عندما تأسست محكمة الفيلسوف البريطاني برتراند «راسل الأولى» عام 1966 بمبادرة من برتراند راسل والمفكر الفرنسي جان بول سارتر كان هدفها الأساسي أن تكون محكمة للضمير الإنساني لإدانة الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على فيتنام. وقد قبل سارتر رئاستها حينما انعقدت لمحاكمة أمريكا على جرائمها في شرق آسيا وعلق سارتر بشأن هذه المحاكمة قائلا: «إن إدانة قادة ألمانيا النازية من قبل محكمة نورمبرج لم يكن لها قيمة أو معنى إلا لأنها تعني أن أي حكومة ترتكب أفعالاً مستهجنة في المستقبل ستخضع لمحاكمة مماثلة».
ولما قيل لسارتر وقتئذ: «لكن جرائم الحرب قد ارتكبت من كلا الجانبين المتحاربين». رد على الفور قائلا: «إنني أرفض كلية أن أساوي بين أفعال مجموعة من الفلاحين الفقراء الذين تمت مطاردتهم ففرضوا على أنفسهم انضباطا حديديا بين صفوفهم لمقاومة الاستعمار الذي يغزو بلدهم، وأفعال جيش ضخم تدعمه دولة كبرى فائقة التصنيع يبلغ عدد سكانها 200 مليون نسمة!، وأثناء حرب الجزائر، كنت دائما أرفض المساواة بين إرهاب القنابل الذي كان السلاح الوحيد في أيدي الجزائريين لتحرير بلادهم، وتصرفات وتجاوزات جيش قوامه 500 ألف جندي يحتل وطنهم. وحينما تحدث سارتر عن زيارة قام بها إلى غزة قال: «شاهدت الفلسطينيين يعيشون في مدينة كبيرة من المخيمات، شاهدتهم وهم يطردون من أراضيهم التي يعملون فيها والتي ولدوا في رحابها!».
ولما تعين على محكمة «راسل» أن تجيب عن السؤال المحوري: «هل حكومة الولايات المتحدة مذنبة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفيتنامي؟ كيما تصدر حكمها بالإدانة، جاءت إجابة أعضائها قاطعة بالإجماع: «نعم مذنبة». وانتهت المحكمة أثناء نطقها بالحكم على لسان سارتر إلى نتيجة مؤداها «في الحرب الشعبية يستحيل بالطبيعة التمييز بين الجبهة والخط الخلفي، بين المدنيين والمقاتلين، أما فيما يتعلق بمذابح الجيوش الاستعمارية أو الإمبريالية التي تهدف إلى تدمير جزء من مجموعة ما من أجل «ترويع البقية وتدمير المجتمع» فهي تعد بطبيعتها إبادة جماعية» لأنها لكي تحقق هدفها ـعلى حد تعبير سارترـ عليها أن «تزيل المياه من الجرة»، أي تستأصل السكان المدنيين كلهم، وليس فقط مجرد تخويفهم. وفي حديثه عن مقاومة الشعب الفيتنامي ضد الولايات المتحدة يقول سارتر: «علمتنا فيتنام أن مجال الممكن هائل، وأنه لا يجب أن نستسلم».
كان سارتر يعتبر «المقاومة من أجل تحرير الوطن» حربا مشروعة تبيح التضحية بكل غال ونفيس من أجل تحقيق العدالة والتحرر من المستعمر الغاصب رغم علمه بأن حروب المقاومة تنطوي على عمليات فدائية تزهق فيها كثير من الأرواح.
بيد أن سارتر في وقت لاحق اتخذ موقفا متناقضا أثار ضده موجة واسعة من النقد والاستهجان عندما انتقد حكومته في عهد ديجول بسبب امتناعها عن تنفيذ تعهدها لإسرائيل بتزويدها بالسلاح في حرب 67. والواقع أن غالبية مفكري فرنسا بل وأوروبا الذين يدافعون عن حقوق الشعب الفلسطيني وينادون بحل الدولتين لا تجد في خطاباتهم صوتا واحدا يجسر على تناول المشكلة الفلسطينية في واقعيتها ومن زاويتها التاريخية أي بوصفها تتعلق ببلد محتل اغتصبه مستعمر صهيوني غاشم منذ عام 1948 ومن حقه، كغيره من الشعوب الأخرى، أن ينال استقلاله.
ذلك لأن الأوروبيين جلهم ترتعد فرائصهم من تهمة زائفة علقها اليهود على رقابهم اسمها «معاداة السامية»، لذا اكتفوا بالنفخ في بوقة حل الدولتين. لنتخيل معا بلدا مثل فرنسا عندما احتلتها القوات الألمانية عام 1940 وأثناء الكفاح البطولي للفرنسيين ضد المحتل النازي خرجت مثلا أصوات دولية تطالبهم بقبول حل سلمى يقضى بتقسيم فرنسا إلى دولتين هل كان من الممكن للشعب الفرنسي أن يذعن لحل من هذا القبيل؟.
الغريب أن الرئيس الفرنسي حينما شاهد بأم عينيه مآسي الفلسطينيين في منطقة رفح أعلن أنه سيعترف بالدولة الفلسطينية في شهر يونيو، ولما عاد إلى وطنه علق اعترافه هذا على شرطين، أولهما غير ممكن سياسيا قبل إنشاء الدولة وهو أن توافق الدول العربية أولا على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل! والثاني نزع السلاح عن «حماس». ولكن هل بإمكان ماكرون أن يجبر إسرائيل على إيقاف مد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية؟، وعندما هاجمت إسرائيل إيران فوجئ العالم العربي بماكرون يتوعد إيران بأنها إذا هاجمت إسرائيل فإن فرنسا ستتولى حمايتها والدفاع عنها.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي بكلية الآداب - جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك