قُبيل تنصيب دونالد ترامب، لفترة رئاسة ثانية يوم 20 يناير 2025، ساد توقع باتخاذه سلسلة من القرارات السياسية السريعة بالمخالفة لسياسات سلفه جو بايدن. وفي أول يوم له في منصبه وقع على 20 أمراً تنفيذياً -أكثر من أي رئيس أمريكي سابق- وفي الأيام التالية وقع على قائمة طويلة من بينها، نشر جنود بطول الحدود الجنوبية لأمريكا، ومراجعة اتفاقيات التجارة القائمة، وإعلان نية فرض رسوم جمركية على الحلفاء والخصوم العالميين على حد سواء، وانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس لتغير المناخ، والسماح باستخراج الوقود الأحفوري من القطب الشمالي، وإيقاف جميع المساعدات الخارجية الأمريكية مدة 90 يومًا.
وعقب أيام قليلة من الاتفاق على وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في غزة، والذي من المأمول أن يُنهي 15 شهرًا من العنف والمعاناة الشديدة للمدنيين الفلسطينيين؛ اتخذ ترامب، وإدارته عدة قرارات مؤيدة لإسرائيل، والتي لا تهدد فقط وقف إطلاق النار؛ لكن أيضا الأمن الإقليمي الأوسع. وفضلًا عن إعادة فرض العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وإعلان مخاوفه من الحفاظ على وقف إطلاق النار، ألغى البيت الأبيض، العقوبات المفروضة على المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين الذين استولوا على الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية بالقوة في انتهاك للقانون الدولي.
وفي هذا الصدد، علقت صحيفة فاينانشال تايمز، أنه عند التمعن في القرارات مجتمعة؛ تبدو وكأنها تؤكد التوقعات أن الإدارة الأمريكية الجديدة، ستكون الأكثر تأييدًا لإسرائيل لعقود من الزمان، وعند إضافة حقيقة اختيار ترامب، لسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، التي أعلنت علنًا اعتقادها بأن لإسرائيل حقًا توراتيًا في الاستيلاء بالقوة على الضفة الغربية بأكملها من الفلسطينيين؛ فقد علق ستان كوكس، في صحيفة ذا نيشن، بتوافر ثقة مطلقة، بين المراقبين، بأن البيت الأبيض، والهيئة التشريعية الأمريكية سيواصلان دعمهما لحرب إسرائيل على غزة، مع نتائج كارثية للفلسطينيين، وللاستقرار الإقليمي بشكل أوسع.
وفي الواقع، لا يمكن إنكار دعم إدارة ترامب الثانية القوي لإسرائيل، خاصة في ظل اختيار المسؤولين الذين تولوا المناصب العليا في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. واستشهد ديفيد هيرست، في موقع ميدل إيست آي، بكيفية تعيينه لـ مايك هاكابي، سفير أمريكا لدى إسرائيل، الذي سبق أن صرح باعتقاده أنه لا يوجد ما يُسمى بالفلسطينيين، بينما تحدث بيت هيجسيث وزير الدفاع عن ضرورة بناء معبد يهودي ثالث على أنقاض المسجد الأقصى، واقترح ستيفن ويتكوف، مبعوثه الرئيسي للسلام في الشرق الأوسط، إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ونقل الفلسطينيين قسراً إلى إندونيسيا.
وفيما يتعلق بترامب نفسه، ندد هيرست، بكيفية توضيح الرئيس الأمريكي بشكل لا لبس فيه عدم اكتراثه على الإطلاق بمصير الفلسطينيين، مشيرا إلى كيف تحدث عندما سأله الصحفيون عن خططه بعد الحرب في غزة، عن القيام بـأشياء رائعة، فيما يتعلق بالعقارات المطلة على الشاطئ التي بنيت في غزة الخاضعة لسيطرة إسرائيل، وركز الثناء على أن الأراضي الفلسطينية تتمتع بأفضل مناخ. كما أن اختيار إليز ستيفانيك، الجمهورية المعتدلة التي تحولت إلى أنصار حركة لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، كسفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة؛ هو اختيار يهدف بوضوح إلى إعاقة مصداقية المنظمة، وخاصة أنها وصفت المنظمة بأنها بؤرة لمعاداة السامية.
ومثلها كمثل هكابي، فإن نوايا ستيفانيك، فيما يتعلق بمستقبل إسرائيل وفلسطين واضحة. ففي جلسة تأكيد تعيينها أمام أعضاء مجلس الشيوخ في الحادي والعشرين من يناير، أيدت علنًا مزاعم المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين بامتلاكهم ما يسمى الحقوق التوراتية، لضم كامل الضفة الغربية من الفلسطينيين. وعندما سألها اليسناتور الديمقراطي، كريس هولين، عما إذا كانت تتفق مع متطرفين، مثل بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، بشأن ضم إسرائيل للضفة الغربية، ردت ببساطة نعم.
وخلال أيامه الأولى في منصبه، تحدث ترامب، عن تقويض اتفاق وقف إطلاق النار بغزة الذي صمد منذ دخوله حيز التنفيذ في 19 يناير 2025. وفي اليوم التالي لتنصيبه، صرح بأنه غير واثق، من أن وقف إطلاق النار المؤقت المتفق عليه في غزة، سيصمد خلال مرحلته الأولى التي تدوم ستة أسابيع، كما حاول أيضًا التنصل من المسؤولية الأمريكية عن نجاحه في الحفاظ على السلام، بالإصرار على أن هذه ليست حربنا، إنها حربهم.
وفي تقييم هيرست، فإن توقف ترامب عن حرب غزة لا يختص إلا بالرهائن الإسرائيليين، وبالتالي بمجرد إعادتهم يمكن لإسرائيل أن تُطلق يدها في غزة أو الضفة الغربية. كما أن حقيقة أن سموتريتش، زعم أنه طالب وحصل على التزام من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، بمعاودة قصف الجيش الإسرائيلي غزة لاستئصال حماس مرة واحدة وإلى الأبد؛ تُنبئ بنوايا الائتلاف اليميني المتطرف، ومع إدارة ترامب التي يقودها ويشغلها مسؤولون مؤيدون لإسرائيل بشكل حاسم، يبدو أن موافقتهم على المزيد من الهجمات العسكرية المدمرة مضمونة.
وبعيدًا عن غزة، كتب هيرست، عن كيف أن أي شخص يُخيل إليه فرضية رعاية ترامب لوقف الحرب التي طالما انتظر الشرق الأوسط انقضاءها؛ يجب عليه النظر فيما ترعاه إدارته بالضفة الغربية. ومع بدء الجيش الإسرائيلي سلسلة من الغارات والهجمات ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة - بالتعاون مع المستوطنين الإسرائيليين الذين نفذوا هجماتهم العنيفة ضد قريتي جينصافوط، والفندق، التي أصيب خلالها 21 فلسطينيًا وإضرام النيران في المنازل والسيارات وتدمير الممتلكات الفلسطينية؛ رأى هيرست، أن الجيش الإسرائيلي يبدو أنه ضغط على زر الإيقاف المؤقت؛ لتدميره لغزة فقط لإطلاق نفس الجحيم على الضفة الغربية.
وفي خضم هذا، ألغت إدارة ترامب، العقوبات التي فرضتها الإدارة السابقة بحق المستوطنين الإسرائيليين غير الشرعيين، الذين نفذوا هجمات إرهابية ضد الفلسطينيين، ما دفع هيرست، إلى استنتاج أن فريق ترامب، يتوافق مع عملية إسرائيل، لتفكيك مخيمات اللاجئين داخل الضفة الغربية؛ استعدادًا للضم.
ومع قرار ترامب، برفع تجميد الحكومة الأمريكية توريد القنابل زنة 2000 رطل إلى إسرائيل، أعرب كوكس، عن أسفه لأنه في ظل قيادة الرئيس الأمريكي المُطلقة؛ سيلتزم دافعو الضرائب الأمريكيون بـسداد فاتورة جرائم الحرب الإسرائيلية. وبالإضافة إلى 3.8 مليارات دولار تتلقاها إسرائيل مباشرة من الولايات المتحدة كتمويل عسكري، تعهدت إدارة بايدن، بأكثر من 18 مليار دولار من الأسلحة والمتفجرات للجيش الإسرائيلي من أكتوبر 2023 إلى يناير 2025.
وعلى الرغم من أن كوكس، سلط الضوء على القوانين واللوائح الأمريكية التي تحظر التحويلات العسكرية إلى الدول المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، استناداً إلى توثيقات من الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان المتعددة؛ إلا أن الواقع كان مختلفاً؛ فقد قدم كل من مكتب اللاجئين التابع للخارجية الأمريكية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، تقارير لكبار المسؤولين في إدارة بايدن، تكشف عن حجب إسرائيل المتعمد للمساعدات الإنسانية، وهو ما يستوجب وقفاً فورياً لجميع عمليات نقل الأسلحة. ومع ذلك -كما أشار كوكس- فإن وزير الخارجية -آنذاك- أنتوني بلينكين، ومسؤولين كبار آخرين تجاهلوا جميع الاعتراضات، ووافقوا على استمرار الصادرات القاتلة.
ومع سيطرة جمهورية على البيت الأبيض والكونجرس بغرفتيه، الشيوخ والنواب؛ رأى أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستضاعف الدعم المادي لجرائم الحرب الإسرائيلية، مع نتيجة مفادها أن عام 2025 قد يتبين أنه أكثر رعبًا بالنسبة إلى المدنيين الفلسطينيين من عام 2024 المروع.
وكان من بين الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب في أول يوم له في منصبه، قرار إعادة فرض العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، مما وفر لإسرائيل وسيلة للتهرب من المساءلة الدولية عن انتهاكاتها الجسيمة ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة والأراضي المحتلة. وجاء هذا القرار رداً على إصدار المحكمة أوامر اعتقال دولية، بحق نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف جالانت، بتهمتي ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.
وفي وقت سابق من يناير 2025، صوت مجلس النواب، الأمريكي على تمرير قانون مكافحة المحكمة غير الشرعية، الذي يفرض قيودًا على أي أفراد ومنظمات -وليس فقط المحكمة الجنائية الدولية- تحقق وتسعى إلى تسليم مواطنين أمريكيين، أو حلفائها بتهمة انتهاكات حقوق الإنسان. وفي محاولة لتخطي تأكيد هذا التشريع في مجلس الشيوخ؛ وقع ترامب، على أمر تنفيذي لإعادة العمل بأمر سابق له لإعلان حالة طوارئ وطنية، ومن ثّم، معاقبة المحكمة للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها. وإبان رئاسته الأولى، قيد هذا الأمر؛ السفر، والحسابات المصرفية الدولية للمدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية -آنذاك- فاتو بنسودا.
ورغم إشارة وكالة رويترز، إلى عدم إعلان عقوبات محددة حتى الآن، ضد المحكمة، أو أي هيئة قانونية دولية أخرى؛ فإن أمر ترامب، من المرجح أن يشكل الأساس لعقوبات مستقبلية. وأوضحت تيس بريدجمان، وريبيكا هاملتون، في موقع جست سكيورتي، أن أي عقوبات تفرضها إدارة ترامب على المحكمة ستُفند بالتأكيد قانونيًا، وإذا مُررت فقد تتراوح من عقوبات رمزية إلى عقوبات ضارة بشكل غير عادي، والتي تعوق قدرة المحكمة على العمل حتى في القضايا التي حظيت بدعم من نواب الكونجرس من الحزبين، مثل الوضع بالسودان، أو أوكرانيا، وأضافت الباحثتان أن المحامين والأكاديميين الأمريكيين سينتقدون مثل هذا الإجراء، مشيرتين إلى أن أي شخص يدعم العمل الذي يقوم به شخص مُعاقب بموجب القانون الأمريكي؛ يعني مجابهته بعقوبات تنفيذية تصل إلى 250 ألف دولار في غرامات مدنية، وما يصل إلى 20 عامًا من السجن.
وفي شرحه لكيفية رد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، على ترامب والولايات المتحدة، استشهد كينيث روث، من جامعة برينستون، بكيفية تجريم المادة 70 من نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية عرقلة، تحقيقات المحكمة، وكذلك محاولات ترهيب مسؤوليها لحرمانهم من إنفاذ العدالة الدولية، وبالتالي، فإن ترامب، سيكون عُرضة لهذه التهمة، في محاولاته المباشرة لحماية نتنياهو، وجالانت من التسليم إلى المحكمة.
وفي توضيحه لكيف مارس المدعي العام الحالي للمحكمة الجنائية كريم خان ضبط النفس، في عدم اتهام بايدن، بعرقلة جهود المحكمة، لتحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب الفلسطينيين؛ رأى روث، أنه إذا فرض ترامب قيودًا اقتصادية وسفرية صارمة على موظفي المحكمة، فإن المدعي العام سوف يرد بقوة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب قد تحد بشدة من سفر ترامب الدولي إلى البلدان الموقعة على نظام روما الأساسي، بما في ذلك المملكة المتحدة، وجميع أعضاء الاتحاد الأوروبي.
ونظرًا إلى ما تضمه إدارة ترامب الثانية من مسؤولين في مناصب بارزة، تبنوا وجهات نظر تتسق ووجهات نظر أكثر أعضاء الحكومة الائتلافية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة؛ فقد أبدى هيرست، أسفه على أن الصهيونية الدينية، لم تعد هامشا غير مقبول، داخل المشهد السياسي الداخلي الإسرائيلي أو الأمريكي، وبالتالي خلص إلى أن ائتلاف نتنياهو محق تمامًا في توقع الولاء الخالص لإدارة ترامب، والتي أخذت تنظر إلى الشرق الأوسط بأكمله من خلال منظور إسرائيل.
ومع تجسيد ذلك في الموافقة على ضم إسرائيل للضفة الغربية بالقوة من الفلسطينيين، إلى جانب استئناف قصف غزة واحتلالها متى أرادت، حذر هيرست من أن سياسات الإدارة الجمهورية الجديدة في البيت الأبيض تمثل وصفة لكارثة. وأشار إلى أن هذه السياسات لا تهدد فقط المدنيين الفلسطينيين الأبرياء الذين ستستمر معاناتهم تحت وطأة الهجمات والاحتلال، بل تشكل أيضاً خطراً على الأمن والاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث تزرع الإجراءات الأمريكية الإسرائيلية الحالية بذوراً لمزيد من الصراع في المستقبل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك