحتاج الحكومات إلى بذل جهد توعوي لجعل مثل هذا العمل مقبولا مجتمعيا. ومع التحول نحو التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي سوف تتمكن دول الخليج من تقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية غير الماهرة وتخفيف الضغط على الخدمات وتقليل التحديات الأمنية التي تمثلها العمالة الأجنبية المتزايدة.
ثالثا: عادة ما تعمد الحكومات إلى إجراءات بيروقراطية معقدة قد تعيق تنفيذ المشاريع الجديدة. لذلك يحتاج التنويع إلى مراجعة التشريعات وتبسيط الإجراءات، قد يتطلب ذلك وقتًا وجهدًا كبيرين من الجهات الحكومية. كذلك من الطبيعي أن تحدث مقاومة من الأجهزة الرسمية لمثل هذه التغيرات، لذلك يحتاج الأمر إلى برامج «إدارة التغيير»، تأخذ في الاعتبار المصالح والمخاوف لمختلف مستويات المسؤولين والموظفين والعمالة اليدوية.
رابعا: هناك تحديات تتعلق بتطوير البنى التحتية التكنولوجية والبيئة المؤسسية والقاعدة الفكرية لدعم الابتكار، سوف تتطلب استثمارات كبيرة تساعد في ضمان نجاح التنويع.
خامسا: قد تواجه بعض المشاريع الصناعية تحديات بيئية تتعلق بالتلوث واستهلاك الموارد الطبيعية. تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والاستدامة البيئية قد يكون تحديًا كبيرًا، يحتاج الى وضع تصور خليجي موحد وخصوصا فيما يتعلق بالتلوث والأمن الغذائي.
سادسا: إن السياسات الداعمة للتنويع قد تواجه مقاومة من بعض الجهات السياسية أو الاقتصادية المستفيدة من الوضع القائم، مثل قطاع العقار والقطاع المالي، لذلك من الضروري بذل جهود تفاوضية لضمان تعاون هذه الجهات، واعتماد التدرج في تخفيف الأضرار التي قد تتعرض لها المصالح القائمة.
لقد نجحت بعض دول الخليج في تحقيق مستوى من التنويع مثل الإمارات والسعودية والبحرين، في قطاعات مثل السياحة والطيران والتكنولوجيا والعقارات. لكن هذه النجاحات تتطلب تعزيزا وتوجها نحو التصنيع بشكل أساسي لحماية المنطقة من التغول والعبث الأجنبي. بناء القدرات الصناعية والتكنولوجية القائمة على إنتاج المعرفة محليا هو الضمان لدولنا لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والقدرات الأمنية.
من المهم أن تعمل الحكومات على استمرار قياس تأثير التنويع الاقتصادي على المجتمع وعلى بناء القدرات اللازمة، على أن يشمل ذلك مدى النجاح في معالجة التحديات وتأثيرها في مسيرة التنويع. لقياس ذلك يمكن استخدام مجموعة من الأدوات مثل الاستبانات، والمقابلات، وتحليل البيانات الاقتصادية. يجب أن تشمل هذه الأدوات تقييم مستوى الرضا الوظيفي، وتحليل معدلات البطالة، ودراسة تأثير التنويع على مستوى المعيشة وجودة الحياة وتقليص نسبة الفئات الفقيرة وذات الدخل المحدود.
في الختام، يعد التنويع الاقتصادي هدفًا استراتيجيًا لدول الخليج العربي لتحقيق الاستدامة المالية والاستقلال الاقتصادي. من خلال تطبيق منظومة قياس أداء فعالة، يمكن تقييم تأثير التنويع في التصنيع وخلق فرص العمل وتحسين جودة الحياة بشكل عام مما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي والتقدم المجتمعي.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك