العدد : ١٧٢٦٠ - الأربعاء ٢٥ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٦٠ - الأربعاء ٢٥ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٩ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

إسرائيل في الحسابات الغربية

بقلم: د. عصام عبدالفتاح {

الأربعاء ٢٥ يونيو ٢٠٢٥ - 02:00

عندما‭ ‬تأسست‭ ‬محكمة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬البريطاني‭ ‬برتراند‭ ‬‮«‬راسل‭ ‬الأولى‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1966‭ ‬بمبادرة‭ ‬من‭ ‬برتراند‭ ‬راسل‭ ‬والمفكر‭ ‬الفرنسي‭ ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ ‬كان‭ ‬هدفها‭ ‬الأساسي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬محكمة‭ ‬للضمير‭ ‬الإنساني‭ ‬لإدانة‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬تشنها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬فيتنام‭. ‬وقد‭ ‬قبل‭ ‬سارتر‭ ‬رئاستها‭ ‬حينما‭ ‬انعقدت‭ ‬لمحاكمة‭ ‬أمريكا‭ ‬على‭ ‬جرائمها‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬وعلق‭ ‬سارتر‭ ‬بشأن‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمة‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬إن‭ ‬إدانة‭ ‬قادة‭ ‬ألمانيا‭ ‬النازية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬محكمة‭ ‬نورمبرج‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬قيمة‭ ‬أو‭ ‬معنى‭ ‬إلا‭ ‬لأنها‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬حكومة‭ ‬ترتكب‭ ‬أفعالاً‭ ‬مستهجنة‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬ستخضع‭ ‬لمحاكمة‭ ‬مماثلة‮»‬‭.‬

ولما‭ ‬قيل‭ ‬لسارتر‭ ‬وقتئذ‭: ‬‮«‬لكن‭ ‬جرائم‭ ‬الحرب‭ ‬قد‭ ‬ارتكبت‭ ‬من‭ ‬كلا‭ ‬الجانبين‭ ‬المتحاربين‮»‬‭. ‬رد‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬إنني‭ ‬أرفض‭ ‬كلية‭ ‬أن‭ ‬أساوي‭ ‬بين‭ ‬أفعال‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الفلاحين‭ ‬الفقراء‭ ‬الذين‭ ‬تمت‭ ‬مطاردتهم‭ ‬ففرضوا‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬انضباطا‭ ‬حديديا‭ ‬بين‭ ‬صفوفهم‭ ‬لمقاومة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الذي‭ ‬يغزو‭ ‬بلدهم،‭ ‬وأفعال‭ ‬جيش‭ ‬ضخم‭ ‬تدعمه‭ ‬دولة‭ ‬كبرى‭ ‬فائقة‭ ‬التصنيع‭ ‬يبلغ‭ ‬عدد‭ ‬سكانها‭ ‬200‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭!‬،‭ ‬وأثناء‭ ‬حرب‭ ‬الجزائر،‭ ‬كنت‭ ‬دائما‭ ‬أرفض‭ ‬المساواة‭ ‬بين‭ ‬إرهاب‭ ‬القنابل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬السلاح‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬الجزائريين‭ ‬لتحرير‭ ‬بلادهم،‭ ‬وتصرفات‭ ‬وتجاوزات‭ ‬جيش‭ ‬قوامه‭ ‬500‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭ ‬يحتل‭ ‬وطنهم‭. ‬وحينما‭ ‬تحدث‭ ‬سارتر‭ ‬عن‭ ‬زيارة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬غزة‭ ‬قال‭: ‬‮«‬شاهدت‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬المخيمات،‭ ‬شاهدتهم‭ ‬وهم‭ ‬يطردون‭ ‬من‭ ‬أراضيهم‭ ‬التي‭ ‬يعملون‭ ‬فيها‭ ‬والتي‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬رحابها‭!‬‮»‬‭.‬

ولما‭ ‬تعين‭ ‬على‭ ‬محكمة‭ ‬‮«‬راسل‮»‬‭ ‬أن‭ ‬تجيب‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬المحوري‭: ‬‮«‬هل‭ ‬حكومة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬مذنبة‭ ‬بارتكاب‭ ‬جريمة‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬ضد‭ ‬الشعب‭ ‬الفيتنامي؟‭ ‬كيما‭ ‬تصدر‭ ‬حكمها‭ ‬بالإدانة،‭ ‬جاءت‭ ‬إجابة‭ ‬أعضائها‭ ‬قاطعة‭ ‬بالإجماع‭: ‬‮«‬نعم‭ ‬مذنبة‮»‬‭. ‬وانتهت‭ ‬المحكمة‭ ‬أثناء‭ ‬نطقها‭ ‬بالحكم‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬سارتر‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬مؤداها‭ ‬‮«‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الشعبية‭ ‬يستحيل‭ ‬بالطبيعة‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الجبهة‭ ‬والخط‭ ‬الخلفي،‭ ‬بين‭ ‬المدنيين‭ ‬والمقاتلين،‭ ‬أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمذابح‭ ‬الجيوش‭ ‬الاستعمارية‭ ‬أو‭ ‬الإمبريالية‭ ‬التي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تدمير‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬‮«‬ترويع‭ ‬البقية‭ ‬وتدمير‭ ‬المجتمع‮»‬‭ ‬فهي‭ ‬تعد‭ ‬بطبيعتها‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية‮»‬‭ ‬لأنها‭ ‬لكي‭ ‬تحقق‭ ‬هدفها‭ ‬ـعلى‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬سارترـ‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تزيل‭ ‬المياه‭ ‬من‭ ‬الجرة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬تستأصل‭ ‬السكان‭ ‬المدنيين‭ ‬كلهم،‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬مجرد‭ ‬تخويفهم‭. ‬وفي‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬مقاومة‭ ‬الشعب‭ ‬الفيتنامي‭ ‬ضد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬يقول‭ ‬سارتر‭: ‬‮«‬علمتنا‭ ‬فيتنام‭ ‬أن‭ ‬مجال‭ ‬الممكن‭ ‬هائل،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نستسلم‮»‬‭.‬

كان‭ ‬سارتر‭ ‬يعتبر‭ ‬‮«‬المقاومة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحرير‭ ‬الوطن‮»‬‭ ‬حربا‭ ‬مشروعة‭ ‬تبيح‭ ‬التضحية‭ ‬بكل‭ ‬غال‭ ‬ونفيس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬المستعمر‭ ‬الغاصب‭ ‬رغم‭ ‬علمه‭ ‬بأن‭ ‬حروب‭ ‬المقاومة‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬عمليات‭ ‬فدائية‭ ‬تزهق‭ ‬فيها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأرواح‭.‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬سارتر‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق‭ ‬اتخذ‭ ‬موقفا‭ ‬متناقضا‭ ‬أثار‭ ‬ضده‭ ‬موجة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬النقد‭ ‬والاستهجان‭ ‬عندما‭ ‬انتقد‭ ‬حكومته‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬ديجول‭ ‬بسبب‭ ‬امتناعها‭ ‬عن‭ ‬تنفيذ‭ ‬تعهدها‭ ‬لإسرائيل‭ ‬بتزويدها‭ ‬بالسلاح‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬67‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬مفكري‭ ‬فرنسا‭ ‬بل‭ ‬وأوروبا‭ ‬الذين‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وينادون‭ ‬بحل‭ ‬الدولتين‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬خطاباتهم‭ ‬صوتا‭ ‬واحدا‭ ‬يجسر‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬المشكلة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬واقعيتها‭ ‬ومن‭ ‬زاويتها‭ ‬التاريخية‭ ‬أي‭ ‬بوصفها‭ ‬تتعلق‭ ‬ببلد‭ ‬محتل‭ ‬اغتصبه‭ ‬مستعمر‭ ‬صهيوني‭ ‬غاشم‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬ومن‭ ‬حقه،‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى،‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬استقلاله‭.‬

‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬الأوروبيين‭ ‬جلهم‭ ‬ترتعد‭ ‬فرائصهم‭ ‬من‭ ‬تهمة‭ ‬زائفة‭ ‬علقها‭ ‬اليهود‭ ‬على‭ ‬رقابهم‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬معاداة‭ ‬السامية‮»‬،‭ ‬لذا‭ ‬اكتفوا‭ ‬بالنفخ‭ ‬في‭ ‬بوقة‭ ‬حل‭ ‬الدولتين‭. ‬لنتخيل‭ ‬معا‭ ‬بلدا‭ ‬مثل‭ ‬فرنسا‭ ‬عندما‭ ‬احتلتها‭ ‬القوات‭ ‬الألمانية‭ ‬عام‭ ‬1940‭ ‬وأثناء‭ ‬الكفاح‭ ‬البطولي‭ ‬للفرنسيين‭ ‬ضد‭ ‬المحتل‭ ‬النازي‭ ‬خرجت‭ ‬مثلا‭ ‬أصوات‭ ‬دولية‭ ‬تطالبهم‭ ‬بقبول‭ ‬حل‭ ‬سلمى‭ ‬يقضى‭ ‬بتقسيم‭ ‬فرنسا‭ ‬إلى‭ ‬دولتين‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬للشعب‭ ‬الفرنسي‭ ‬أن‭ ‬يذعن‭ ‬لحل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل؟‭.‬

الغريب‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬حينما‭ ‬شاهد‭ ‬بأم‭ ‬عينيه‭ ‬مآسي‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬رفح‭ ‬أعلن‭ ‬أنه‭ ‬سيعترف‭ ‬بالدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يونيو،‭ ‬ولما‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬علق‭ ‬اعترافه‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬شرطين،‭ ‬أولهما‭ ‬غير‭ ‬ممكن‭ ‬سياسيا‭ ‬قبل‭ ‬إنشاء‭ ‬الدولة‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬توافق‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬أولا‭ ‬على‭ ‬تطبيع‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭! ‬والثاني‭ ‬نزع‭ ‬السلاح‭ ‬عن‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬بإمكان‭ ‬ماكرون‭ ‬أن‭ ‬يجبر‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬إيقاف‭ ‬مد‭ ‬الاستيطان‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية؟،‭ ‬وعندما‭ ‬هاجمت‭ ‬إسرائيل‭ ‬إيران‭ ‬فوجئ‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بماكرون‭ ‬يتوعد‭ ‬إيران‭ ‬بأنها‭ ‬إذا‭ ‬هاجمت‭ ‬إسرائيل‭ ‬فإن‭ ‬فرنسا‭ ‬ستتولى‭ ‬حمايتها‭ ‬والدفاع‭ ‬عنها‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي‭  ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ - ‬جامعة‭ ‬حلوان

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا